وحدة الإحياءدراسات عامة

التدافع القيمي بين المد العولمي والتأصيل العلمي

 أولا: الثقافة والقيم: أي ترابط؟

تحيل الثقافة إلى: “وسائل الحياة المختلفة، الظاهر منها والضمني كما العقلي واللاعقلي، التي توصل إليها الإنسان عبر التاريخ، والتي توجد في وقت معيّن، وتكوّن وسائل إرشاد توجه سلوك الأفراد في المجتمع”؛ فهي “كيان مركّب من أساليب التفكير والشعور والعمل. وهي أساليب منظّمة، إلى حد أو آخر، يعتنقها ويعمل بموجبها عدد من الأفراد، فتحوّلهم، موضوعياً ورمزياً، إلى جماعة موحّدة ذات خصائص مشتركة[1]“، وهي “ذلك الكل المعقد الذي يشمل المعرفة، والعقيدة، والفن، والأخلاق، والقانون، والعادات، والمواقف، والقيم وكل القدرات التي يكتسبها الإنسان كعضو في جماعة[2].”

وتأسيسا على هذه المعطيات يتضح أن أغلب ما يشكل البعد اللاعضوي، وهو الأهم في الإنسان، يتم اكتسابه بعد الولادة عن طريق التربية والتثقيف، وأن مجاله واسع جدا، يشمل من ضمن ما يشمل القيم التي تعتبر المرتكز الذي يستند إليه السلوك.

القيم هي الأساسات والمبادئ والمرتكزات التي تنظم حياتنا ونتخذ، في ضوئها، قراراتنا           ونستشعرها في سلوكياتنا، ومن ثمة فهي ضرورية للإنسان، مرافقة له في حياته سواء أشعر بها أم لم يستشعرها؛ لأنه قد يسلك بموجبها رغم أنها قد تكون ضمن اللاوعي أو اللاشعور، كما يحدث في الكثير من الحالات العصابية مثل القلق الوسواسي والفوبيا والأعراض التحولية (الهستيريا)…

وهذه القيم هي التي يدخلها كارل بوبر  K. Popperضمن السياق اللامادي في الكيان البشري،     والتي يرى أنها توجد وراء كل تغير مادي في الإنسان. وقد دعا في مشروعه الفكري إلى استيضاح الكيفية التي تعمل بها هذه المنظومة اللامادية، بما فيها القيم، في إحداث تغيرات مادية في الإنسان      ومحيطه: فالناس، في الغالب الأعم لا يستبطنون أفكارهم وإنما يحرصون على تبين كيف يعيشون     وكيف يسلكون في حياتهم اليومية كيف ينشئون أطفالهم وكيف يتخذون مساكنهم…

وهذه كلها أمور تشير إلى سلوكيات الأفراد لا إلى القيم التي تكون وراء هذه السلوكيات، رغم أن هذه القيم هي الأساس في تحديد هذه السلوكيات، بينما هؤلاء الناس أنفسهم قد يدعون بصريح العبارة وعبر منابر متعددة إلى تبني مجموعة من القيم عادة ما يسمونها “منظومة القيم العليا” كالحرية والكرامة والمساواة والأخوة وحقوق الإنسان والمواطنة… رغم أنهم لا يمارسونها. فهناك من يسلك بناء على قيمه دون أن يستحضرها ويعيها كمنطلقات في سلوكياته وهناك من يجمع على أهمية مجموعة من القيم دون أن يتخذها منطلقا لتصرفاته. يتضح مما تقدم:

ـ أن القيم جزء لا يتجزأ من وجود الإنسان؛

ـ أنها رافعة يعتمد عليها في تصرفاته وسلوكياته؛

ـ أنها قابلة للتعديل والتغيير بقصد تغيير التصرفات والسلوكيات والتأثير في الشخصية وإعطائها منحى آخر.

ثانيا: معاينات تكشف عن إستراتيجيا تدويل خصوصيات القيم

 من أهم ما يلفت النظر نسوق العناصر التالية التي دخلت في المألوف لدى العديد من الناس وكأنها مكون ضروري من معيشهم اليومي  الطبيعي L’ Habitus:

ـ اختزال مختلف الثقافات في ثقافة واحدة عن طريق تغيير المنظومات القيمية للمجتمعات والاستعاضة عنها بمنظومة قيم العولمة؛

ـ النرويج لذلك عبر وسائل الإعلام والسينما العالمية والقنوات الفضائية التي دخلت اليوم كل بيت في شكل مناف لقيم المجتمع المغربي كونيا وإسلاميا ووطنيا سعيا إلى تدمير السلوك والقيم عن طريق بث قيم جديدة من مثل المنافسة المتوحشة المدمرة، والتمرد على ما هو أصيل باسم الحداثة، ونشر الإباحية وقتل الكرامة والزهد في تقدير الذات، ونشر سلوكيات شاذة من مثل إلغاء الفرق بين المرأة والرجل لا على أساس النوع الاجتماعي Genre الذي يتم قبوله كمقاربة منهجية للمساواة والإنصاف والحد من دونية المرأة كما كرمها الإسلام، ولكن على أسس أخرى بيولوجية وجنسية، وكذلك قيمة ما يسمى بـ”حرية الجسد” وهو سلوك يمنح المرأة حرية التصرف بجسدها (الحرية الجنسية والتحكم في الحمل وفي جنس الجنين والإجهاض وكل ما يتعلق بالإنجاب والجنس وتشكيل الجسد…) وقد زامن الدعوة إلى هذه القيمة إجراءات مساعدة تدخل ضمن ما يسمى بصناعة الجسد الأنثوي وبنائه، ومنها ترميم البكرة، والاهتمام باللذة الجنسية، والإباحية، والزواج من الجنس الواحد والمخادنة؛

ـ قدرة التحكم الهائلة والسيطرة والإدارة المتطورة في الاقتصاد والسياسة ووسائل الاتصال ومصادر المعرفة ومصادر الأخبار والمعلومات والشركات متعددة الجنسية العابرة للقارات، وترحيل الخدمات… أمور تجعل الغرب الأميركي/الأوروبي، هو مصدر العولمة، وبالتالي مصدر إنتاج القيم المسماة “قيما كونية”، والعمل على نشرها وترسيخها في كل ربوع العالم بعيدا عن مدخل ومنهج المثاقفة؛

ـ تنميط الغرب لقيم المجتمعات التاريخية وخاصة المجتمعات الإسلامية ليجعلها قيما واحدة مشتركة لدى جميع الشعوب. ويمتد هذا التنميط ليمس كل السلوكيات اليومية للفرد بما في ذاك البعد الأنطولوجي للإنسان والعلاقة بين الإنسان والله، والتي من خلالها يرى ذاته ويدرك نفسه ويحدد هويته ويرسم علاقته مع الآخر والكون.

وبهذا التنميط يصير الإنسان مجرد رقم من بين 7 ملايير رقم (هم ساكنة المعمور) دون أن يكون لهذا المواطن ما يميزه عن الأرقام الأخرى (باقي ساكنة المعمور). وهذا التنميط مبرمج ليمس الجانب العقدي والروحي، وغايته بث الاستلاب والألينة  Aliénationفي عموم المواطنين. إنه عمل يتم عن وعي. وفي هذا يقول المارشال ليوطي، المقيم العام الفرنسي في المغرب في محاضرة ألقاها في مدينة مكناس بمدرسة الدار البيضاء (الأكاديمية العسكرية بمكناس حاليا) أمام المراقبين المدنيين سنة 1920: “إن القوة تبني الإمبراطوريات ولكنها ليست هي التي تضمن لها الدوام، إن الهامات تنحني أمام الحراب، في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد وحب الانتقام. يجب إخضاع القلوب بعد أن تم هزم الأبدان…[3].”

والواقع أن المؤسسات التي من المفروض أن تضطلع بمهام هذا الاحتراز وتجعل المواطن في منأى عن مخاطر هذه القيم المدمرة من مثل المؤسسات التعليمية والتربوية… غائبة، بل مغيبة، أو أن تدخلها يتسم بالقصور. وهذا ما يجعل المواطن وخاصة الأطفال واليافعين في هشاشة أمام هذه القيم البديلة، وهكذا يتم تبني تلك القيم من لدن الناشئة دون القدرة على استنطاقها ومعرفة حدودها.

إن الرسوم المتحركة والألعاب التفاعلية والمحاضرات متعددة الأطراف على مستوى الإنترنت         ومواقع التواصل الاجتماعي المتعددة… أساليب ممنهجة لتنميط القيم ما دامت المؤسسات الوصية على تربية النشء وإعداده لم تمد هذا النشء بمكانيزمات الدفاع والحصانة والمناعة، وبالتالي لم تنجح في تحديد مرجعيته وإقناعه بتبنيها واتخاذها معيارا في اختيار السلوك وتبني القيم.

  إن الأمر يستدعي دراسة تحليلية متعددة التخصصات معتمدة أساسا الآليات التحليلية السوسيوأنثروبولوجية والسيكولوجية المعرفية. إن تحليلا من هذا النوع جدير بأن يدخل في عمق      ومتن العولمة بكل تجلياتها وخاصة ما يرتبط فيها بالبعد القيمي/الأخلاقي، وذلك بفضل ما يوفره من ملاحظة وتحليل علميين لظاهرة العولمة واكتناه أعماقها بدلا من الوقوف على الوصف.

ثالثا: تحديد مدلول “القيمة” أولا

 إن فصل الحديث في القيم قصد التصدي للهجمات الهادفة إلى النيل من منظومتنا القيمية يتطلب تأسيس خطاب علمي يحدد مبدئيا مفهوم القيم قصد توحيد المصطلح الذي يتم التعامل بموجبه في كل استراتيجيا لبناء الأنسقة القيمية.

فـالقيمة”: واحدة القيم، فعلهايُقَيِّمُ”، وماضيها قَيَّمَ”، وأصله الواو؛ لأنه يقوم مقام الشيء؛ فالقيمة ثمن الشيء بالتقويم. تقول تقاوموه فيما بينهم[4]. وما له قيمة إذا لم يدم على شيء[5]، ويقال: قامت الأمةُ بكذا”؛ أي بلغت قيمتها كذا. والأمر القيّم هو الأمر المستقيم، وفي الحديث ورد: ذلك الدين القيّم“؛ أي المستقيم الذي لا يزيغ عن الحق.

ولمفهوم “القيمة” في اللغات الأجنبية دلالات تلامس دلالات هذا المفهوم في اللغة العربية. وترجع كلمة valeur” في أصلها الاشتقاقي إلى الفعل اللاتيني “valeo”  ويعني أنا قوي” وأنا في صحة جيدة” كما تدل على الشجاعة والبسالة “vaillance” والصلابة والقوة، وهو معنى يتضمن فكرة المقاومة والصلابة والتأثير والفعالية وترك بصمات قوية على الأشياء[6].

والقيمة“، بإيجاز، هي:الوجود من حيث كونه مرغوبا فيه، أو موضع رغبة ممكنة. فهي، إذن، ما نحكم بأن من الواجب تحققه. وهي من المنظور الذاتي صفة في الأشياء قوامها أن تكون موقع تقدير إلى حد كبير أو صغير، أو أن يرغب بها شخص، أو جماعة من أشخاص معينين: وهي من المنظور الموضوعي، صفة الأشياء من حيث إنها جديرة بشيء قليل أو كثير من التقدير، ومن أمثلتها:

ـ قيم الحياة؛ كقيمة الحق أو قيمة الحرية، وقيمة الثقافة، وقيمة الإبداع…

ـ القيم المنطقية؛ كالصواب والخطأ

ـ القيم الأخلاقية والقيم الجمالية؛ كقيمة الحسن وقيمة الجمال…  وما إلى ذلك[7]. فهي عبارة عن الأحكام التي يصدرها الفرد لاستحسان أو استهجان موضوع سيكولوجي (شخص أو شيء أو حدث أو فكرة)، وذلك في ضوء تقييمه أو تقديره لهذه الموضوعات أو الأشياء، وتتم هذه العملية من خلال احتكام الفرد، في ذلك، لمعارفه وخبراته ومكونات الإطار الحضاري الذي يعيش فيه  ويكتسب من خلاله هذه الخبرات والمعارف.

 تتحدد القيم إجرائيا استنادا لهذا التعريف على النحو التالي:

ـ أنها محك نحكم بمقتضاه ونحدد على أساسه ما هو مرغوب فيه أو مفضل في موقف توجد فيه عدة بدائل تتحدد من خلالها أهداف معينة أو غايات ووسائل لتحقيق هذه الأهداف أو الغايات؛

ـ أنها حكم سلبي أو إيجابي على مظاهر معينة من الخبرة في ضوء عملية التقييم التي يقوم بها الفرد؛

ـ أنها تعبير عن هذه المظاهر في ظل بدائل متعددة أمام الفرد. وذلك حتى يمكنه الكشف عن خاصية الانتقائية التي تتميز بها القيم. وتأخذ هذه البدائل أحد أشكال التعبير الوجوبي مثل “يجب أن..” أو “ينبغي أن..” حيث يكتشف ذلك عن خاصية الوجوب أو الإلزام التي تتسم بها القيم؛

ـ أنها ذات وزن، بحيث يختلف وزن القيمة من فرد لآخر بقدر احتكام هؤلاء الأفراد إلى هذه القيمة في المواقف اﻟﻤﺨتلفة. وفي ضوء ذلك تمثل القيم ذات الأهمية بالنسبة للفرد وزنا نسبيا أكبر في نسق القيم، وتمثل القيمة الأقل أهمية وزنا نسبيا أقل في هذا النسق.

رابعا: الأبعاد العلمية والإنسانية في الدلالات الإسلامية للقيمة

رغم التحديدات السابقة لمفهوم القيمة”؛ فإن موضوع القيم يطرح صعوبات ترتبط بشكل حضور هذا المفهوم عند الباحث المشتغل به، وخاصة حينما يتعلق الأمر بتحديد علمي دقيق للفظة “قيمة، ذلك أن موضوع القيم يدخل ضمن اهتمامات متخصصين عدة حسب الحقول المعرفية التي يهتم بها كل باحث. وهكذا تنعكس خاصيات التخصص والأرضية المعرفية للباحث في كيفية بسط مفهوم القيمة وتناوله ودراسته. وعلى سبيل المثال، فإن مفهوم القيمة يختلف من الفيلسوف إلى السوسيولوجي إلى الاقتصادي إلى السيكولوجي… ضمن المسارات المعرفية السوسيولوجية والتراثية والسيكولوجية   والفلسفية.

وفي السياق الإسلامي لا تنحصر القيم في القيم الثلاث: (الجمال والخير والحق) التي اهتم بها الفلاسفة اليونان وإن كان من الظاهر أنها متصلة بها ومتداخلة معها؛ لأن القيم في الإسلام لها استقلاليتها ومنها  قيم مرجعية كثوابت ومنها قيم فرعية تستلّ منها.

وقد لخص الدكتور ناصر الدين الأسد مضمون القيم الإسلامية في قوله: “…فـ”العدل” قيمة كبرى في الإسلام، وهي من “الحق”، ولكنها تمتاز منه، بل ربما كانت جميع القيم منضوية تحت لواء “الحق” ولكن لها شيئا من التمايز. وقد جاء أمر الله بالعدل أمرا واضحا صريحا في القرآن، قال تعالى: ﴿إن الله يامر بالعدل والاِحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي﴾ (النحل: 90). والإحسان منزلة أخرى من منازل القيم الإسلامية، تختلف عن العدل، و لكنها تنسجم معها في هذه المنظومة الإسلامية. و هل أوضح من أمر الله تعالى بالعدل الوارد في قوله: ﴿يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والاَقربين، إن يكن غنيا اَو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا(النساء: 134).

وهكذا يتضح أنه ليس من السهل الإحاطة بالقيم الإسلامية جملة وتفصيلا، وليس من الممكن إدراج كل القيم الإسلامية في هذا العرض الذي القصد منه التعريف بالقيم ومجالاتها. ومع ذلك يمكن الإشارة إلى أن القيم الإسلامية هدفت إلى “بناء الإنسان” وفق الطينة الخيرة التي أرادها له الله سبحانه وتعالى والتي من تجلياتها:

1.  التكريم مصداقا لقوله تعالى:﴿ولقد كرّمنا بني ءادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثيرٍ ممن خلقنا تفضيلًا﴾ (الاِسراء: 70).

وفي موضوع التكريم حدث الإمام علي، كرم الله وجهه، قائلا: لما أتينا بسبايا طيئ كانت في النساء جارية جميلة هي سفانة بنت حاتم. فلما رأيتها أعجبت بها، فقلت لأطلبنها إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليجعلها من فيئي فلما تكلمت أنسيت جمالها، لما سمعت من فصاحتها، فقالت: “يا محمد هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني، فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني بنت سيد قومي. كان أبي يفك العاني، ويحمي الديار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا بنت حاتم طيئ”، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا جارية هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك إسلاميا لترحمنا عليه، خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق[8].”

2.  الاستخلاف؛ أي أن يتبوأ المكانة التي ارتضاها له تعالى كخليفة له في الأرض: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الاَرض خليفةً، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال إني أعلم ما لا تعلمون﴾ (البقرة: 29).  

3.   تحمل المسؤولية التي أناط الله سبحانه وتعالى الإنسان بها، والتي وصفها الله تعالى بـالأمانةوالتكليف” قال تعالى: ﴿اِنا عرضنا الاَمانة على السموات والاَرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الاِنسان إنه كان ظلومًا جهولًا(الاَحزاب: 72).

4.   إعمال العقل وتحكيمه في الأمور، وقد وردت الدعوة إلى ذلك بصيغ متعددة، وفي آيات كثيرة من أمثلتها:

أ. الدعوة إلى التفكير، وردت هذه الدعوة في ثمانية عشر موضعا بصيغة الفعل وهي: (فكر، تتفكرون، يتفكرون، تفكرون)[9]، ومنها قوله تعالى: ﴿ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الاَرض واتبع هواه، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث اَو تتركه يلهث، ذلك مثل القوم الذين كذبوا بئاياتنا، فاقصص القصص لعلهم يتفكرون﴾ (الاَعراف: 176).

ب. الدعوة إلى التعقل، قال تعالى: ﴿إن في خلق السموات والاَرض واختلاف اليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماءٍ فأحيا به الاَرض بعد موتها وبث فيها من كل دآبةٍ وتصريف الرياح والسحاب المسخّر بين السماء والاَرض ءلاياتٍ لقومٍ يعقلون﴾(البقرة: 163).

 وللتعقل قيمة كبرى في منظومة القيم العربية. ومن الشواهد على ذلك أنه لما ظهر النبي، صلى الله عليه وسلم، بمكة ودعا الناس إلى الإسلام بعث أكثم بن صيفي ابنه حبيشا لاستجلاء الخبر فلما أتاه بما رأى وسمع جمع بني تميم وخطب فيهم قائلا: “يا بني تميم، لا تحضروني سفيها، فإنه من يسمع يخل، إن السفيه يوهن من فوقه، ويتبب من دونه. لا خير في من لا عقل له. كبرت سني ودخلتني ذلة، فإذا رأيتم مني حسنا فاقبلوه، وإن رأيتم مني غير ذلك فقوموني أستقم. إن ابني شافه هذا الرجل مشافهة، وأتاني بخبره، وكتابه يأمر فيه بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويأخذ فيه بمحاسن الأخلاق، ويدعو إلى توحيد الله تعالى، وخلع الأوثان، وترك الحلف بالنيران، وقد عرف ذوو الرأي منكم أن الفضل في ما يدعو إليه، وأن الرأي ترك ما ينهى عنه، إن أحق الناس بمعونة محمد، صلى الله عليه وسلم، ومساعدته على أمره أنتم، فإن يكن الذي يدعو إليه حقا، فهو لكم دون الناس، وإن يكن باطلا كنتم أحق الناس بالكف عنه وبالستر عليه… فقال مالك ابن نويرة: قد خرف شيخكم، فلا تتعرضوا للبلاء، فقال أكثم: ويل للشجي من الخلي والهفي على أمر لم أشهده ولم يسعني” ثم رحل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فمات في الطريق، وبعث بإسلامه مع من أسلم ممن كان معه[10].”

ج. الدعوة إلى التدبر، قال تعالى: ﴿اَفلا يتدبرون القرءان، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا﴾ (النساء: 81).

توجيه الخطاب إلى الفئات التي تحكم العقل في الأحكام: وردت كلمة “الفكر” في القرآن الكريم 18 مرة، وكلمة “العقل” 49 مرة، وكلمة “الألباب” 16 مرة، وكلمة “التدبر” 4 مرات وهذا يبين مدى اهتمام الإسلام بمنظومة التفكر بكل مدلولاتها: قال تعالى: ﴿كلوا وارعوا اَنعامكم، إن في ذلك ءلاياتٍ لأولي النهى﴾ (طه: 53).

د. الخير: يمتلك الفعل البشري قيمته مما يتسم به من خيريّة، وكلما ازدادت نسبة الخيريّة في الفعل ازدادت القيمة التي يمتلكها، وفي هذا الصدد تعرّف القيمة الأخلاقيّة بأنّها: “شكل لتجلي العلاقات الأخلاقيّة في المجتمع. قال تعالى: ﴿كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله، ولو ـامن أهل الكتاب لكان خيرًا لهم، منهم المومنون، وأكثرهم الفاسقون﴾ (ءال عمران: 110).

إن العمل بمقتضى هذه القيم الإسلامية وتحكيمها في اختيار السلوكيات وتبني المسارات عن فهم واستيعاب واقتناع قد يؤدي، في أغلب الأحيان، إلى درء مخاطر الهجمات المبيتة الهادفة إلى المس بالشباب خلقا وعقيدة وسلوكا وممارسات. إن هذه القيم وما يمكن أن يتفرع منها من قيم مكملة تشكل صرحا إذا لاذ به المرء جعله في مأمن من مخاطر ما يتهدده من إصابات مصوبة إليه بدقة لتعطيل آلياته الفكرية والوجدانية بما فيها الميكانيزمات العقدية.

إن روح التجديد في كل الأعمال المراد منها بناء الإنسان (المنظومة التربوية، الإعلام، الحقل الفني بكل أنواعه، الإنتاج الأدبي والفكري…) يجب أن تتخذ من المنظومة القيمية الإسلامية معتقدها؛ لأن هذه المنظومة كونية بكل المقاييس.

الهوامش


[1]. Guy Rocher, Introduction à la sociologie générale, I:L’action sociale, Paris: Editions Points, 1995, p. 111.

[2]. Edward Tylor, Primitive Culture, London: John Murray, 1871, p.1.

[3]. G.Hardy, Le problème scolaire au Maroc, imp.Rapide,Casablanca,1920, p. 6.

[4]. ابن منظور، لسان العرب، والجوهري، الصحاح في اللغة، مادة: (قوم).

[5]. الفيروز أبادي، القاموس المحيط، مادة: (قوم).

[6]. JOHN. Laird, The idea of value, 1929.

[7]. جان بول رزفيبر (Jean Paul Resweber)”فلسفة القيم”، ترجمة د. عادل العوا، بيروت: عويدات للنشر والطباعة، لبنان، ط1، 2001، ص6.

[8]. أبو الفرج الأصبهاني، “الأغاني”، الجزء 16، ص93.

[9]. فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

[10]. أبو الفضل أحمد بن محمد النيسابوري المعروف بالميداني، مجمع الأمثال، الجزء2 ص218.

الدكتور محمد بلكبير

• رئيس مركز الأبحاث والدراسات في القيم بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق