مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

التدين وسؤال الاجتهاد

من المعلوم أن التدين هو طلب التحقق بالقيم الدينية المنزلة، وإذا كانت هذه القيم الربانية مبثوثة فيما شرعه الله سبحانه وسنه من أحكام؛ إذ هي وسائلُ التحقيق، ومظاهرُ التشخيص، وكان الاجتهاد يختص بكونه كل فعل استدلالي يراد به ومنه طلب الأحكام الشرعية التي هي متعلق التدين ومقصده، ومناط استحضار قيمه ومعانيه، أدركنا بيسر الصلة القوية بين التدين والاجتهاد، فلا يتصور تدين دون اجتهاد.

ثم إن هذا الاجتهاد إن كان متعلقه هو الأقوال، سمي الفعل الاستدلالي الذي من جهته تستفاد مدلولات تلك الأقوال تأويلا؛ لأنه ينظر في القول باعتبار ما يؤول إليه من الأحكام والقيم، وإن كان متعلق الاجتهاد هو الأعمال، سمي الفعل الاستدلالي الذي من جهته تستفاد كيفيات العمل وهيآته المشخصة تشغيلا؛ إذ المقصد منه هو تحصيل الاشتغال أو العمل بالأحكام والقيم. أما إذا كان متعلق الاجتهاد هو الأحوال، سمي الفعل الاستدلالي الذي من جهته يتحقق تجديد الأحوال وتجددها تكميلا؛ لأن التحول إنما يكون إلى الأفضل والأكمل.

وعليه فالاجتهاد الذي يتحقق به التدين فعل استدلالي صريح؛ إذ ينطوي على أفعال استدلالية ثلاثة متكاملة وهي:

-التأويل وله تعلق بالأقوال.

-والتشغيل وله تعلق بالأعمال.

-ثم التكميل وله تعلق بالأحوال.

وهذه المراتب الثلاث للاجتهاد لا يمكن بحال تصور فصل بينها أو تضاد، بل هي متلازمة فيما بينها على وجه الاتصال والتكامل، بل إن المرتبة الأقوى تمد التي دونها بأسباب التوجيه والتصحيح؛ فالتأويل دون سند اشتغالي قد يفضي إلى التقويل، وهو التأويل الفاسد، كما أن التشغيل دون مراعاة مقتضيات تحصيل الاتصاف وصلاح الأحوال، قد يفضي إلى نقيضه وهو التعطيل، وهو الحالة التي يفتر فيها الاشتغال أو ينقطع.

إذا كان التدين -كما أشرت إليه في الحلقة السابقة- هو الاجتهاد في طلب التحقق بمعاني الدين وقيمه العليا، فهذا يقتضي منهجيا:

مراعاة الأبعاد الاستدلالية الثلاثة التي يتحدد بها الاجتهاد المقوم للتدين، حيث يتعين أخذها مأخذ الحقائق المتكاملة التي لا انفصال بين مكوناتها وعناصرها، فلا يستغنى في ذلك بالأقوال أو الأدلة مجردةً عن مضامينها العملية، أو بمعزل عن تمثلاتها السلوكية، وسياقاتها الحالية.

أن البت في سنية الأعمال أو شرعيتها -وهو من وظائف الاجتهاد- يستوجب استصحاب الأبعاد الاستدلالية الثلاثة المذكورة، فلا ينفع في هذا البت أو الإفتاء الاقتصار على جامد المناهج القولية، أو راسخ المقولات النظرية، بل السبيل الأقوم إلى تبين سنية الفعل التديني، هو الاحتكام إلى معايير العمل وشواهد الحال، أي –باختصار- تبين نجاعته في تحقيق التدين القويم.

وإذا كان التدين يقتضي القيام بفعل الاجتهاد، وكان هذا الأخير يقتضي استدلالا مخصوصا، والاستدلال عموما هو طلب الدليل، فإن الدليل المنشود في الممارسة الاجتهادية عند المتدين هو الدليل الحي، ومعناه أن المستدل يجد فيه القيم الدينية ماثلة تمام المثول، حاضرة فيه وعنده تمام الحضور، متشخصة فيه تمام التشخص، بحيث إن المتدين لا يجد تكلفا في استحضار المطلوب وتمثله، ومعلوم أن الدليل الحي لا يطلب إلا بفعل استدلالي حي ألا وهو التوجه، فما هي الصلة بين التدين والتوجه؟. ذاك ما سنعرفه فيما يأتي.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق