مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

التدليل الشرعي وسؤال الحجاج -1 –

تختص هذا المقالة بتحديد الإشكال الحِجَاجي في مجال الاستدلال الشرعي حيث سيتبين للناظر كل التبين أن الوعي بالخاصية الحجاجية للاستدلال عند السلف كان أعمق وأرسخ من وعي الخلف… وسنتناول هذه القضايا العامة من خلال المحورين التاليين:

– التدليل الشرعي بين ضيق البرهان واتساع الحجاج.

– التدليل الشرعي: مبادئه وخصائصه الإجمالية.

1- التدليل الشرعي بين ضيق البرهان واتساع الحجاج:

من المعلوم أن التدليل أيا كان ميدانه يتصف بخاصية  الانبناء، والانبناء معناه إجمالا أن المستدل وهو بصدد بناء مجاهيله على معاليمه، أي بناء دليله أو أدلته، ملزم بالانضباط بجملة الأصول التي يتقوم بها مجال التدليل، وهذه الأصول تتصف بكونها معطاة (Données) ومعلومة ومسلمة. فإذن لابد للتدليل من الإنبناء على أصل أو جملة أصول، فضلا عن الإنضباط بجملة من القواعد الاستدلالية.

ولما كانت هذه الأصول أساسا ينبني عليه التدليل، فإنها بموجب ذلك تختص بالأوصاف التالية(1):

أ– الاستقلال، أي أنها مكتفية بنفسها ولا تعلق لها بغيرها، سواء في الوجود أو الأوصاف أو الأفعال.

ب – التقدم، أي أنها سابقة على ما تفرع عليها.

ج-البداهة: أي أنها بينة بنفسها لأنها تنزل منزلة الحقائق الأولية.

وإذا كان الانبناء في جوهره علاقة تتقوم بها ظاهرة التدليل، فإنه يتصف بكونه حقيقة تستوجب الجمع بين صور الأقوال ومضامينها، خاصة إذا كان القول طبيعيا، كما تتقيد بالمقتضيات الخاصة بالمجال التداولي،(2) إضافة إلى كونها تحتمل مراتب متمايزة وغير محصورة(3).

إن مسألة لزوم انبناء التدليل على  أصول معينة، تبدو من المبادئ المنطقية الواضحة والصريحة في مجاري النظر الفقهي الأصولي، أو ليس الفقه كله ممارسة حية للاستدلال المنضبط بأصول الشرع، كما أن مسعى الأصولي يتلخص في النظر في أحوال الاستدلال الفقهي وتحقيق أصوله وقواعده؛ إذ الفقه  في حقيقته تدليلات منبنية على جملة من الأصول، حيث يتولى الأصولي النظر فيها قصد تحديد الوجوه المشروعة والمسموعة من التدليل الفقهي وضبط العلاقات والتلازمات الانبنائية الممكنة بين الأدلة الفقهية والأصول الشرعية(4).

إن هذه القضية تجعلنا نستحضر التلازم الوظيفي بين مصطلحي الدليل والأصل عند الأصوليين(5)، فيقال أدلة الفقه مثلما يقال أصول الفقه، وهذا ليس مستغربا في سياق المعرفة الأصولية نظرا للوظيفة الاستدلالية التي تقوم بها الأصول في النسق الشرعي.

لقد كان الإمام الشاطبي منشغلا تمام الانشغال بهذه القضية، واتجهت عنايته في مطلع الموافقات إلى استشكال مفهوم “أصول الفقه” من خلال تأسيسها على كليات “قطعية” سواء كانت  مبادئ عقلية أم حقائق استقرائية، وحاصل ما استدل به الشاطبي على قطعية الأصول ما يلي:

-“أن الأصل على كل تقدير لابد أن يكون مقطوعا به، لأنه إن كان مظنونا تطرق إليه احتمال الإخلاف، ومثل هذا لا يجعل أصلا في الدين عملا بالاستقراء”(6).

-أن هذه الأصول راجعة إما إلى أصول عقلية أو الاستقراء الكلي من أدلة الشريعة، “وذلك قطعي أيضا، ولا ثالث لهذين إلا المجموع منهما، والمؤلف من القطعيات قطعي، وذلك أصول الفقه”(7).

-لو كانت الأصول ظنية لم تكن راجعة إلى أصل عقلي ولا إلى كلي شرعي، لأن الظن لا يقبل في العقليات ولا يتعلق إلا بالجزئيات(8).

-أن أصول الفقه كأصول الدين في إيجاب القطع واستبعاد الظن، لأن نسبتهما إلى أصل الشريعة واحدة(9).

يشير الشاطبي إلى الوظيفة “الإختبارية” للأصول، إذ بها يتم امتحان الأدلة والنظر في كفايتها الاستدلالية من خلال عرضها على هذه الأصول، وهذا يستلزم عند تحقيق النظر أن تكون مرتبة الأصول أقوى من مرتبة الأدلة، لأنها تقوم مقام الحاكم على هذه الأدلة، حيث يتم اطراحها إذا لم تجر على مقتضاها، “وهذا كاف في اطراح الظنيات من الأصول بإطلاق”(10).

وإذا كانت للأصول وظيفة اختبارية تتمثل في امتحان الأدلة ووزنها بعيارها، فإن الشاطبي أسند لها أيضا وظيفة “إنتاجية”، ومقتضاها أن الأصول التي “لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عونا في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية”(11)، فلابد  في الأصل أن يكون منتجا، وإنتاجيته كامنة في انبناء فروع الفقه عليه، وإلا كان أصلا عقيما أو عاريا باصطلاح الشاطبي، ومن ثم يتحصل “أن كل أصل يضاف إلى الفقه لا ينبني عليه فقه فليس بأصل له”(12).

لكن لئن كان الشاطبي يشترط تحصيل “القطع” في الأصول التي تبنى عليها فروع الفقه، ألا يمكن اعتبار ذلك دعوة مضمرة إلى توظيف مسالك البرهان اليونانية في النظر الفقهي والأصولي، بحيث يكون الشاطبي مجددا لدعوة سلفه الغزالي المنادية بتوظيف موازين المنطق اليوناني في ضبط الفقه؟! ألم يشترط  في الدليل الشرعي لزوم انبنائه على مقدمتين(13)؟

والتحقيق في هذه المسألة أن مجرد اشتراط القطع لا يعد داعيا قويا إلى نسبة  الشاطبي إلى “البرهانية الأرسطية”، فلا يحمل القطع عنده أي مدلول برهاني، إذ هو عبارة عن اليقين المحصل من القضايا الكلية المستفادة بطريق الاستقراء من أدلة الشريعة “؛ إذ العلم بها مستفاد من الاستقراء العام الناظم لأشتات أفرادها حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة عامة ثابتة غير زائلة ولا متبدلة، وحاكمة غير محكوم عليها”(14).

للقطع إذن قيمة منطقية تستمد قوتها من مضمون القضايا الشرعية الكلية، وقد تبين أن الكليات المقصودة عند الشاطبي هي الكليات المقصدية التي يتعلق مضمونها بالغايات الأخلاقية للشريعة(15). بينما القطع البرهاني  لا صلة له بالمضمون أصلا إذ هو عبارة عن القين الحاصل من “صور” القضايا المكونة للإستدلال.

كما أن القطع عند الشاطبي هو قطع متعلق بمضامين الكليات الحاصلة من استقراء مخصوص: إنه الاستقراء المنبني على مبدأ “تضافر الأدلة”، ومقتضاه أن الأدلة الظنية إذا تضافرت على معنى واحد تصير قطعية، أي أن الدليل الظني يصير بمقتضى هذا الإجتماع مفيدا للقطع، يقول الشاطبي مقررا هذا المبدأ المنطقي: “وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة إدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه. فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر المعنوي، بل هو  كالعلم بشجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم، المستفاد من كثرة الوقائع المنقولة عنهما، ومن هذا الطريق ثبت وجوب القواعد الخمس، كالصلاة والزكاة وغيرهما قطعا، وإلا فلو استدل مستدل على وجوب الصلاة بقوله تعالى: “أقيموا الصلاة” أو ما أشبه ذلك، لكان في الاستدلال بمجرده نظر من أوجه، لكن حف بذلك من الأدلة الخارجية والأحكام المترتبة ما صار به فرض الصلاة ضروريا في الدين، لا يشك فيه إلا شاك في أصل الدين. ومن ههنا اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالة الإجماع لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب. وإذا تأملت أدلة كون الإجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة، فهو راجع إلى هذا المساق، لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوق الحصر، وهي مع ذلك مختلفة المساق، لا ترجع إلى باب واحد إلا أنها تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه وإذا تكاثرت على الناظر الأدلة عضد بعضها بعضا، فصارت بمجموعها مفيدة للقطع”(16).

من الواضح أن القطع عند الشاطبي مباين لقطع “المنطقيين”، لأنه متعلق بمضامين القضايا الشرعية الكلية المستفادة بالاستقراء المستند إلى مبدإ “تضافر الأدلة”. أما ما ذكره الشاطبي من أن الدليل الشرعي مبني على مقدمتين(17)، فقد ورد في سياق نفي الاختلاف بين المطالب الشرعية والمطالب العقلية(18)، لا بمعنى موافقة شرائط المنطق الأرسطي، حيث إن انبناء الدليل على مقدمتين إحداهما محققة للمناط وهي نظرية، والأخرى راجعة إلى نفس الحكم الشرعي وهي نقلية يعتبر مسألة “ظاهرة في الشرعيات، نعم وفي اللغويات والعقليات”(19).

ولعل الشاطبي استشعر هذا الربط المتوهم بين تقريره وتنظيرات المناطقة، فبادر إلى نفيه واستبعاده في آخر كتابه، حيث قرر بأوضح عبارة “أن المراد بالمقدمتين ههنا ليس ما رسمه أهل المنطق على وفق  الأشكال المعروفة، ولا على اعتبار التناقض والعكس وغير ذلك، وإن جرى الأمر على وفقها في الحقيقة فلا يستتب جريانه على ذلك الاصطلاح، لأن المراد  تقريب الطريق الموصل إلى المطلوب على أقرب ما يكون وعلى وفق ما جاء في الشريعة، وأقرب الأشكال إلى هذا التقرير ما كان بديهيا في الإنتاج او ما أشبهه من اقتراني أو استثنائي. إلا أن المتحرى فيه إجراؤه على عادة العرب في مخاطباتها ومعهود كلامها، إذ هو أقرب إلى حصول المطلوب على أقرب ما يكون، ولأن التزام الاصطلاحات المنطقية والطرائق المستعملة فيها مبعد عن الوصول إلى المطلوب في الأكثر، لأن الشريعة لم توضع إلا على شرط الأمية ومراعاة علم المنطق في القضايا الشرعية مناف لذلك، فإطلاق لفظ المقدمتين لا يستلزم ذلك الاصطلاح”(20).

يورد الشاطبي قولا للمازري –أحد أعمدة المذهب المالكي- يصب في نفس الإتجاه ويبين أن الدليل قد ينتج ولو بمقدمة واحدة وأن قول  الرسول صلى الله عليه وسلم :”كل مسكر خمر وكل خمر حرام”(21) الذي جاء على رسم أهل المنطق إنما هو أمر اتفاقي فقط ولا يطرد في سائر أدلة الشريعة ولا يستمر في أقيستها، يقول المازري فيما نقل عنه الشاطبي: “ومعظم طرق الأقيسة الفقهية لا يسلك فيها هذا المسلك، ولا يعرف من هذه الجهة. وذلك أنا لو عللنا تحريمه عليه الصلاة والسلام التفاضل في البر بأنه مطعوم كما قال الشافـعي لم نقدر أن نعـرف هذه العلة إلا ببحث وتقسيم، فإذا عرفناها فللشافعي أن يقول حينئذ  كل سفرجل مطعوم، وكل مطعوم ربوي، فتكون النتيجة السفرجل ربوي، قال: ولكن هذا لا يفيد الشافعية فائدة، لأنه إنما عرف هذا وصحة هذه النتيجة بطريقة أخرى، فلما عرفها من تلك الطريقة أراد أن يضع عبارة يعبر بها عن مذهبه، فجاء بها على هذه الصيغة. قال: ولو جاء بها على أي صيغة أراد مما يؤدي منه مراده لم يكن لهذه الصيغة مزية عليها، قال: وإنما نبهنا على ذلك لما ألفينا بعض المتأخرين صنف كتابا أراد أن يرد فيها أصول الفقه لأصول علم المنطق”(22).

    كما يجد الشاطبي أيضا في سلفه أبي الوليد الباجي –النظار المالكي المعروف – سندا يشهد لمقالته ويقوي به رأيه، حيث يرى هذا الأخير أن ما قرره الفلاسفة من لزوم مقدمتين في تحصيل النتيجة مجرد زعم باطل، وأن المقدمة الواحدة قد تنتج(23). وتفصيل هذا الرأي مثبت بكامله في كتابه “احكام الفصول” حيث جاء فيه: “وقد زعمت الفلاسفة أن القياس لا يتم ولا يصح في مقدمة واحدة، ولا يكون عنها نتيجة، وإنما ينبني القياس في مقدمتين فصاعدا، إحداهما قول القائل: كل حي قادر، والثانية كل قادر فاعل، والمقدمة عندهم مقال موجب شيئا لشيء أو سالب شيئا عن شيء، فالموجب كقولنا: كل حي قادر، والسالب كقولنا كل حي ليس بميت. وهذا ليس من القياس بسبيل، ولا له به تعلق، وذلك أننا قد بينا أن القياس عند  أهل النظر، وفي مقتضى اللغة إنما هو: حمل أمر معلوم على أمر بوجه يجمع بينهما فيه ويسوي بينهما في الحكم لأجله، وقد دللنا على ذلك وإذا كان ذلك وجب أن يكون ما قالوه ليس من القياس بشيء، وإنما هو ضم قول إلى قول يقتضي أمرا من الأمور هو موجب ضم القولين ومقتضاه من غير حمل شيء على شيء، ولا قياسه عليه، وما سموه نتيجة، فإنما هو موجب ضم أحد القولين إلى الآخر، ومما يبين ذلك: اتفاقنا نحن وهم على أن قولنا: زيد حي يقتضي أنه ليس بميت، وينتج منه سلب الموت عنه، ومع ذلك فليس بقياس، وكذلك قولنا: زيد عالم، ينتج منه نفي الجهل عنه، وليس بقياس. ومما يدل على ذلك أنه قد تنتج لنا القسمة الصحيحة للأمر العام شيئا معلوما من غير أن تكون القسمة المنتجة من مقدماتهم، ولا معدودة في مقاييسهم، وذلك أننا إذا قلنا: الموجود قسمان: قديم، علم كل سامع أن القسم الآخر ليس بقديم، ونتج هذا من جهة القسمة وتحديد أحد القسمين، وهذا يبين فساد ما ذهبوا إليه، ولكن قد نشأ أغمار وأحداث جهال عدلوا عن قراءة الشرائع وأحكام الكتاب والسنن إلى قراءة الجهالات من المنطق واعتقدوا صحتها، وعدلوا عن متضمنها دون أن يقرأوا أقوال خصومهم من أهل الشرائع الذين أحكموا هذا الباب”(24).

وإذ وضحت حقيقة مسلك الشاطبي، وبانت أيضا حقيقة موقفهم من “المنطق” و “منهج المنطقيين”، ألا يحق لنا أن نتساءل عن الأسس التي قام عليها موقفه التقويمي القاضي بأنه “لا احتياج  إلى ضوابط المنطق في تحصيل المراد في المطالب الشرعية”(25)؟.

إن رد الشاطبي للمنطق اليوناني راجع إلى سبب أصلي يتجلى في كون مبادئه ومقتضياته تخالف أصول ومقتضيات المجال التداولي الشرعي، فالمنطق كما هو معلوم ينتمي إلى منظومة معرفية تباين مقتضيات العلم الشرعي، وهذه المنظومة تتجلى في الفلسفة اليونانية التي بادر الشاطبي إلى اطراحها كلية لانبنائها على أصلين مخالفين للمطلب الشرعي:

أولهما: أن العقل هو أصل كل معرفة ولا شيء سواه.

ثانيهما: أن اليقين مقيد بمقتضى ومعايير العقل المجرد، ولا مدخل لقيم العمل فيه.

فالأصل الأول القاضي باستقلالية العقل وسلطانه في تقرير وإدراك الحقائق مردود، لأن العقل ليس بشارع(26)،  ولا ينظر إلا من وراء الشرع(27). وهنا يقرر الشاطبي المبدأ الشرعي الآتي: “إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية، فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا ويتأخر العقل فيكون تابعا، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل”(28). وبناء على هذا  المبدأ فكل معرفة تستظهر بالعقل على الشرع فهي رد بل باطلة لإخلالها بهذا المبدأ التداولي الشرعي العام.

الأصل الثاني الذي يقضي بضرورة الاقتصار على النظر المجرد وحده في تحصيل اليقين والكشف عن الحقائق مردود هو أيضا، وذلك لإخلاله بالمقتضى العملي للتداول الشرعي والذي يستوجب:

– عدم انكفاف العلم عن العمل بحيث يتعين على المكلف العمل بالمعلوم.

– الاستناد إلى معايير العقل العملي في تحصيل اليقين وليس إلى النظر المجرد وحده.

– كون منفعة العلم في العمل به ومنفعة العمل في طلب الآجل.

ومن هنا ينجلي لنا السر في  إدراج الشاطبي لأربع مقدمات عملية ضمن “المقدمات” “الممهدات” التي افتتح بها مصنفه “الموافقات”.

ففي المقدمة الخامسة نجد “أن كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي”(29).

وفي المقدمة السابعة نجد أن كل علم شرعي لا يقع طلب الشارع له إلا من جهة كونه وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، فهو من حيث النظر الشرعي ليس مقصودا لنفسه، وإنما هو وسيلة إلى العمل والأدلة دلت مجتمعة على أن روح العلم هو العمل(30).

أما المقدمة الثامنة فجاءت مقررة لما سبق، حيث إن “العلم المعتبر شرعا -أعني الذي مدح الله ورسوله أهله على الإطلاق- هو العلم الباعث على العمل الذي يخلي صاحبه جاريا مع هواه كيفما كان، بل هو المقيد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعا أو كرها”(31).

وأخيرا جاءت المقدمة الثانية عشر مقررة للطريق التحصيلي للعلم من جهة دلالته العملية،  فللتحقق بالعلم عمليا لابد من أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام(32)، والشاهد على صحة هذه القاعدة حسب الشاطبي “انك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة اشتهر في قرنه بمثل ذلك. وقلما وجدت فرقة زائغة، ولا أحد مخالف للسنة، إلا وهو مفارق لهذا الوصف. وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم، وبضد ذلك كان العلماء الراسخون كالأئمة الأربعة وأشباههم”(33). والشاطبي في تقريراته هذه ما فتئ يسوق الدليل تلو الدليل، بل الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال السلف ومن ضمنهم إمام المذهب مالك بن أنس رضي الله عنه، الأمر الذي يدل على قطعية المسألة(34).

وتأسيسا على هذا النظر،  يرى الشاطبي أن الاشتغال بالفلسفة وضمنها المعرفة المنطقية وهي ما هي عليه من حال الإيمان  بسلطان العقل المجرد من جهة والفصل بين النظر والعمل،  فيه “خطأ عظيم وانحراف عن الجادة”(35).

إن الفلسفة وعلومها ليست من معهود العرب ولا يليق بالأميين الذين بعث فيهم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بملة سهلة سمحة(36)” طلبُها، بل لا يتعين عليهم طلبها، وحتى لو فرضنا جواز طلبها فإنها تتصف بكونها “صعبة المأخذ وعرة المسلك، بيعدة الملتمس، لا يليق الخطاب بتعلمها كي تتعرف آيات الله ودلائل توحيده للعرب الناشئين في محض الأمية، فكيف وهي مذمومة على ألسنة أهل الشريعة”(37).

إن رد الشاطبي للفلسفة هو في الحقيقة رد للأصول المعرفية التي يقوم عليها المنطق، ألم يقل قديما إن الفلسفة أم العلوم!  وهكذا فالمطلب الشرعى يتعذر الوصول إليه بالطريق المنطقي، ولا تناسبه إلا المسالك الأمية أي الموافقة للجمهور :

ففي باب التصور مثلا يرى الشاطبي أن التصورات في الاستعمال الشرعي ما هي إلا “تقريبات بالألفاظ المترادفة وما قام مقامها من البيانات القريبة”(38) كالبيان القولي والبيان الفعلي من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل ما من شأنه تقريب المعنى إلى المخاطب وتحقيق الانتهاض إلى العمل، أي الامتثال. وهكذا يتضح أن التصور الشرعي مقيد بالاعتبارات التداولية المتمثلة في التزام آليات التقريب والبيان المبنية على عادات المتكلم في الإفهام ومسالك المخاطب في الفهم مع مراعاة الأغراض والمقاصد العملية للتكليف.

لكن نظرية الحد المنطقية وما تقتضيه من تمييزات وتشعيبات يتعذر الإتيان  بتحديد المفاهيم على مقتضاها، لكونها عقيمة وغير مجدية، وعقمها راجع إلى قيامها على أصل فاسد يحصر وظيفة الحد وغايته في الوقوف على ماهية المحدود والكشف عن كنه حقيقته الذاتية . بيد “أن ماهيات الأشياء –حسب الشاطبي- لا يعرفها على الحقيقة إلا باريها، فتسور الإنسان على معرفتها رمي في عماية”(39) ، “إذ الجواهر لها فصول مجهولة، والجواهر عرفت بأمور سلبية، فإن الذاتي الخاص إن علم في غير هذه الماهية لم يكن خاصا، وإن لم يعلم فكان غير ظاهر للحس فهو مجهول، فإن عرف ذلك الخاص بغير ما يخصه فليس بتعريف، والخاص به كالخاص المذكور أولا، فلابد من الرجوع إلى أمور محسوسة أو ظاهرة من طريق أخرى، وذلك لا يفي بتعريف الماهيات. هذا في الجوهر، وأما العرض فإنما يعرف باللوازم، إذ لم يقدر أصحاب هذا العلم على تعريفه بغير ذلك، وأيضا ما ذكر في الجواهر أو غيرها من الذاتيات لا يقوم البرهان على أن ليس ذاتي سواها، وللمنازع أن يطالب بذلك، وليس للحاد أن يقول: لو كان ثم وصف آخر لاطلعت عليه ، إذ كثير من الصفات غير ظاهر، ولا يقال أيضا لو كان ثم ذاتي آخر ما عرفت الماهية دونه، لأنا نقول: إنما تعرف الحقيقة إذا عرف جميع ذاتياتها، فإذا جاز أن يكون ثم ذاتي لم يعرف، حصل الشك في معرفة الماهية، فظهر أن الحدود على ما شرطه أرباب الحدود يتعذر الإتيان بها”(40).

أما في باب التصديق، يرى الشاطبي أن ممارسة التدليل وفق قوانين المنطق وضوابطه، -حيث يتعين في كل دليل الرجوع إلى أقيسة  المناطقة والمشاكلة في نظمهم- أمر متعذر أيضا وحائل دون وصول المستدل إلى المطلوب، بل إن “ذلك متلفة للعقل ومحارة له قبل بلوغ المقصود، وهو بخلاف وضع التعليم، ولأن المطالب الشرعية إنما هي –في عامة الأمر- وقتية، فاللائق بها ما كان في الفهم وقتيا، فلو وضع النظر في الدليل غير وقتي لكان مناقضا لهذه المطالب وهو غير صحيح، وأيضا فإن الإدراكات ليست على فن واحد، ولا هي جارية على التساوي في كل مطلب إلا في الضروريات وما قاربها، فإنها لا تفاوت فيها يعتد به، فلو وضعت الأدلة على غير ذلك لتعذر هذا المطلب، ولكان التكليف خاصا لا عاما أو أدى إلى تكليف ما لا يطاق أو ما فيه حرج، وكلاهما منتف عن الشريعة”(41).

للتدليل الشرعي إذن عند الشاطبي خواص منطقية تجعل “أقيسة المناطقة” وموازينهم الاستدلالية قاصرة عن الوفاء بسعته وغناه:

– فالتدليل مبناه على الوقتية لأن المطالب الشرعية كذلك.

– والتدليل مبناه على المقام الذي يختلف باختلاف أوضاع المكلفين.

– والتدليل غايته العمل بأحكام الشريعة.

وعليه فإن إنشاء الدليل ينبغي أن يكون متناسبا مع المستدل له وطبيعة المآل العملي والتحقيق الفعلي لما يقضي به الدليل، وما شاكل ذلك من الضوابط التداولية التي تحرر العقل من أسره وحيرته، وتفتح الطريق لممارسة استدلالية مكينة وأصيلة تشكل ممارسة السلف خير شاهد عليها، فمن “نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية علم أنهم قصدوا “أيسر” الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين، لكن من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف، بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع في ترتيبه، إذا كان قريب المأخذ، سهل الملتمس”(42).

حاصل القول في هذا المقام أن التدليل في مجال الشرع ينبني على جملة من الأصول والقواعد يتم بمقتضاها اختبار الأدلة وضمان إنتاجيتها في تحصيل المطالب الشرعية، كما تتصف بالقطع المستفاد من طريق الاستقراء المستند إلى مبدإ تضافر الأدلة، الأمر الذي يجعل المنهج الشرعي في الاستدلال مباينا كل المباينة لمناهج المنطقيين التي تبقى عاجزة عن الوفاء بمقاصده العملية ومقتضياته التداولية، فالدليل الموصول بأسباب التداول أولى وآكد وألزم من الدليل المقطوع عن هذه الأسباب.

1- التدليل الشرعي : مبادئه وخصائصه الإجمالية:

1.1- مبادئ التدليل الشرعي:

يقوم التدليل الشرعي على جملة  من المبادئ تشكل  في رأينا “موجهات فلسفية” للنظر الشرعي، بل وموجهات لمنطق الحجاج كما مارسه ونظر له الأصوليون، ومن هذه المبادئ ما يلي:

أ – معقولية الدليل الشرعي:

ومقتضى هذا المبدأ أن الأدلة الشرعية جارية على مقتضى العقول، “بحيث تصدقها العقول الراجحة، وتنقاد لها طائعة أو كارهة، ولا كلام في عناد معاند ولا في تجاهل متعام، وهو المعنى بكونها جارية على مقتضى العقول، لا أن العقول حاكمة عليها ولا محسنة فيها ولا مقبحة(43)“.

وهكذا فجريان الدليل الشرعي على مقتضى العقل معناه أنه يوافق مقتضيات العقل الراجح المنقاد، أي “المفارق للهوى” أو بعبارة  جامعة، إن الأدلة الشرعية معقولة بمعنى أنها لا يتطرق إليها تناقض ولا اختلاف البتة(44)، “لأن من  توهم فيها ذلك فبناء على اتباع هواه”(45)، أي بناء على أمور منافية لمقتضى العقل.

إن للشرع عقلانية مبنية على أساس القول الصادق صدقا دائما وعلى الدليل الصحيح: لأنه يستحيل أن يكون خبر الرسول صلى الله عليه وسلم على خلاف مخبره، أو أن يتطرق الكذب إلى إحدى مقدمات دليله، الشيء الذي يجعل من هذه العقلانية حكما ترجع إليه العقول عند الاختلاف وتهتدي به في موارد الشكوك والظنون والاشتباه(46).

ب- عمومية الدليل الشرعي:

ومقتضاه أن الأصل في الأدلة الشرعية الحمل على العموم والاعتبار الكلي ولو وردت بصيغة الخصوص إلا ما خصه الدليل. وبيان ذلك أن ” المستند إما أن يكون كليا أو جزئيا، فإن كان كليا فهوالمطلوب، وإن كان جزئيا فبحسب النازلة لا بحسب التشريع في الأصل”(47) . وعليه فالدليل الشرعي موضوع على العموم وإن كان مقتضاه يتشخص عند التطبيق، ومن هنا نتبين الأساس الذي بني عليه القياس ، “إذ لا معنى له إلا جعل خاص الصيغة عام الصيغة في المعنى، وهو معنى متفق عليه. ولو لم يكن أخذ الدليل كليا بإطلاق لما ساغ ذلك “(48).

ج- عملية الدليل الشرعي:

وفحوى هذا المبدإ أن “المقصود من وضع الأدلة تنزيل أفعال المكلفين على حسبها “(49)، فالشارع يتقصد من وضع الأدلة الإنهاض إلى العمل وتقويم السلوك، أى “إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا”(50)، بحيث تكون أقواله وأفعاله وأحواله تابعة لوضع الشارع ومأخوذة من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي(51)، وعليه يكون مبنى الاستدلال بمقتضى هذا المبدإ على مراعاة التوجيه والتأثير لا على الالتفات إلى حسن التأليف وإحكام التنسيق(52)، لأن العمل في الاعتبار الشرعي مجزئ عن النظر لاشتماله عليه، واستلزامه له من جهة، ولأن الأدلة الشرعية إنما نصبت لتحقيق حياة الأعمال وزكاة الأخلاق لدى المكلف من جهة أخرى.

يتبع في الجزء الثاني

الهوامش: 


(1) انظر فقه الفلسفة (1)، طه عبد الرحمان، ص262.

(2) يعد مصطلح “المجال التداولي” من المفاهيم الإجرائية التي وضعها الأستاذ طه عبد الرحمان في مطلع العقد السابع من القرن الماضي، وقد حظي بعناية وقبول الباحثين ممن يعني بالتراث وبحقول معرفية اخرى، وذلك لثبوت عظيم نفعه وجليل فائدته.

والمراد بمجال التداول من جهة تعلقه بالتراث هو “محل التواصل والتفاعل بين صانعي التراث”، تجديد المنهج، ص 244. ويتحدد  المجال التداولي بأصول ثلاثة هي : العقيدة واللغة والمعرفة، ” فلا تواصل ولا تفاعل في التراث إلا بالمعرفة المتوسلة باللغة والمبنية على العقيدة.” تجديد المنهج ،ص 246 كما ينضبط كل أصل من هذه الأصول الثلاثة بجملة من القواعد الخاصة، أنظر تفصيل ذلك في كتاب تجديد المنهج في تقويم التراث، خاصة في الفصل الأول من الباب الثالث، ص 243 وما يليها.

(3) انظر اللسان والميزان، طه عبد الرحمان، ص 37.

(4) تأمل تعريف ابن خلدون لعلم أصول الفقه في المقدمة “وهو النظر في الأدلة الشرعية من حيث توخذ منها الأحكام والتكاليف”، المقدمة، ص 424.

(5) إرشاد الفحول، الشوكاني، ص 17 وكذلك شرح تنقيح الفصول، القرافي، ص 15.

(6) الموافقات، 1/21.

(7) نفسه، 1/20.

(8) نفسه، 1/20.

(9) نفسه، 1/20.

(10) الموافقات، 1/22.

(11) نفسه، 1/29.

(12) الموافقات، 1/29.

(13) نفسه، 3/31.

(14) نفسه، 1/54.

(15) انظر الفصل الثالث من الباب الأول.

(16) الموافقات، -1/ 24-25.

(17) من شروط المناطقة في الاستدلال، لزوم اشتمال كل دليل على مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان، قال الغزالي: “والقياس ( القياس المنطقي) لا ينتظم إلا بمقدمتين”، معيار العلم في فن المنطق، ص 41، دار الأندلس، ط 2، 1978 والمقدمتان إحداهما كبرى لها تعلق بالحد الأكبر، والاخرى صغرى لتعلقها بالحد الأصغر، وتلتقي المقدمتان في الحد الأوسط. ومثال ذلك كل مسكر خمر وكل خمر حرام فكل مسكر حرام، فالقضية : كل مسكر خمر مقدمة صغرى، والمسكر هو الحد الأصغر، والقضية كل خمر حرام مقدمة كبرى والحرام هو الحد الأكبر، والخمر هو الحد الأوسط جامع بين هاتين المقدمتين، أنظر معيار العلم، ص 100 ، وإذا كان الدليل عبارة عن مقدمة واحدة، سمي قياس الضمير وإن كان مكونا من اكثر من مقدمتين سمي قياسا مركبا، انظر  الرد على المنطقيين لابن تيمية، ص 168.

(18) انظر تجديد المنهج في تقويم التراث، للأستاذ طه عبد الرحمان، ص 118.

(19) الموافقات، 3/32.

(20) نفسه، 4/249.

(21) أخرجه مسلم والدارقطني.

(22) الموافقات، 4/249-250.

(23) نفسه، 4/251.

(24) إحكام الفصول في أحكام الأصول، ص 458-459.

(25) الموافقات، 4/251.

(26) نفسه، 1/24.

(27) نفسه، 1/25.

(28) الموافقات، 1/61.

(29) الموافقات ، 1/31.

(30) نفسه، 1/41 وما يليها.

(31) نفسه ، 1/47.

(32) نفسه، 1/64.

(33) نفسه، 1/67.

(34) مجمل هذه النقول أوردها الحافظ ابن عبد البر في كتابه “جامع بيان العلم وفضله”، ج 2، من ص 6 إلى ص 26، دار الفكر ( د.ط.ت).

(35) الموافقات، 1/35.

(36) نفسه، 1/38.

(37) نفسه، 1/39.

(38) الموافقات، 1/39.

(39) نفسه، 1/40.

(40) الموافقات، 1/39-40.

(41) الموافقات ، 1/41.

(42) نفسه ، 1/40.

43) الموافقات، 3/20.

(44) نفسه، 3/22.

(45) نفسه، 3/22.

(46) فضلا عما ليس فيه اختلاف ولا اشتباه.

(47) الموافقات، 3/36.

(48) نفسه، 3/37.

(49) نفسه، 3/24.

(50) نفسه، 2/128.

(51) الموافقات، 2/131.

(52) إن ما يلحق الأدلة الطبيعية وضمنها الأدلة الشرعية من اعتلال في البناء الصوري أمر يتم استدراكه ولا تأثير له في القيمة المنطقية لهذه الأدلة، لأن اعتلال الصورة تقومه قوة المضمون العملي لهذه الأدلة.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق