مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكأعلام

الاعتبار بسيرة السبعة رجال الأخيار

الشيخ أبو يعقوب سيدي يوسف بن علي الصنهاجي رضي الله عنه(ت593):(الابتلاء عنوان الاصطفاء)

هو الشيخ الكامل العارف بالله أبو يعقوب سيدي يوسف بن علي الصنهاجي ذو الأصل اليمني، ولد بمراكش ولم تشر المصادر التي  ترجمت له إلى تاريخ مولده رغم شهرته وشيوع ذكره.

قال التادلي في التشوف : “ومنهم أبو يعقوب يوسف بن علي المبتلى تلميذ الشيخ أبي عصفور، كان بِحارة الجذماء قِبلي حضرة مراكش، وبها مات في رجب عام ثلاثة وتسعين و خمسمائة، و دفن خارج باب أغمات عند رابطة الغار، واحتفل الناس بجنازته، وكان كبير الشأن فاضلا زرته مرارا، ورزقني الله منه محبة ومودة. وكان صابرا راضيا. سقط بعض جسده في بعض الأوقات، فصنع طعاما كثيرا للفقراء شكرا لله تعالى على ذلك”[1].

أخذ عن الشيخ العارف بالله أبي عصفور يعلى بن وين الذي أخذ الطريق على يدي الشيخ أبي يعزى.

كان الشيخ أبو عصفور رضي الله عنه على قدم راسخة في الولاية، وقد نزل حارة الجذماء وبها مات سنة ثلاث و ثمانين وخمسمائة، ودفن إلى جانب تلميذه سيدي يوسف بن علي.

والمستفاد من النزر اليسير الذي وصلنا عن سيرة الشيخ رضي الله عنه أمران في بالغ الأهمية وهما:

      – أن الشيخ رضي الله عنه بلغ النهاية والرسوخ في مقام الرضا والاصطبار، فقد  كان يجد في بلواه لذة المناجاة والشهود، وكان مصابه مرقاة إلى منازل الأنس والقرب، وكأن لسان حاله يقول: الابتلاء عنوان الاصطفاء

        تعودت مس الضر حتى ألفتـــــــــــه       و أسلمني طول البلاء إلى الصبر

       ووسع قلبي للأذى الأنس بالأذى       وقد كنت أحيانا يضيق به صدري

  – أن الشيخ في رضاه و اصطباره و شكره أيده الحق سبحانه بالكرامات، ومد له بساط المكاشفات الغيبية حيث أعلمه الحق بميقات وفاته. جاء في التشوف ما يلي:

“سمعت أبا الحسن علي بن سحنون بن ميمون الهزرجي الشاهد يقول: حضرت غسل أبي يعقوب وكان الفقيه أبو علي بن صمغ يغسله، فقال له: رأيته الآن وأنا أغسله وهو يبتسم. وسمعت يوسف بن محمد الخزرجي يقول: صليت الجمعة بجامع القصر الجديد مع أبي العباس أحمد بن عبد العزيز الخراز. فلما سلم الإمام أصابت أبا العباس سِنة، فلما أفاق منها قال لي: رأيت أبا يعقوب قد مات فأسرع بنا إلى داره بحارة الجذماء! فأتينا إليه ودخلنا عليه. فلما سلمنا عليه قال لأبي العباس: رأيت في منامك أني قد مت؟ فقال له: نعم. فقال له أبو يعقوب: بقي لي، وأشار بيده فعد بأصبعه أربعين. فقال يوسف بن محمد: فلما كملت أربعون يوما من ذلك اليوم مات أبو يعقوب رحمه الله.”[2]

ولقد اصطلح الناس على جعل أبي يعقوب أول الرجـال السبعة ابتداء بالزيـارة، ومنشأ ذلك كما ذكر ابن المؤقت نقلا عن غيره أن الشيخ رضي الله عنه “يمني من أهل اليمن، وهم الذين ابتكروا نصرة الإسلام، ومنهم الأنصار، وفيهم قال مولانـا سبحانـه: ﴿والذين تبوءوا الدار و الإيمان﴾[3] ، وقـال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين:﴿الإيمان يمان و الحكمة يمانية﴾. فكأن الواضع الأول استشعر هذا المعنى، فناسب أن يبتدئ به الزيارة، لأنه كان من قوم كان ابتداء ظهور هذا الدين على أيديهم..”[4].

شيخ الإسلام القاضي عياض رضي الله عنه(ت 544 ﻫ) :﴿ لولا عياض لما ذكر المغرب﴾

يعتبر الإمام القاضي عياض أبرز أعلام المذهب المالكي بالغرب الإسلامي، حيث استـأثرت سيرته ببالغ الاهتمـام، وحاز تراثـه العلمـي كامل العناية من لدن العلمـاء والدارسين قدامى ومحدثين.

والناظر في سيرة الإمام وما خلفه من تراث علمي زاخر يتبين بسهولة ويسر الأبعاد المتعددة لشخصيته، فقد جمع إلى الصلاح والتقوى صفة الرسوخ والتمكين في شتى صنوف العلم الشرعي، فهو الصوفي، والفقيه، والمتكلم، والمحدث، والأديب، والعالم بأخبار وسير الأقدمين، وهي صفات بوأت الإمام المراتب العليا في سلم أهل الصلاح، وأهلته للقيام بأدوار طلائعية مكنت من ترسيخ قيم المذهب المالكي ومبادئه، ومد إشعاعه داخل ربوع المغرب وخارجها، فلولا عياض لما ذكر المغرب.

والإمام هو أبو الفضل عياض موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي أصلا السبتي مولدا ودارا، يرتفع نسبه إلى يحصب بن مالك بن زيد الذي ينتهي إليه نسب الإمام مالك بن أنس الأصبحي رضي الله عنه. وبهذا تكون صلة الإمام القاضي عياض بإمام المذهب من جهتين: جهة القرابة و الانتساب إلى قبيلة حميـر اليمنيـة، وجهة مالكيتـه وانتسابه المذهبي.

كان مولده رضي الله عنه بمدينة سبتة في النصف من شعبان سنة 476(ﻫ)، استوطن أجداده الأول بالأندلس ثم انتقلوا إلى عدوة المغرب بمدينة فاس، وبعد ذلك اختار جده عمرون المقام بمدينة سبتة، “وكان سبب ذلك أنه كان له [أي عمرون] ولآبائه بمدينة فاس نباهة، فأخذ ابن أبي عامر رهنا من أعيان مدينة فاس فأخذ فيهم أخوي عمرون: عيسى والقاسم، فخرج عمرون إلى مدينة سبتة ليقرب من أخبارهما بمدينة قرطبة، فاستحسن سكنى مدينة سبتة.”[5] وهناك استقر به المقام حيث وظف ثروته في شراء الأرض التي شيد عليها مسجدا و ديارا حبسها على المسجد، وحبس طرفا منها للدفن.

وكانت مدينة سبتة ذات أهمية كبرى سياسيا وثقافيا نظرا لموقعها الجغرافي المتميز الذي جعلها ملتقى ومركزا حضاريا هاما خاصة في عهد المرابطين، إذ منها يتم الإشراف على عدوة الأندلس، كما كانت  جسرا واصلا بين المغرب والمشرق.

نشأ الإمام في أحضان هذه المدينة العامرة مشمولا بالرعاية والعناية؛ إذ تربى في كنف أسرة معروفة بالفضل والعلم، فدخل إلى الكتاب _على عادة أهل المغرب في التعليم_ فحفظ القرآن الكريم، وأحكم قراءاته بالسبع على يد جملة من الشيوخ المتصدرين للإقراء كعبد الله بن إدريس بن سهل المقرئ (ت 515ﻫ) وعبد الله بن محمد النفزي (ت538ﻫ). ثم ولج طور تحصيل العلوم على يد كبار الشيوخ والعلماء الذين كانت مدينة سبتة تعج بهم. فحصل قواعد اللغة العربية وآدابها من خلال كتاب الفصيح لأبي العباس ثعلب وكتاب الأمالي لأبي علي القالي وكتاب الكامل لأبي العباس المبرد وأدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب الجمل للزجاجي والواضح للزبيري والكافي للنحاس والمقتضب للمبرد والإيضاح لأبي علي الفارسي وشرح الجمل لابن فضال…

ثم أخذ علم الحديث رواية ودراية عن أعلام سبتة ومحدثيها الكبار، فقرأ موطأ مالك، ومسند الموطأ لأبي القاسم الجوهري، وصحيح البخاري بروايتي الفربري والنسفي، وصحيح مسلم، وسنن النسائي، وشرح غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام، وغريب الحديث لأبي سليمان الخطابي، وعلوم الحديث للحاكم، وكتاب الطبقات لمسلم صاحب الصحيح، وكتاب الضعفاء والمتروكين للنسائي، وكتاب التقصي لابن عبد البر، والمؤتـلف والمختلف للدارقطني، ومشكل الحديث لابن فورك، والإكمال لابن ماكولا، وغير ذلك من المصنفات التي حصل أغراضها، ووقف على مطالبها، وخبر أسرارها، مما جعله حجة وعمدة في صناعة الحديث وحفظ أسماء الرجال…

كما درس الفقه على مذهب مالك رضي الله عنه من خلال متن الرسالة لابن أبي زيد والمدونة على يد محمد بن عيسى التميمي، كما قرأ على القاضي أبي بكر بن العربي المعافري تأليفا في الأيمان اللازمة بسبتة عند مروره بها. كما قرأ أصول الفقه على يد محمد بن داود بن عطية القلعبي.

أما علم الكلام فقد حصل قواعده على مذهب أبي الحسن الأشعري، وأحكم ما يتعلق به من أصول الجدل والمناظرة، ومن مشايخه في هذا المجال قاضي سبتة عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن قاسم اللخمي (ت 458 ﻫ)، وعبد الغالب بن يوسف السالمـي(ت 516 ﻫ) الذي صحبه مدة إقامته بسبتة، وناوله كثيرا من مجموعاته، ويوسف بن موسى الكلبي الذي قرأ عليه أرجوزته في الاعتقادات، وغير ذلك من المصادر التي نهل منها وبوأته المكانـة الرفيعـة في المعرفة الواسعة بالمـذاهب والاتجاهـات الكلاميـة، والانتصار لمسلك أبي الحسن الأشعري وتحقيق مذهبه.

كان القاضي عياض رحمه الله في مرحلة تلقيه وتحصيله متسما بالذكاء والفطنة والتيقظ والتبصر، ذا منزلة ورفعة عند شيوخه حيث تلقى إجازة علمية من أبي علي الغساني وهو في العشرين من عمره، ولا شك أن القاضي حينما كان يأخذ عن الشيوخ علومهم كان يفيد من آدابهم وأخلاقهم ويستمد من محمود سيرهم وأحوالهم.

وبهذه الحصيلة الغنية بعلوم المشايخ وأحوالهم وتجاربهم، عقد الإمام العزم على الرحلة إلى الأندلس، قصد الاستزادة والبحث عن الأسانيد العالـية والتوسع في الروايـة ومقارنة ما عنده بالأصول، وكانت أخباره وشهرته قد سبقته إليها، فأخذ بقرطبة عن ابن حمدين وابن سراج وابن عتاب، وأخذ بشرق الأندلس عن القاضي أبي علي الصدفي، كما أخذ عن أبي عبد الله محمد بن خلف التجيبي المعروف بابن الحاج وأبي القاسم بن بقـي وأبي الوليد ابن رشد وابن سراج الأموي وأبي العباس المعروف بابن الزنقى، وباختصار كان الإمـام في سائر أطوار رحلته المذكورة معظمـا لدى الشيوخ محفوفـا بالإجـلال والتكريم، ولم يرحل عن الأندلس راجعا إلى بلده إلا وقد شهد له بالرسـوخ و التمكيـن، وأخذ عنه غير واحد من الأندلسيين.

وكانت عودته إلى سبتة ليلة السبت، السابع من جمادى الآخرة من سنة 508ﻫ، وبعودته انفتح له عهد جديد رسخت فيه معارفه تمام الرسوخ، حيث أجلسه أهل بلده للمناظرة في المدونة وهو ابن اثنتين و ثلاثين سنة أو نحوها.

ثم أجلس للشورى، وهو منصب تهيأ به لتولي القضاء، وكان توليه القضاء عام خمسة عشر وخمسمائة (515ﻫ) لثلاث من صفر، وسن الإمام إذاك تسعة وثلاثون عاما[6]. كما ولي قضاء غرناطة عام إحدى وثلاثين وخمسمائة(531ﻫ) في خلافة تاشفين بن علي بن يوسف، ولما أعفي ولي قضاء سبتة ثانية سنة(539ﻫ). وكان في ولايته رضي الله عنه محمود السيرة، حريصا على الإنصاف وسلوك مسالك العـدل، ذا هيبـة وجلالة عند الخاصة والعامة، مسارعا إلى قضاء الحوائج وسد الخلات، مع ليـن جانـب وزهادة في الدنيا وإقبال على الآخرة، مما استوجب محبة وتعظيم الجميع، والتنزل عند حكمه والقيام بواجبه، فانتفع به الخلق واستقام أمرهم.

 وبموازاة مهمة القضاء وما تقتضيه من اندماج كلي في المجتمع، والوقوف على مصالح البلاد والعباد، والأدوار السياسية التي اضطلع بها عند قيام الموحدين، كان الإمام دائم الصلة بشؤون العلم إقراء وتدريسا وتأليفا واستزادة من إجازات الشيوخ ومراسلة للعلماء.

وبعد استتباب أمر الموحدين نفي القاضي عياض إلى مدينة مراكش في يوم الخامس والعشرين من جمادى الآخرة عام (543ﻫ)، ولم يمكث بها طويلا إذ وافته المنية ليلة الجمعة التاسعة من جمادى الآخرة من عام (544ﻫ)، ودفن في حومة باب أيلان داخل السور، ولا زال قبره قدس الله سره ونور ضريحه من المزارات الكبرى بمراكش، يقصده الناس بالتبرك والاقتباس واستنشاق عبير المحبة المحمدية.

لقد خلف الإمام القاضي تراثا علميا وأدبيا دالا على ما عنده من الكرامة وبلوغ درجة الرسوخ والتمكين، وبلغت كتبه الغاية في حسن التأليـف وجودة التناول، وجاءت شاهدا على موسوعية الإمام وكمال تصرفه ورفعة ذوقه. ومن أشهر تصانيفه:

–       كتاب إكمال المعلم في شرح مسلم.

–       كتاب التنبيهات المستنبطة على المدونة والمختلطة.

–       ترتيب المدارك و تقريب المسالك في معرفة أعلام مذهب مالك.

–       الإعلام بحدود قواعد الإسلام.

–       الإلماع في ضبط الرواية وتحقيق السماع.

–       بغية الرائد لما تضمنه حديث أم زرع من الفوائد.

–       الغنية وهي عبارة عن فهرسة لشيوخه.

–       مشارق الأنوار على صحاح الآثار.

إلا أن كتابه “الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم” يعد أشهر مؤلفاته على الإطلاق حيث أقرأه القاضي في حياته وأجاز به، وكتابه هذا من ذخائر التراث المغربي ونفائسه، إذ لم يؤلف في السيرة النبوية العطرة والشمائل المحمدية الزكية مثله، فقد “أبدع فيه كل الإبداع، وسلم له أكفاؤه كفاءته فيه بلا نزاع، و تشوفوا للوقوف عليه وأنصفوا في الاستفادة منه، وحمله الناس عنه شرقا وغربا…”[7] و لقد شوهدت بركة “الشفا” في الآفاق، وجرب في دفع البلاء والأسقام، فكانت تلاوته سببـا لجلب الخيـرات واستدرار الرحمات. جاء في السعادة الأبدية:”و شاهدنا كثيرا من الناس وسمعنا بهم، وقع بهم على كرب شديد يدهش العقل، فبادروا لقراءة الشفا فحصل لهم اللطف الكبير والشفا. فكتاب الشفا ذخيرة لمن تمسك به، ونجاة لمن ركب سفينته بقلبه ولبه، وعدة لمن دهمته الشدائد، وجلاء لكل هم وغم من حلت بساحته الموائد على ممر الأزمنة والدهور، ولا يزيدها طول المدى إلا نورا على نور(…) ولا غرو فقد تضمن تشريف سيـد الأنبيـاء والمرسلين، وأبدى من مزايا واسطة الكون، ورسول رب العالمين، فسرت للكتاب تلك الأنوار، وتعطرت بسبب ساكنها المنازل والديار.”[8]

 ولذلك بشر القاضي بالجنة لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وذلك عند فراغه من تصنيف الشفا، ولذلك أيضا شاهد أهل الفضل مولانا القاضي في المنام بمعية المصطفى عليه الصلاة السلام جالسا على سرير من ذهب.

الولي الأشهر سيدي أبو العباس السبتي رضي الله عنه (ت601 ﻫ): ﴿تاجر الله بين خلقه﴾

هو الولي الأكبر والسيد الأشهر سيدي أبو العباس أحمد بن جعفر الخزرجى الأنصاري المعروف بالسبتي، أصله عربي من الخزرج.

ولد رضي الله عنه بمدينة سبتة، سنة أربع وعشرين وخمسمائة(524 ﻫ) أيام المرابطين، وفيها نشأ وحفظ القرآن الكريم، وتلقى أصول العلم وقواعده على يد شيخه العارف بالله أبي عبد الله سيدي محمد الفخار تلميذ الإمام القاضي عياض. وكان يتصف بجمال الصورة حيث كان أبيض اللون مشربا بحمرة حسن الثياب، جامعا بين فصاحة اللسان وحسن الحفظ وحضور البديهة وغير ذلك من الأوصاف والشمائل المنبئة عن قدره وهمته، حيث سطعت شمس ولايته وهو ما زال في مهد عمره، ولاحت أعلام كراماته في بساط الكرم والتكريم، وهو لازال في ريعان صباه وشبابه. ورد في بلوغ الآمال في ذكر مناقب السادات سبعة رجال ما نصه :

“كان في ابتداء أمره وهو ابن عشر سنين بمدينة سبتة، ومات والده وكانوا فقراء لا مال لهم، وكانت والدته كيسة في دنياها، فأرادت أن تعلمه الصناعة ليستعين بذلك، وما يعود عليه من نفع في تعليم الصنعة، وأراد الحق به خصوصية وما سبق له من الفضل في سابق علمه، فحملته إلى معلم الحياكة ليتعلم، فلما ذهبت به إليهم فر عنهم، فألهمه الله تعالى أن أتى إلى مكتب أبي عبد الله بن الفخار، وكان من الأتقياء الأخفياء، وله فراسة وبركة اكتسبها من بركات الشيخ سيدي أبي الفضل عياض رضي الله عنهم، وكان متقنا في القراءة والفقه والعربية وفنون من الأدب، وتقوى وورع زائد وولاية ظاهرة وأنوار شارقة، فقال: يا سيدي أردت أن تعلمني لله وأنا يتيم، فنظر إليه فألقى الله محبة في قلبه، فقال له: على بركة الله يا بني مرحبا بك وسهلا ثم أجلسه مع الصبيان، فروي أن الشيخ أحس ببركة زادت عليه من ساعته، فأراد أن يختبره فاشترى طيورا على عدد الصبيان، وقال لهم كل واحد منكم يذبح طيره حيث لا يراه أحد، فما كان إلا ساعة وقد أتوا بطيورهم كلها مذبوحة، وإذا بأبي العباس السبتي قد أتى بطيره حيا لم يذبحه، فقال له: وأنت لم تذبح طيرك؟ فقال: يا سيدي أمرتني أن أذبحه حيث لا يراه أحد، فلم أجد موضعا إلا والله مطلع عليه وناظر إلي، فلذلك لم أذبحه، فقال له: يا بني بارك الله فيك، إن عشت ليكونن لك شأن عظيم. قال له: يا سيدي ذلك بيد الله يفعل في ملكه ما يشاء، فزاد حظوة عند الشيخ وصار يحمله إلى داره ويحسن إليه، وزادت من بركاته الخيرات وفاض الإحسان”[9]

وبقي الشيخ رضي الله عنه على حال المراقبة، ولزوم باب الاستقامة وهو في بدايات مساره التحصيلي، فحفظ القرآن الكريم واستظهر الرسالة وحصل جملة من فنون الأدب والعربية وسنه إذ ذاك لم يتجاوز ست عشرة سنة.

وتذكر الروايات أن أبا العباس السبتي رضي الله عنه سأل شيخه عن معنى قوله تعالى:﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾[النحل، الآية:90]، فاستغرب الشيخ سؤال التلميذ وتوسم فيه علامات الفتح، إذ انفتاح البصيرة وقابلية الفهم عن الله هما الحاملان للصبي الولي على السؤال والاستكشاف، فأجابه الشيخ: “يا بني لي كذا وكذا أعلم الصبيان فما سألني عنها أحد منهم، وهو المشاطرة أن يكون بينك وبين أحد مال فتقسمه على السواء، وهو العدل، ثم تحسن له من شطرك فهو العدل والإحسان الذي أمر الله به”.

فكانت إجابة الشيخ هاته بمثابة المعالم التي أنارت له السلوك في طريق القوم، حيث تنزلت منزلة الأركان التي قام عليها بنيان مذهبه. قال العلامة ابن الموقت في السعادة الأبدية:”وكان مذهبه رضي الله عنه يدور على الصدقة، وكان يرد أصول الشرع إلى الصدقة، وقيل له رضي الله عنه مالك لا تتكلم على الصلاة، فقال إنما تكلمت على العلة العظمى التي عمت وهي البخل، وإنما أودعكم السر الذي لم يطلع عليه كل أحد بإعطاء الشطر تكون الوقاية، ﴿اتقوا النار ولو بشق تمرة﴾ (أخرجه البخاري) كما قال عليه السلام، وبإعطاء الثلثين يحكم في المخلوقات كالاستسقاء والولاية والعزل، وبإعطاء خمسة أسباع يستجاب الدعاء وتكون الكائنات”[10]، فتحصل مما ذكر أن تسخير الأكوان للعبد إنما هو راجع في أصله إلى مدى قدرة المرء على البذل والإنفاق وملازمة باب الإيثار والجود والكرم، إذ خلاصة مقامات السائرين ومراتبها تابعة لأصول الجود ومنازل الإكرام.

وبهذا المنهاج الشمولي تمهد للشيخ رضي الله عنه طريق الاندماج الكلي في المجتمع، بعد أن استأذن أستاذه في الرحلة إلى مراكش قصد لقاء المشايخ والاستزادة من المعرفة، وأثناء مسيره إليها رفقة خادمه مسعود الحاج –دفين حومة الموقف- ظهرت عليه كرامات عظيمة، وحدثت له مواقف قامت أدلة واضحة على علو كعبه في الخصوصية والاصطفاء والولاية، إلى أن وصل إلى مشارف المدينة المباركة، فصعد إلى جبل جليز حيث أقام بقصد الخلوة والتعبد وانتظار الإذن من الله في الدخول على عادة الأكابر[11].

وهناك جرت للشيخ مواقف عظيمة عجلت بظهور أمره في أوساط المجتمع المراكشي، وبلغ خبره الخليفة الموحدي يعقوب[12] الذي ألح في طلبه والبحث عنه، فاعتبر الشيخ ذلك إشارة ربانية لدخول حاضرة مراكش، فكانت الاستجابة وعظمت منزلته عند الخاصة والعامة، وكان مقصودا عندهم في مواطن الرخاء وعند الكروب والملمات.

أما مسلكه في التربية والإصلاح فكان مبنيا على نظرة خاصة، فحواها أن سائر العلل والأدواء مصدره البخل والركون إلى متاع الدنيا، ولا سبيل إلى درء هذه الآفات وتحصيل الكمالات إلا بالتصدق والإنفاق وسد خلة المحتاج، زيادة على النفقة الشرعية الواجبة، ومن هنا كان رضي الله عنه لا يأتيه أحد في شكوى خاطر أو غرض مطلوب أو حاجة من الحوائج إلا  أرشده إلى التصدق وبذل ما تحت اليد، فكان مسلكه ترياقا مجربا لا يمارى في نجاعته، وكأن الكرم سبب الكرامة، ولذلك كان رضي الله عنه “تاجر الله بين خلقه، النادي على ذلك في الأسواق أين من يعامل الله؟ الدينار بعشرة والعشرة بمائة، وبالجملة فأحواله رضي الله عنه كلها عجائب وغرائب، لم نسمع بمثلها لأحد من الأولياء.”[13].

وقد بقي الشيخ وفيا لهذا المنهج الرباني، حيث كانت وصيته الختام حين كان في حال الاحتضار:”ليس إلا الإحسان”.

توفي سيدي أبو العباس رضي الله عنه يوم الإثنين ثالث جمادى الأخيرة سنة(601 ﻫ).

الشيخ سيدي محمد بن سليمان الجزولي رضي الله عنه (ت870 ﻫ): ﴿شهيد المحبة﴾

هو الشيخ العارف بالله الشريف النسب، حجة المغاربة وفخرهم، سيدي أبو عبد الله سيدي محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن سليمان بن سعيد الجزولي الحسني السملالي، يرتفع نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال رضي الله عنه: “ليس العزيز من تعزز بالقبيلة وحسن الجاه، و إنما العزيز من تعزز بالشرف والنسب، أنا شريف في النسب، جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.”[14]

نشأ رضي الله عنه في مدشر تانكرت في سوس بلاد الساحل، ولم تشر المصادر المعتمدة إلى تاريخ ميلاده بالضبط، وقد تميز عصره على المستوى السياسي بعدم الاستقرار؛ إذ شهدت بلاد سوس في أواخر القرن الثامن وبداية القرن التاسع صراعات داخلية عنيفة، وكانت أكثر المناطق منازعة لسلطة المخزن، وأشدها مواجهة لغزو البرتغال للمناطق الساحلية.

في هذه الأجواء المفعمة بالصراع والاقتتال، بسبب ضعف الدولة الحاكمة عن توفير الأمن والاستقرار ورد هجومات البرتغال وإخماد الثورات، كانت رحلة الجزولي لمدينة فاس قصد طلب العلم، حيث نزل بمدرسة الصفارين، وأثناء مقامه بفاس لقي العارف بالله سيدي أحمد زروق فانتفع به، وقد كان رضي الله عنه في مقامه واشتغاله بتحصيل العلوم مجتهدا أيضا في الاشتغال بعبادة الله عز وجل والخلوة والاستغراق، وكأنه يستجمع الهمة لأمر جلل.

ثم جاءت رحلته إلى المشرق لملاقاة العلماء وشيوخ التربية، وكانت مدة رحلته حسب الروايات سبع سنوات، حيث حج وأقام في الحرم النبوي الشريف عاكفا على قراءة مصنفه دلائل الخيرات، وطاف مدن الحجاز ومصر والقدس والأزهر الذي لقي به الشيخ عبد العزيز العجمي. ثم كانت عودته إلى المغرب حيث وجد ضالته، فسلك الطريق على يد شيخه أبي عبد الله محمد أمغار الصغير بتيط. قال صاحب السعادة الأبدية: “وأما مشايخه رضي الله عنهم، فالمشهور منهم هو الولي الصالح الكوكب الواضح أوحد وقته الحفيد أبو عبد الله سيدي محمد أمغار الصغير من أحفاد بني أمغار أهل تيط عين القرية المعروفة. لقيه بقرية بساحل بلد أزمور وتعرف الآن بتيط، وبها كان مأوى سلفه المبارك أهل الخير والصلاح والولاية، وأخذ عنه وعول عليه في طريقه وعلى يديه فتح عليه، وأخذ أيضا عن الشيخ العارف أبي زيد سيدي عبد الرحمن الرجراجي، وهو عن الشيخ العارف سيدي الإمـام الهندي، عن الشيخ العـارف سيدي عنوس البـدوي، عن الشيخ العارف الإمام القرافي، عن الشيخ أبي عبد الله المغربي، عن الشيخ الأكبر القطب الأشهر سيدنا أبي الحسن الشاذلي رضي الله عن الجميع.”[15]

ومن خلال ما ذكر يتبين أن الشيخ الجزولي رضي الله عنه، متصل السلسلة محقق النسبة إلى الإمام الأكبر والقدوة الأشهر سيدي أبي الحسن الشاذلي قدس الله سره، من طريق شيخه وسنده أبي عبد الله محمد أمغار الصغير الذي احتضنه وأشار عليه بالخلـوة والتزام أوراد وأذكار الطريقة الشاذلية. وقد مكث في خلوته هاته مدة أربعة عشر عاما، وكان ورده اليومي يشتمل على سلكة وربع من القرآن الكريم، وسلكتين من دلائل الخيرات، ومائة ألف من “بسم الله الرحمن الرحيم”.

كانت صحبته لشيخه سبب الفتح العظيم وبلوغ مبالغ أهل الرسوخ والتمكين، فظهرت عليه كرامات عظام، ولاحت من أحواله شواهد الصلاح ودلائل الهداية، وكسي رداء الأخلاق المحمدية، وأذن له رضي الله عنه في الإرشاد ودلالة الخلق على الله سبحانه.

فامتثل للإذن الرباني، وخرج للدعوة إلى الله بإذنه، وكانت مدينة آسفي أولى المدن التي ظهرت فيها دعوته وتقبل أهلها طريقته، وهذا ليس بغريب عن بلد كان له في الطريق الصوفي سلف صالح وقدوة مثلى، ونقصد بها طريق الشيخ سيدي أبي محمد صالح، كما احتضن هذا البلد أيضا تعاليم الشاذلية من خلال زاوية هرتنانة لصاحبها أبي سعيد عثمان الهرتناني شيخ أبي عبد الله محمد الصغيـر أمغار شيخ الإمام الجزولي رضي الله عن الجميع، أضف إلى ذلك أن منطقة رجراجة التي توجد بها المدينة كانت تعـج بالأوليـاء والصالحين.

فكان أن استجاب لدعوته خلق كثير واجتمع حوله نفر غفير، حيث تذكر المصادر أن عدد مريديه بها بلغ خمسة وستين وستمائة واثني عشر ألفا. ثم مضى الشيخ في دعوته مربيا مجاهدا إلى أن كتبت له الشهادة حيث قتل مسموما من طرف أحد الولاة. وقد كان مقتله سنة (870 ﻫ) حسب ترجيح زروق حيث دفن ببلاد سوس بادئ الأمر ثم نقل إلى الحضرة المراكشية بعد سبع وسبعين سنة من وفاته، ويأبى الله إلا أن يتـم له نـوره ويظهر كرامته، إذ وجدوه كهيأته يوم دفن محفوظا مصونا أو قل وجدوه “حيا” عند ربه يرزق. فدفن بمراكش بأمر من السلطان أحمد الأعرج السعدي بحومة “رياض العروس”، و بنيت عليه قبة في غاية الجمال والجلال عام 1233(ﻫ) يندهش لها الناظر وينشرح بها الخاطر، وجدد بناءها السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي طيب الله ثراه.

ويستمد الإمام الجزولي منهجه التربوي من أصول وقواعد التربية عند الإمام الشاذلي، حيث كانت طريقته مبناها على الإكثار من ذكر الله تعالى والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت التصلية على النبـي صلى الله عليـه وسلم أس السلـوك ومعراج المريد في المنهج الصوفي للإمام، وكتابه “دلائل الخيرات”[16] الذي أغنت شهرته في الآفاق عن وصفه وتوصيفه، كان ولا يزال ملتزم المغاربة في التقرب إلى الله عز وجل، والارتواء من محبة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأخذوا به مأخذ العناية والاستصحاب والمواظبة.

وللدلائل بركة شوهدت بالعيان، وللاشتغال به آثار في استجماع كمالات الأخلاق المحمدية، واستدرار الألطاف الربانية الخفية، وتأليف القلوب وتفريج الكروب ونيل كل مرغوب.

الشيخ سيدي عبد العزيز التباع رضي الله عنه (ت914 ﻫ): ﴿كيمياء الأرواح﴾

هو الشيخ أبو فارس سيدي عبد العزيز بن عبد الحق التباع الملقب بالحرار نسبة إلى حرفته؛ إذ كان يحترف صناعة الحرير في ابتداء أمره.

كان مولده بمراكش، وتذكر المصادر أنه كان أميا، وتشير إلى ذهابه إلى فاس حيث كان يقيم بمدرسة العطارين، و بها لقي أبا الحسن عليا بن محمد صالح الأندلسي، ثم عاد إلى مسقط رأسه مدينة مراكش.

و يعد الشيخ أبرز تلامذة الإمام الجزولي رضي الله عنهما، وقد اجتمع به أول مرة عند زيارته لمراكش، فاستضاف المريد شيخه في منزل والديه بالقصور، فكانت الصحبة، و تشرف بالخدمة، وتحققت له كرامة الفتح على يديه وهو يومئذ لا زال صغير السن، فلما أحس الشيخ بدنو أجله أوصى به أكبر تلامذته ومريديه الشيخ أبا عبد الله سيدي محمد السهلي الذي لقبه شيخه الجزولي “بالصغير” قائلا له :” الله الله في عبد العزيز فإنه كيمياء”[17].

ثم تستمر رحلة الطلب على يد الشيخ الصغير، فلازمه ثمان سنوات بمنزله من خندق الزيتون في أحواز فاس، فكان سيدي الصغير الوصي الأمين والقيم الحافظ، يحيطه بالرعاية الشاملة والعناية الكاملة، إلى أن كان اليوم الموعود، اليوم الذي أذن له فيه بالخروج قصد انتفاع الناس به، ومواصلة دعوة شيخه الجزولي إذ كان صاحب الإراثة من بعده.

ويسير الشيخ رضي الله عنه إلى أن يستقر به المقام بمراكش موطنه، فوهب له أحمد الأمين القسطلي أرضا بنى عليها زاويته بحي القبابين.

ولقد كان الشيخ التباع في تربيته لمريديه ناهجا سبيل أستاذه الجزولي، حيث كان يلقنهم أذكاره وأوراده، كما كان يتخذ من أرجوزة المباحث الأصلية لابن البنا السرقسطي وسيلة لتربيتهم، وذلك بحثهم على استظهارها و تلاوتها.

و كان من تمام ولاية سيدي عبد العزيز التباع أن ظهرت على يديه البركات وعمت، وانتشرت عنه الكرامات وتواترت، فانتفع به خلق كثيـر، واستجاب لدعوته الصغير والكبير.

ومما يذكر من كراماته المشهورة “أنه قدم عليه لزيارته بعض الفقراء ومع أحدهم دلائل الخيرات، فقال الشيخ رضي الله عنه دلائل الخيرات عندكم يا فقراء، فقال ذلك الفقير الذي هو عنده: نعم، هو يا سيدي عندي، فناوله إياه، فحركه الشيخ في يده، ثم قال: إنه سقط منه كيت وكيت، فقابلوه فوجدوه كما قال.”[18]

ثم كان رضي الله عنه كشيخه الجزولي كثير المريدين والأتباع، حيث تخرج من مدرسته الربانية شيوخ ورجال طبعوا المسار الصوفي المغربي بسيرهم العطرة، ولا زالت آثارهم محل تقدير وإكبار، ومبعث تذكر واعتبار إلى يوم الناس هذا، من هؤلاء الشيوخ الأبرار سيدي عبد الله الغزواني وارث سره والآتية ترجمته، وسيدي عبد الكريم بن عمر الفلاح خديم شيخه التبـاع والمشرف على الإطعـام وسائر شـؤون الزاويـة، والشيخ أبو العزم رحال الكوش دفين أنماي، والشيخ أبو عبد الله محمد بن داوود الشـاوي، وسيدي سعيد بن عبد المنعم.

توفي الشيخ رضي الله عنه في السادس من ربيع الثاني عام أربع عشرة وتسعمائة (914 ﻫ)، وكان مدفنه بالحي الذي يحمل اسمه الآن “حي سيدي عبد العزيز” غير بعيد عن جامع ابن يوسف بمراكش المدينة، حيث يعد ضريحه من أنور مزارات المدينة، ولازال يؤمه الناس رجالا ونساء وأطفالا بقصد الاستذكار والاستشفاء.

الشيخ  أبو محمد عبد الله الغزواني (ت 935 ﻫ): ﴿سلطان الأولياء﴾

هو العارف بالله الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد الغزواني نسبة إلى غزوان قبيلة من عرب تامسنا بمنطقة الشاوية، كان والده من أهل الصلاح والولاية حيث كوشف بما سيكون لابنه من عظيم الشؤون، وما سيؤول إليه من الوراثة الخاصـة والاندراج في سلك الولاية وديوان أهل الخصوصية.

تعلم القراءة وحفظ القرآن، ثم رحل إلى فاس بقصد طلب العلم في مدرسة الوادي، وهناك سمع بالشيخ أبي الحسن علي صالح رضي الله عنه. ويحكي ابن الموقت قصة لقائه به وظروف اجتماعهما في قوله:

“وكانت جماعة من الفقراء تجتاز في عشية الخميس بباب المدرسة، فتساءل الطلبة فيما بينهم إلى أين يجتازون، فقال بعضهم الزاوية قريبة هنا، فقالوا هل لكم في المبيت معهم فنتفرج في حضرتهم أي السماع ونشبع من الكسكس عندهم. فساروا إلى الزاوية بهذا القصد وفيهم الشيخ سيدي عبد الله الغزواني، فلما أخذ الفقراء في الذكر دخل معهم فيه، فأدركه في باطنه أمر عظيم، {…} فلما نزل به ما نزل جلس بين يدي شيخ أولئك الفقراء وهو الشيخ أبو الحسن علي صالح، وقص عليه قصتـه وطلب منه أن يقبله مريدا، فقال الفقراء يا سيدي اقبله، فقال لهم هذا عربي قوي وسأبعثه لشيخي سيدي عبد العزيز التباع بمراكش”[19].

ثم صحب شيخه التباع ولازمه، فندبه الشيخ للقيام بشؤون الزاوية ورعاية مصالحها، كما استعمله على حياطة بستانه وخدمته، إلى أن حان وقت اختباره وإظهار مزيته وفضله بين إخوانه من المريدين الذيـن حاولوا تسور البستان واقتحام حمـاه بأمـر من الشيـخ فوجدوه منيعا، وحال الغزواني دون طلبهم. آنذاك استيقن الشيخ  كمال حال المريد وأذن له في الدعوة إلى الله، فتوجه إلى قبيلة بني مزكار بمنطقة الهبط، وهناك بنى زاويته، فالتف حوله الناس وكثر أتباعه لا سيما وأن له صلة بالمنطقة المذكورة، وأطبقت شهرته الآفـاق وتوجه إليه الناس من كل حدب وصوب.

وفي غمرة هذه الفتوحات كان السلطان المريني أبو عبد الله محمد بن الشيخ يتوجس خيفة من هذا الالتفاف غير المألوف حول الشيخ، فعزم أمره على استقدام الشيخ إلى فاس وسجنه، إلا أن السلطان سرعان ما أطلق سراحه واعتذر إليه، بعدما رأى منه خلاف ما بلغه عنه وما انتهى إليه من أموره العجيبة وكراماته الغريبة، فعرض عليه المقام بفاس فأجابه الشيخ إلى ذلك، فأقام زاويته داخل باب الفتوح خارج باب القليعة، وبعد فترة زمنية أخذ في الرحيل إلى مراكش بعد أن انتقد عليه أخ السلطان المريني إخراج ساقية من وادي اللبن زمن الجفاف والقحط لمساعدة الناس.

ويعد الإمام أبو محمد عبد الله الغزواني هو الوارث لسر شيخه سيدي عبد العزيز التبـاع والخليفة من بعده، وفي هذا يروى أنه لما توفي الشيخ سيدي عبد العزيز التباع اجتمع المشايخ من أصحابه في زاويته، لا يدرون أين وارث شيخهم، ثم أخذ كل واحد من الصفوة المجتمعين يظهر مزاياه وما ناله من شيخه من علوم ومعارف أو مقامات، إلى أن انتهى الأمر إلى أبي محمد عبد الله الغزواني الذي كان ساكتا ساكنا فقال له الجميع: “وأنت يا سيدي عبد الله ما الذي عندك وماذا تقول، فحينئذ حركوا منه ما كان ساكنا، وأظهروا من وجده ما كان كامنا، فقال: وأنا سلطانكم وصاحب سكَّتِكم، عندي تضرب، فمن طبعت له درهمه أو ديناره جاز ومن لا فلا.” وبعد استغراب واستنكار سلم له الجميع إذ قامت عندهم شواهد وراثته ولاحت لديهم دلائل ولايته.[20]

كان الشيخ رجلا مهيبا عظيم البدن تعلوه حمرة ويكسوه جلال وبهاء، وكانت تعتريه أحوال خاصة تدل على علو همته.[21] وكانت له مشاركة واسعة في أنشطة المجتمع، حيث كان يحث مريديه على مزاولة الفلاحة، وشق السواقي والسعي في حل الخصومات وسد الحاجات، وأقام طريقته على أسس وقواعد شيخه، وتستمد معالمها من مبادئ الطريقة الجزولية. وكانت وظيفته مبنية على تلاوة القرآن والإكثار من الصلاة على خير الأنام، كما كان يحث مريديه على قراءة أرجوزة الشريسي الموسومة: “أنوار السرائر و سرائر الأنوار”.

ومن أعظم كرامات الشيخ العدد الهائل من الشيوخ ذوي الهمـم العاليـة وأصحاب العناية، منهم الشيخ عبد الله بن احساين الأمغاري دفين تامصلوحت، والشيخ محمد الدقاق دفين باب دكالة، والشيخ محمد بن علي بن مهدي الهراوي الزمراني المعروف بالطالب، والشيخ أبو الحجاج يوسف بن الحسن التليد، والشيخ عبد الوارث بن عبد الله اليلصوتي، والسيدة الجليلة عائشة بنت أحمد بن عبد الله، وغيرهم ممن نال درجة الرسوخ في مقام التمكين بفضل شيخهم أبي محمد الغزواني.

وكانت وفاته سنة خمس وثلاثين وتسعمائة (935ﻫ)، ودفن بزاويته بحي القصور بمراكش، وبنيت عليه قبة عظيمة لها مزارة مشهورة لا زالت تقصد بالتبرك ويؤمها الناس للاعتبار.

الإمام أبو القاسم عبد الرحمن السهيلي (ت581 ﻫ): ﴿سلامة اللسان و استجابة الدعوة﴾

هو الإمام أبو القاسم وأبو زيد عبد الرحمن السهيلي بن الخطيب بن محمد بن عبد الله بن الخطيب أبي عمر أحمد بن أبي الحسن أصبغ بن حسين بن سعدون بن رضوان بن فتوح السهيلي. وهو من بيت علم وخطابة ينتسب إلى “سهيل”، وهي بلدة إسبانية قديمة يرجع تاريخها إلى عهد الرومان، تقع على البحر الأبيض المتوسط.

أما نشأته فكانت في مدينة “مالقة” حسب قول تلميذه ابن دحية، وفقد بصره وهو ابن السابعة عشرة من عمره. وقد عاش السهيلي بين سنة (508 و581 ﻫ)، وهي فترة من عمر الأندلس شهدت دولتين عظيمتين هما دولة المرابطيـن [493-541(ﻫ)] ودولة الموحديـن [541-668(ﻫ)]، حيث بلغت الأندلس في عهد أمراء الطوائف الذين خلفهم المرابطون نهضة فكرية لم تبلغها في عصورها المختلفة، رغم التمزق السياسي الذي عرفته في ذلك الوقت، والذي أدى إلى هجرة كثير من العلماء نحو المغرب، كشيوخ أبي القاسم السهيلي الذين اشتغلوا بالتأليف والتدريس في عهد المرابطين، وتخرج على أيديهم كثير من الأساتذة الذين اشتهروا في العصر الموحـدي، وهو العصـر الذي شارك فيه الشيـخ أبو القاسم السهيلي أستاذا مرموقا حيث ازدهرت الحركة العلمية والأدبية؛ لأن الموحدين كانوا يقدرون العلوم والفنـون، فأطلقـوا حرية الفكر فبرز الفلاسفـة والعلمـاء والشعـراء والمحدثون.

 في خضم هذه النهضة الفكرية العظيمة كان أبو القاسم السهيلي ذائع الصيت، فقد كان أحد العلماء الأكابر الفصحاء البلغاء المشاهير، أعجوبة الزمان في الحفظ والفهم والإتقان والغوص على المعاني الدقيقة البديعة، والنكت اللامعة الرفيعة، الحافظ الحجة الكبير المحقق المتقن النظار الشهير، المتفرد في عصره بعلم اللغة والسير وحفظ أيام العرب وأقوالها وحكمها، وأمثالها وحفظ دواوينها، ذا التصانيف الفريدة، والمؤلفات المفيدة والعلوم الباهرة، خاتمة أهل زمانه. وقد تعرض لتعريفه علماء كثيرون كالعلامة بن خلكـان في كتـابه “وفيـات الأعيـان” والعلامـة ابن فرحـون في كتابـه “الديبـاج المذهـب” والعلامة المقري في كتابه “نفح الطيـب” والعـلامة جعفر الكتاني قي كتابـه “سلوة الأنفاس” وغيرهم، وملخص ما ذكروه فيه أنه كان رضي الله عنه مالكي المذهب عارفا بالفقه والعربية واللغة والقراءة والكلام والأصول والأدب، بارعا في ذلك، جامعا بين الرواية والدراية عالما بالتفسير وصنعة الحديث، حافظا للرجال والأنساب والتاريخ، واسع المعرفة، غزير العلم، نبيها ذكيا، صاحب اختراعات واستنباطات ونوادر غريبة وبوادر في الخير عجيبة، وصلاح وفلاح.

تصدر الإمام السهيلي للإقراء والتدريس، وكان ببلده يتسوغ بالعفاف ويتبلغ بالكفاف، حتى نما خبره إلى صاحب مراكش، فطلبه إليها وأحسن إليه وأقبل بوجهه على الإقبال عليه، وأقام نحو ثلاثة أعوام وأخذ الناس عنه وانتفعوا به وظهرت له كرامات، ويحكى أنه لما أتى به أمير وقته لهذه الحضرة المراكشية قال: إني لا أطيق فراق محلي وأهلي، فأمر السلطان بتصوير محله وبنيانه بهذه البلدة على ما هو عليه ببلدة مالقة، فبني كذلك، ووجه السلطان لأهله من غير علم به إلى أن وصلوا للمحل الذي هو نظير محلهم، فبعد ذلك أمر السلطـان أبا القاسم السهيلي أن يجتمع بأهله في محلـه، فلما دخل وجد أهلـه والمحل كأنه محله الأصلي من غير زيادة ولا نقصان، ووجد جميع ما يملكه في محله الأول حاضرا فتعجب من ذلك، وحمد الله العظيم المالك الذي سخر له السلطان لتهيئة تلك المسالك، ومحل سكناه سابقا المعد له بمراكش هو الدرب المعروف بدرب القنارية.

وله رضي الله عنه تآليف عديدة، من أشرفها وأشهرها: ” الروض الأنف” في شرح سيرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله كتاب “التعريف والإعلام في ما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام”، وله كتاب “نتائج الفكر”، وكتاب “شرح آية الوصية في الفرائض”، و”مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام”، و”مسألة السر في عور الدجال”، و”الزاهر الأنيق في قصة سيدنا يوسف الصديق”، إلى غير ذلك من التآليف المفيدة، وقد عرف بالزهد والصبر على البلوى_لأنه ابتلي بالعمى، وقد توفي بمراكش سنة (581ﻫ)، ودفن وقت الظهر خارج باب الرب، وهو أحد أبواب مراكش، وبنيت عليه قبة حافلة بناها السلطان سيدي محمد بن السلطان عبد الرحمن بن هشام العلـوي، وقبره مزارة شهيرة تأوي أضرحة علماء وأولياء صالحين.

 ومن كراماته الشهيرة رضي الله عنه أن من صعبت عليه قراءة النحو فليقصد زيارته يوم الخميس بالخصوص، فإن الله ببركته يسهل عليه ذلك. وكانت له رضي الله عنه أشعار كثيرة منها قصيدة ما سأل الله بها أحد حاجة إلا أعطيها، وكذا من استعمل إنشادها:

يا من يرى ما في الضمير ويسمع                أنت المعـد لكـل مــا يتوقــــــــــــع

يـا من يرجـى للشدائـد كلــــــــــهــا                 يـا من إليه المشتكى و المفـزع

يا من خزائـن ملكه في قول كـــــــــــن                  امنـن فإن الخيـر عنـدك أجمـع

مالـي سوى فقـري إليك وسيلـــــــــــــة            فبالافتقـار إليـك فقـري أدفـــــــــــع

مالي سـوى قرعي لبابـك حيلــــــــة              فلئـن رددت  فأي بـاب أقـرع

ومن الذي أدعـو و أهتف باسمـه             إن كـان فضلك عن فقري يمنـع

حـاشا لمجدك أن تقنـط عاصيـــــــا           والفضل أجزل والمواهب أوسـع

  ثم الصـلاة على النبـي و آلــــــــــــه           خيـر الأنـام و من بـه يستشفـع

الهوامش:


[1]-التشوف إلى رجال التصوف، أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي المعروف بابن الزيات.ص 312 تحقيق الأستاذ أحمد التوفيق منشورات كلية   الآداب بالرباط لطبعة الثانية 1997

[2]-التشوف، ص 313

[3]- سورة الحشر، الآية: 9

[4]- السعادة الأبدية في التعريف بمشاهير الحضرة المراكشية، تقديم وتحقيق د.حسن جلاب و ذ.أحمد متفكر. 1 /71 -72 الطبعة الأولى مراكش  2002.

[5]-التعريف لأبي عبد الله محمد بن عياض ص2، تحقيق و تقديم د.محمد بن شريفة طبع وزارة الأوقاف المملكة المغربية.

[6]- التعريف لأبي عبد الله محمد بن عياض 10.

[7] السعادة الأبدية 1/151 .

[8]- نفسه 1/152.

[9] – بلوغ الآمال ص 94-95.

[10]- السعادة الأبدية ج2/ص 284.

[11]- بلوغ الآمال ص 97.

[12]– في هذه الفترة أعطى المنصور الموحدي للشيخ دارا قرب الكتبيين حيث تزوج وأنجب أولادا وحبس عليه المنصور مدرسة كان يدرس بها اللغة والحساب.

[13]- السعادة الأبدية2/287.

[14]- ممتع الأسماع في ذكر الجزولي و التباع و ما لهما من الأتباع  طبعة حجرية فاس 1313 (ﻫ) ص5.

[15]- السعادة الأبدية 2/304.

[16]ـ ولتأليف كتاب دلائل الخيرات سبب ومناسبة، وهو أن الإمام أراد أن يتوضأ حين حضر وقت الصلاة فلم يجد ما يخرج الماء من البئر، “فبينما هو كذلك إذ نظرت إليه صبية من مكان عال، فقالت له: من أنت، فأخبرها، فقالت له: أنت الرجل الذي يثنى عليك بالخير، وتتحير فيما تخرج به الماء من البئر، وبصقت في البئر ففاض ماؤها على وجه الأرض، فقال الشيخ رضي الله عنه بعد أن فرغ من وضوئه: أقسمت عليك بم نلت هذه المرتبة، فقالت بكثرة الصلاة على من كان إذا مشى في البر الأقفر تعلقت الوحوش بأذياله صلى الله عليه وسلم، فحلف يمينا أن يؤلف كتابا في الصلاة على النبي صلى الله عليـه و سلم.”[1] السعادة الأبدية/ ابن الموقت 2/321- 320. وأثناء إقامته بفاس اكتمل للشيخ المراد وتحقق المطلوب، فجمع كتابه معتمدا على كتب خزانة القرويين، وقبل ذلك الاعتماد، كانت المحبة في الذات المحمـدية حاديا والشوق إلى ركب الأحبة سائقا.

[17]- ممتع الأسماع في ذكر الجزولي و التباع و ما لهما من الأتباع، ص 175.

[18]- السعادة الأبدية: 2/363 .

[19]- السعادة الأبدية 1/376.

[20]- بلوغ الآمال ص 194-195. – السعادة الأبدية 2/381-380.

[21]- نفسه 2/382.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق