وحدة الإحياءدراسات عامة

الاستعداد لفهم جديد .. والتساكُنُ الصعبُ بين السيرة والمنهج

أولا 

تخرجتُ بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر عام 1970، وفي رأسي فكرةٌ واحدةٌ: الذهاب إلى ألمانيا (الغربية أو الاتحادية وقتَها) للدراسات العليا. وقد سيطرت عليّ هذه الفكرة أو هذا الهاجس لسببين: قراءة كتب عبد الرحمن بدوي، والتعرف عن قُرب على الدكتور محمد البهي. وقد بدأْتُ بقراءة كتب بدوي في العام 1964 بمكتبة المعهد الديني ببيروت، وكانت يومَها مختلطةً بكتب عباس محمود العقّاد وطه حسين. فلمّا ذهبتُ إلى مصر للدراسة بالأزهر، وكان العقّاد قد توفّي عام 1964، بذلتُ جَهداً للتعرف على بدوي، لكنني لم أُفلحْ في ذلك إلاّ عام 1969؛ لأنه كان يدرّس بالدول العربية، وأخذني طالبٌ سودانيٌّ بكلية اللغة العربية بالأزهر لمقابلة طه حسين مع عددٍ من الزملاء، ورأيناه بعد ذلك بالجامعة العربية (= الإدارة الثقافية)؛ ومرةً بالأهرام. لكنني أنفقْتُ السنتين الأُوليين بالأزهر بقراءة كتب بدوي وترجماته جميعاً: عن الفلسفة الإسلامية والاستشراق، وعن الفلسفات اليونانية والحديثة، وعن الفلسفة الألمانية. وفي شتاء العام 1967 أخذنا أُستاذُنا الدكتور محمود زقزوق لمقابلة أُستاذه المتقاعد الدكتور محمد البهي، في منزله بضاحية مصر الجديدة. وكان معنا طلابٌ من أصول الدين ومن كلية اللغة العربية، وواحد لبناني من كلية الشريعة. إنما لم يواظِبْ على الذَهاب معي بعد ذلك أحدٌ منهم. وقد امتدت علاقتي به إلى ما بعد تخرجي، فزرتُه من لبنان بعد العام 1970، وزُرْتُه من ألمانيا بعد العام 1973، وإلى أن توفّي عام 1982. أمّا بدوي فما جذبَني شخصُهُ ولا دروسُهُ بل كتبه، وأمّا الأستاذ البهي، رحمه الله، فقد اجتذبتْني كتبه لفترة، ثم اقتصرت الجاذبيةُ على شخصه وسيرته. إنما ظلَّ المشتركُ في ذهني بين بدوي والبهي أنّ الرجلين يحملان في شخصيهما وتفكيرهما السمتان المميزتان للفكر الألماني: النظافة والوضوح، والصلابة المنطقية والعملية! فقد مضى البهي بعد أن تخرج من كلية أصول الدين بالأزهر في أواخر الثلاثينات من القرن العشرين، فدرس ببرلين، وكتب أُطروحته عن تربوية محمد عبده النهضوية. ولمّا رجع، بعد أن تزوج بسويسرا بنت الشيخ علي الغاياتي شاعر الخديوي عباس الثاني! أقبل على التدريس والتأليف، ثم صار مديراً للإدارة الثقافية بالأزهر، ثم مُديراً لجامعة الأزهر. وقد اقترن هذا الصعود لديه بثورة يوليو وأفكارها الجديدة. ولذلك أسهم إسهاماً بارزاً في كتابة القانون الجديد للأزهر، ثم عُيِّن عام 1962 وزيراً للأوقاف وشؤون الأزهر، لتطبيق قانون الأزهر الجديد. وبين العامين 1962 و1964 كان قد جلب على نفسِه بسبب إدارته الصارمة من جهة، وعدائه للفكر الاشتراكي من جهةٍ ثانية، عداواتٍ جمة: كل مشايخ الأزهر التقليديين بمن فيهم محمود شلتوت شيخ الأزهر، ورجالات ثورة يوليو وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، ورجالات الثقافة المصرية الجدد من العلمانيين والتنويريين، والحركات الإسلامية الجديدة من الإخوان والسلفيين! وهكذا أقيل من منصبه عام 64، وفُرضت عليه الإقامةُ الجبريةُ بمنزله، وانقطع عنه الزوار، وانصرف للتأليف الكثيف. إنما عندما زرتُه في شتاء العام 1967 كان الحصار عليه قد خفَّ، لكنّ عقدة الاشتراكيين والاشتراكية ظلّت قويةً ومستحكمة. مؤلفات بدوي، وصلابة البهي، هما اللتان أرسلتاني إلى ألمانيا إذن. لكنّ تأثير مصر وتأثير ثقافة الأزهر وواقعه في الستينات، ما اقتصرا على ذلك. فقد تعرفْتُ على عشرات الأساتذة رجالاً ونساءً، ومئات الكتب، وحضرتُ وعشْتُ أحداثاً ضخمةً أهمّها هزيمة العام 1967، وموت جمال عبد الناصر عام 1970. أما الأساتذة فقد ترك فيَّ تأثيراً عميقاً كُلٌّ من الشيخ عبد الحليم محمود، والشيـخ محمد أبو زهرة، والدكتور علي سامي النشار، والدكتورة بنت الشاطئ (= عائشة عبد الرحمن)، والزميل الشيخ أحمد الطيّب الذي ذهب إلى السوربون عندما ذهبْتُ إلى ألمانيا، وهو الآن شيخ الأزهر، وقد تسنّم من قبل مناصب عمادة كلية أصول الدين، وإفتاء مصر، ورئاسة جامعة الأزهر.

عندما تعاقد الشيخ عبد الحليم محمود(وكان يدرّسنا مادة التصوف وهو عميد كلية أصول الدين. وقد صار فيما بعد  وزيراً للأوقاف، ثم شيخاً للأزهر) مع الشيخ محمد أبو زهرة لتدريسنا مادة أُصول الفقه، كان أبو زهرة قد تقاعد من تدريس مادة الفقه الإسلامي بكلية الحقوق بجامعة القاهرة. وكانت سوق الكتب الإسلامية غاصّةً بكتبه في الفقه والأصول وشخصيات الفقهاء الكبار، وآليات التجديد في الفكر الإسلامي. وقد أذهلتنا نحن طلاب الإسلاميات اطّلاعاته واجتهادياته العميقة ليس في الفقه والأُصول وحسْب؛ بل وفي العلوم الكلامية. وما كان ذلك الإعجاب المتبادَل بديهياً؛ لأنّ كلاّ منا كانت  وراءه  عشر سنواتٍ على الأقلّ في دراسة الإسلام، بينما لم يكن الأمر كذلك لدى طلابه بجامعة القاهرة. وما تزال باقيةً في ذاكرتي الكليلة بعد زُهاء أربعين عاماً ونيِّفاً محاضراتُه في مباحث العِلّة في الأُصول، وعلائق الفقه بالكلام. وقد قلتُ له مرةً: ليتك يا مولانا ما كتبْتَ رسالتك: محاضرات في النصرانية، فهي ليست في مستوى مؤلفاتك الأُخرى! وما تلقّى الشيخ الجليل ملاحظة الولد الشامي، كما كان يسميني، بالقبول الحَسَن، وذكّرني بها عندما زرتُه عام 1972 مع الشيخ حسن خالد مفتي لبنان رحمهما الله.

والشيخ محمد أبو زهرة حنفيُّ المذهب، وهو الذي دفعني، إلى جانب الشيخ محمد المغربل أُستاذ الفقه بالمعهد الديني ببيروت، لاعتناق هذا المذهب في الشعائر والعبادات. فأهلُنا في الشام شافعيةٌ في سوادهم الأعظَم، وما أزال حتى اليوم، وعندما أُقدَّم للإمامة في الجمعة أو الأعياد، أُقلِّدُ الشافعيَّ كما وعدْتُ والدي، رحمه الله، بذلك. كما تعاهدْتُ مع الشيخ أحمد الطيّب على الأمانة للمذهب العَقَدي الأشعري، وسط انصراف زملائنا منذ ذلك الحين للمعتزلية الجديدة، أو للسلفية. وقد قدَّمْتُ بهذه السطور المُربكة لأَصِلَ إلى أنّ الشيخ عبد الحليم محمود كان صوفياً شاذلياً شافعياً أشعرياً. وقد أحببتُ فيه سمْتَهُ الهادئ والواثق والوادع، على ذكاءٍ شديدٍ وتواضُعٍ أشدّ. وكنتُ قبل أن أدرس عليه أميل لكلاميات الباقلاّني والجويني وفخر الدين الرازي والإيجي والنَسَفي، امّا عنده فما بقي هناك مجالٌ لغير الغزالي وفي إحيائه بالدرجة الأُولى (وكان الشيخ يكاد يحفظه غيباً!)، وإنما ما كان عنده مانع أن يقرأ معنا: المنقذ من الضلال للغزالي أو قوت القلوب للمكي أو الرسالة للقشيري، وقد أعدَّ لكلّ هذه  الكتب نشراتٍ جديدةً ومُشرقة.

وما اكتفى الشيخ محمود عامداً أو غير عامد أن يجعل من شخصه وسيرته نموذجاً لنا، بل تعاقد أيضاً مع الدكتور علي سامي النشار، والدكتور محمود قاسم لتدريسنا علم الكلام والفلسفة الإسلامية. والنشار كان أستاذاً للفلسفة بجامعة الإسكندرية، ومحمود قاسم كان أُستاذاً للفلسفة بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة. وفي حين كان النشّار مشغولاً بالدعاية للأشعرية والإحياء لها، كان قاسم مشغولاً بابن رشد والرشدية، والدعوة لاتّباع نهجها ونهج الاعتزال في الأزمنة الإسلامية الحديثة. وكلا الرجلين كانا في الأربعينات من تلامذة الشيخ مصطفى عبد الرازق، وكانا يتنافسان في إقناعنا بأنّ هذا التوجه أو ذاك هو مقتضى الفهم الصحيح لرؤية الشيخ الأكبر! وكان النشار، الذي كنتُ أميل لوجهة نظره وإن لم يعجبني منظره وعاداته، يحضر لنا  بالإضافة لكتبه، كتاب الشيخ  مصطفى: “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية”. بينما كان الدكتور محمود قاسم، الأفضل سمْتاً، والأكثر اتّساقاً في دروسه، يحضر لنا بالإضافة لكتبه، كتاب إبراهيم مدكور:” في الفلسفة الإسلامية، منهجٌ وتطبيقه”.

وما كسبْتُ من مصر تقليداً إسلامياً صلْباً، واطّلاعاً واسعاً على شتى الاتجاهات  بفضل انفتاح مصر ودورها في الستينات، وتوجُّهاتٍ نهضوية وتجديدية في المجال الأكاديمي وحسْب؛ بل كسْبتُ صداقاتٍ وزمالاتٍ بين طلاّب كليتنا والكليات الأُخرى. وهم من بلدانٍ إسلامية شتى فيما بين المغرب وإندونيسيا. فقد كانت “العالمية الإسلامية” في أَوْج تحقُّقها وتجلياتها في مصر الستينات. وما تزال العلائق مستمرة، وقد تفارقْنا في العشرينات، ونحن جميعاً اليوم في الستينات والسبعينات من أعمارنا. وأودُّ في هذا المجال أنّ أتذكَّر شيخ الأزهر الحالي[1]، الشيخ أحمد الطيب. فقد كان أعلى منا بسنتين، وهو الذي قرَّبني من الشيخ عبد الحليم محمود، وهو من أُسرة صوفية كبيرة بالصعيد، وصاحب سمْت أخلاقي نظيف، وعقل نيِّر. وقد كان شديد التأثُّر بالشيخ عبد الحليم محمود بحيث ذهب إلى السوربون مثله. ومما استفدتُ منه إضافةً للصداقة الباقية، انفتاح الشخصية على الاستماع والقراءة في سائر الاتجاهات، وعدم الخوف من الجديد. وقد كان يقول لي عندما أُعلن سُخْطي على هذا الأمر أو ذاك: إسمع دونما انزعاج وإلاّ فلن تفهم شيئاً، ونحِّ عن نفسِك عقلية المؤامرة على الإسلام، فالله سبحانه يقول في كتابه: ﴿إنّا نحن نزّلْنا الذكر، وإنّا له لحافظون﴾ (الحجر: 9)؛ وما تكفَّل الله بحفظه فلن يستطيع أحدٌ إضاعته، وإنما علينا نحن أن نفهم الجديد وأن نستعدّ لاستقباله، وأن نحاول المشاركة فيه، بحسب إرادتنا وقدراتنا وقناعاتنا ومصالحنا!

ثانيا 

عندما تحقّق أخيراً أملي وعملي على الذهاب إلى ألمانيا، كان حماسي لذاك الذهاب قد تضاءل حتى كاد ينطفئ. ويرجع ذلك إلى الظروف المضطربة بلبنان آنذاك، والآن! وأنا أتحدث هنا عن العام 1972، والذي حصلْتُ فيه على منحةٍ للذهاب لمتابعة دراساتي العليا بجامعة توبنغن بألمانيا الغربية. وصلتُ إلى ألمانيا أواخر شهر أغسطس (آب) من ذلك العام، وكنتُ كما يقول اللبنانيون”كالأطرش في الزفَة”؛ إذ لم أكن أعرف أيَّ لغةٍ أوروبية. كما أنّ الصَمَم لديَّ ما كان سببه الجهل اللغوي فقط، بل كثرة الأصوات وتعالي ضجيج سائر الدعوات. وقد كانت الشهور الأُولى بالغة السعادة بالنسبة لي؛ لأنني انصرفْتُ فيها عن كل أحدٍ وشيئ لتعلُّم لغتين في الوقتِ نفسِه: الألمانية والإنجليزية. وقد كنتُ أتعلم الألمانية في مدرسةٍ للغات بطريقة منتظمة، وخمس ساعات كلَّ يوم. ثم أذهب في الأمسيات إلى معهدٍ خاصٍّ لتعلُّم الإنجليزية في كتبٍ مدرسيةٍ ألمانية! ثم أنشغل في الليالي وفي آخِر الأُسبوع بكتابة الدروس والتمارين والإنشائيات، وأُحاولُ أن أقرأ بعض الروايات (التي سبق أن قرأْتُها بالعربية!)، مع إقبالٍ منقطع النظير على قراءة مجلة جمعية المستشرقين الألمان منذ أول أعدادها عام 1848 وحتى العدد الصادر عام 1970!

ما استفدتُ، إذن، من نصيحة الدكتور محمد البهي عندما حذَّرَني من متابعة دراساتي بألمانيا عند المستشرقين. فقد كانت وجهةُ نظره أنّ الإسلام ليس مشكلةً تحتاج إلى حلّ، وإنما هو ثقافةٌ ونهج حياة ويُدرَسُ لدى علماء الاجتماع أو التاريخ أو فلاسفة الدين، وليس لدى أولئك الذين يعتبرونه شيئاً شاذاً وخصوصياً ويحتاج إلى تعليلٍ وتأويلٍ للخروج من أَسْره أو من سحره لدى المجتمعات الشرقية الانقسامية. وما استطعتُ اتّباع إرشادات البهي لأسباب مختلفة، لكن ما انشغلْتُ، حسبما اعتقد البهي، بإشكاليات تبرير الإسلام أو الدفاع عنه أو الخروج منه. بل شغلتْني قضايا الفهم وإشكالياته ومناهجه. قلتُ إنني استرحْتُ في الشهور الأُولى بألمانيا لانصرافي إلى تعلُّم اللغة أو اللغات، والاطّلاع على الاستشراق الألماني. فأنا منذ الصِغر شديد الإصرار على التعلُّم أو هكذا كنتُ، وعندما أدخُلُ في أمرٍ أنسى كلَّ ما عداه، ولا أخرجُ منه إلاّ بعد اليقين من أنني ألممتُ بأطرافه الأساسية والبارزة. وقد حصل ذلك خلال العام 1972/1973. فعادت المشكلاتُ بعد التشبث بتعلُّم لغة أجنبية مهما كلّف ذلك، إلى أُصولها أو وجهها الحقيقي. كان أُستاذنا جوزف فان أس (أكبر دارسي الكلاميات الإسلامية بين المُعاصرين)، يعتقد أنّ المشكلة التي ستُواجهُني هي مشكلة الإيمان، ولذلك أرسلني للاستماع إلى اللاهوتيين المسيحيين الكبار بجامعة توبنغن وقتَها ومن بينهم راتسينجر (البابا الحالي)، وهانز كينغ، أكبر أعداء اللاهوت الكاثوليكي التقليدي. لكنه عندما راقَبَ أسئلتي والأوراق التي كتبتُها عام 1974، قال لي أثناء مناقشةٍ لاختيار موضوع أُطروحة الدكتوراه: المشكلة عندك منهجية وليست إيمانية، وعليك التعمُّق في تاريخ الدين وفلسفاته واجتماعياته. ورغم إدراكي لصحة ملاحظته، فقد أصررتُ على اختيار موضوعٍ تقليدي بمقاييس ذلك الزمان، هو: “ثورة ابن الأشعث والقراء(82-84ﻫ)، دراسة في التاريخ الديني والاجتماعي للإسلام الأول”. ولستُ أدري الآن سبب اختياري ذاك، إنما ربما كان ذلك لاعتباري أنّ “القراء” هؤلاء، والذين ثاروا على الأُمويين مع شيوخ القبائل بالبصرة والكوفة وخراسان وسجستان، شكّلوا البيئة أو البيئات الأُولى لفئتي المتكلمين والفقهاء، الذين صنعوا الصورة التاريخية عن “الدين” في اجتماعنا التاريخي، وعلائق الدين بشتّى السُلُطات: السياسية والاجتماعية والفكرية. لكنني انصرفتُ في الأعوام 73 و74 و75 لاستكشاف المنهج أو المناهج الملائمة لفهم الظاهرة الدينية أو الإسلامية، وفي شتى الأزمنة والأحوال! وفتنتْني “التاريخانية”، والإنسانوية، ومفكروهما في القرنين التاسع عشر والعشرين. ثم أعرضتُ عنهما تحت وطأة إغراءات ماكس فيبر الذي أتْقن التاريخانية ثم خرج عليها بوعي عندما خرج على التطورية في صيغتها الألمانية. وقد أدركْتُ وقتها العلائقَ الوثيقة بين كانط وفيبر، لكنّ زملائي، حتى الذين كانوا يدرسون لدى الفلاسفة، كانوا يسخرون مني، ويعيدون ذلك إلى تقليديتي، وخَوْفي من راديكاليات ثورة الطلاب عام 1968، ومن راديكاليات اليسار الجديد، ومن القراءات الجديدة لنيتشه. فقد كان هايدغر (توفي عام 1976) ومؤوّلوه من القديم المتروك لديهم، فكيف بكانط وفيبر! ما كان الزملاء الذين عرفتُهم بالجامعة خارج الاستشراق، مستعدين للاعتراف وعلى تردّد إلاّ بهيغل والهيغليين الجدد، وبالإبستمولوجيا الفرنسية الطالعة مع ألتوسير وباشلار وفوكو. وقد أصغيتُ بعضَ إصغاء لمطالباتهم بفوكو، إنما لم أُصغ أبداً للهيغليات. فقد قرأتُ وأُعجبتُ وقتَها بكتابي كارل بوبر: منطق البحث العلمي، والمجتمع المفتوح وأعداؤه. وفي المجتمع المفتوح فصلان طويلان، أحدهما في إدانة أفلاطون ومثالياته، والآخر في إدانة هيغل واحتيالاته اللغوية، وإفساده للسان الألماني بحجة اجتراح الجديد! وقد أقبلتُ على قراءة ميشال فوكو، وقراءة نتاجات مدرسة الحوليات الفرنسية، وسحرتْني الإبستمولوجيات التي تَهَبُ التاريخ معنًى أو معاني جديدة. وتطوَّر هذا الاهتمام لديَّ بحيث انصرفْتُ عام 1975 بكامله تقريباً، (وكنتُ قد ذهبْتُ في صيفه إلى فرنسا لتعلُّم بعض الفرنسية!)، لقراءات استقصائية في الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا وفلسفة الدين. إنما في العام 1976 وعندما بدأتُ بكتابة الأُطروحة، ما كان قد بقي في ذهني وبشكلٍ واعٍ غير “منطق البحث العلمي” لبوبر، والثورات العلمية لكون، وآثار ماكس فيبر في سوسيولوجيا الدين، ونشوء الجماعات الدينية.

في حدود العام 1976، وأنا أُقبلُ على كتابة أُطروحتي، كان قد تبيَّنَ لديَّ أنّ شيوخ المستشرقين الألمان على الخصوص، ليسوا متآمرين، ولا عندهم عقدةٌ من الإسلام، لكنهم مقصِّرون جداً في متابعة مناهج العلوم الدينية والاجتماعية وتطوراتها. وحتّى التاريخانيين منهم تضاءل لديهم الوعي التنويري (الذي له سلبياتُهُ بالطبع)،  والآخر المتعلِّق بفلسفة العلوم. والذي استقرّ لديهم، وفيما بين فلهاوزن وكارل هينرش بيكر (1890-1930) العبور من “تاريخ الأفكار” إلى “التاريخ الثقافي”، كما أَوضح ذلك أُستاذنا فان أس في مقالةٍ مشهورةٍ له في مطلع الثمانينات من القرن الماضي. إنما من جهةٍ أُخرى؛ فإنّ أول ما تشير إليه الثورات في العلوم الاجتماعية، أنه ليس هناك في العلوم الإنسانية والاجتماعية منهجٌ عامٌّ وشاملٌ، ويمكن تطبيقه أو اتخاذه دليلاً في قراءة الظاهرة الدينية أو الإسلامية في شتّى العصور والأحوال. فانطباعي الأول عن أَولوية “المنهج” للفهم، صحيح، لكنّ الشمولية السحْرية والحالّة لكلّ المشاكل غير موجودة. وهذا فضلاً عن مشكلات تكاد تكون مستعصية مثل العلمية والموضوعية. وهذه دروسٌ أفدتُها من فيبر وبوبر، رغم ادّعائهما غير ذلك. وفي الواقع، فإنّ قراءات وتجارب الحقبة الألمانية، ظلّت مرتكزاتٍ لديَّ خلال العقدين اللاحقين، وإنما شعرتُ أنّ الإضافات التي تعلمتُها في الثمانينات من بول ريكور وغادامر، شكّلت تطوراً  نوعياً لديَّ في فهم النصّ الديني وقراءته.

ثالثا

ما فكَّرتُ في الحقيقة في تحديد الفروق بين التجربتين: المصرية والألمانية في حياتي وعملي العلمي. لكنكم تسألونني اليومَ عن ذلك، ويحتاج الأمر إلى تفكيرٍ وتأمُّل أَوسع وأعمق. فقد توالى على الكلام عددٌ منكم أشادوا بالجمْع بين الأزهرية والألمانية في ثقافتي وعملي العلمي، وهو جمعٌ أو اجتماعٌ كان أول مَنْ ذكرهُ عني أُستاذنا الكبير عبد الله العروي، في محاضرةٍ بالنادي الثقافي العربي ببيروت عام 1979. وسأُحاول في هذا الإيجاز أن أُشير إلى ما أعتبره فروقاً وتأثيرات متضاربة أو متداخلة. إنما  لو تأمَّلْنا وقبل الدخول في مسألتي أنا، سيرةَ أيٍّ منكم، لوجدْنا دونما طول تفحُّص، ولدى الذين انصرفوا لتعلُّم الإسلام في القرويين أو الزيتونة منذ الصِغَر، ثم ذهبوا إلى فرنسا أو غيرها، أنهم مثلي أو يشبهونني في الجمع بين التجربتين، إنما أنتم أو القرويون والزيتونيون منكم ذهبوا إلى فرنسا في الأكثر، وكان من سوء حظّي أو حُسْنه أنني ابتُليتُ بألمانيا كما ابتُليتم بفرنسا، وابتُلي كثيرون من كهولنا ببريطانيا والولايات المتحدة. وأنا أشعر اليوم، بل ومنذ عقدين وأكثر بالاعتزاز والخجل في الوقتِ نفسِه من الثناء الكبير الذي يُضفى عليَّ نتيجة السِحْر الألماني، والذي يُشبه إلى حدٍ بعيد ذاك السحر الذي أضفيتُه في شبابي على الراحل الكبير عبد الرحمن بدوي، لاستعراضاته الشاسعة لثقافته الألمانية، وقد فهمْتُ فيما بعد من سيرته التي صارت شهيرة، أنه ما قضى بألمانيا غير بضعة أشهُرٍ كان خلالها شديد الاهتمام بهتلر وصرامته الأخلاقية والقومية، والتي حاول إدخالها فيما بعد إلى الثقافة السياسية المصرية، وفشِل لحُسْن الحظّ!

ـ أول الفروق أو الافتراقات بين التجربتين المصرية والألمانية، أنني في مصر كنتُ مهتماً أو منجذباً إلى نماذج الأساتذة الكبار، والشيوخ الكبار. وكان سهلاً إلى حدٍ ما التواصُلُ معهم أو الوصولُ إليهم والتدلُّل عليهم أو التذلُّلُ لهم. وكانوا حسني الاستقبال للطلاب من النوعين أو الشاكلتين. وما حاولْتُ ذلك بألمانيا حتى مع المشرف على أُطروحتي جوزف فان أس، فضلاً عن الآخرين الذي حضرتُ دروسَهم، أو كانت شهرتُهُم واسعةً بجامعة توبنغن والجامعات المجاورة أو العريقة. ولستُ أدري سبباً لذلك. فقد كانت مشكلةً ماديةً بالنسبة لي الذهاب إلى جامعة الإسكندرية أو غيرها بمصر للاستماع إلى النشار أو عفيفي أو الأهواني أو بنت الشاطئ، ومع ذلك ما كنتُ أُقصِّر مهما بلغت الصعوبات. وما فعلْتُ ذلك بألمانيا ولا حاولْتُهُ كما سبق القول، وكنتُ أُقبلُ أكثر على قراءة الكتب والمجلات العلمية التي ينشر فيها أتباع هذا التيار أو ذاك بحوثَهم. وربما عاد ذلك إلى ثقافة المكتبة التي سيطرت عليّ بألمانيا، وما كانت موجودةً أو مُقْنعةً أو كافيةً بلبنان ومصر. وقد تكون لذلك علاقةٌ أيضاً بالنمط التقليدي لتلقّي العلم على الشيوخ بالأزهر على وجه الخصوص. والأُستاذ في النظام الجامعي بألمانيا في العلوم الفلسفية والتاريخية والدينية أهمُّ من الشيخ بالأزهر أو بالجامعات المصرية، لكنّ هذا هو الذي حصل! وقد حصلتْ معي مفارقات في السنتين الأُوليين بألمانيا لهذه الناحية. فقد كنتُ أحضُر أيَّ درسٍ أو محاضرة في غير تخصُّصي الرئيسي، وقد أعددْتُ للأمر عُدَّته بقراءة ما تيسَّر من كتابات الأُستاذ في الموضوع، إنما في النقاش كان الأُستاذ يستغربُ مني هذ الفهم أو ذاك، وعندما أستشهدُ بكتابه أو مقالته، كان يقول إنني أسأْتُ الفهم أو ما اطَّلعْتُ على متغيّرات مذهبه! وبعد مدةٍ ما عدتُ أتكلم في ساعة الأسئلة والاستفسارات، وأترك ذلك للزملاء الألمان الذين ما كان حظُّهم غالباً أفضلَ من حظّي!

ـ والفارقُ الثاني، وقد ذكرتُه من قبل، أنني كنتُ في الأزهر ومصر، أهتمُّ بكمية المعرفة أو بالأحرى بالاطّلاع على سائر الاتجاهات، وبعضُها جديدٌ عليّ. بينما انصرفْتُ في ألمانيا بحكم السنّ  أو التجربة للاهتمام بالمناهج والتيارات. وكان ذهني بمصر يتجه فوراً عندما أسمعُ هذا الأمر أو ذاك، عن مدى اتفاقه مع ما كنتُ أعرِفُه، وعن دلالته في ظلّ الأَوضاع الثقافية والدينية بمصر. أمّا في ألمانيا، فقد كنتُ  أُحاول فوراً وضْعَهُ في ميزان إمكانيات الكتابة والإفادة منه بوصفه موديلاً لقراءة ظاهرةٍ أو نصّ. وما يزال هذا الأمر حاضراً لديَّ أكثر من استكشاف حضور الجديد الطالع. وقد يكون ذلك خطأً في التقدير، لكنها عادةٌ ألمانيةٌ قديمةٌ أرى وجوب التخلُّص منها بقدر الإمكان. ولا شكَّ أنّ سبب ذلك تحولي إلى كاتبٍ محترفٍ، وللكتابة ضروراتٌ آنيةٌ، يتراجع معها الاهتمامُ المحضُ بالاطِّلاع، والانسياق وراء متابعة الجديد. وعلى سبيل المثال فقد تأخرتُ كثيراً وسط الانشغالات بالإبستمولوجيا والإستراتيجيات، في اكتشاف أهمية كتاب جون رولز: نظرية العدالة (1972)، رغم الضجة الهائلة التي أحدثها منذ ما قبل صدوره وإلى اليوم. إنما عندما لاحظتُهُ أخيراً في العام 2002 وكنتُ أدرِّس للمرة الثالثة بكلية القانون بجامعة هارفرد؛ وتوفّي رولز عن عمرٍ عالٍ، أقبلْتُ إقبالاً يصل إلى حدود المبالغة على استكشاف أبعاد المقولة وآثارها ومقارناتها وتأثيراتها على مباحث القيم في القانون والفلسفة والأديان.

ـ والفرقُ الثالثُ وهو فرقٌ أو فارقٌ تداخُلي إذا صحَّ التعبير. فعندما خرجْتُ من مصر كان قد استقرَّ لديَّ أنني سأقضي البقية الباقية من عُمُري في قراءة الظاهرة الإسلامية ودراستها، والتعرف على تأثيراتها في ماضي الأمة وحاضرها. وقد أحببتُ مجالات بحثٍ كثيرة، وأتقنْتُ بعضَها بألمانيا وبأوروبا فيما بعد (بريطانيا على وجه الخصوص)، وبالولايات المتحدة حيث أذهلني ازدهارُ الجامعات، وأنها، بخلاف أوروبا، هي القابلة أو المولَّدة لكلّ الجديد في العلوم الإنسانية والإستراتيجية. إنما ظلَّ تفكيري منصباً على الإسلام وعالمه وتطورات مجتمعاته وظواهره ومظاهره. وقد كان بوُسعي منذ بدأتُ التدريس بالجامعة اللبنانية عام 1977 وإلى اليوم، الانصراف لتدريس الفلسفة الألمانية أو الفكر العربي الحديث، أو علم الاجتماع السياسي أو الثقافي. ولكلّ ذلك صِلةٌ ما بالإسلام وبحوثه. لكنني ظللتُ منصرفاً إلى ما اعتبرتُه همّي الأول وميزتي. ومن الطريف واللافت لهذه الناحية أمران: أنني ما مِلْتُ إلى تقليد أساتذتي الناجحين بألمانيا في بحوثي، وظللتُ أدنى فيما أقوم به إلى الذين أُعجبتُ بهم بالأزهر ومصر؛ من حيث الموضوع وليس من حيث المناهج أو الوظائف. والأمر الآخَر أنني ما خِفْتُ مرةً من الإسلام وظواهره المعاصرة النافرة، والتي خاف منها أساتذتي الألمان، وبعض المصريين منذ قيام الثورة الإيرانية، ومقتل الرئيس السادات. أذكُرُ أنني كتبتُ أول مقالةٍ لي عن “الإسلام المعاصر والعنف” عام 1978 عندما قامت “جماعة المسلمين” (المنبوزة باسم التكفير والهجرة) بقتل أُستاذنا الشيخ الذهبي (وكان وقتها وزيراً للأوقاف. وقد درّسنا عام 1969 مادة تاريخ التفسير القرآني). وقد دأبْتُ منذ ذلك الحين على متابعة تسيُّسات الصحوة، والتي حوَّلت الإسلام اليوم إلى مشكلةٍ عالمية. وكنتُ وما زلْتُ أرى أنّ هذا التوتُّر والتأزُّم في اجتماعنا الديني والسياسي ناجمٌ عن العولمة، وعن السياسات الدولية بمنطقتنا، وعن الاستبداد ومواريثه، وعن انكسار المؤسسة الدينية للتعليم والفتوى إمام الاستبداد والتطرف. وهذا ظاهرٌ في كتاباتي كلّها وآخِرُها: الصراع على الإسلام (2005). والذي أراه أنه لا مستقبل للظاهرة الأصولية الإسلامية العنيفة. لكنني ما اندفعْتُ كما اندفع أساتذتنا وزملاؤنا لاعتبار الإسلام القديم والمعاصر عِلّةَ العِلَل في مآزقنا. فقد انقسمنا نحن المثقفين منذ الثمانينات من القرن الماضي إلى قسمين: قسم يطالب الأنظمة العسكرية والأمنية بالإصلاح. وقسْمٌ آخَر (وبين أهل هذا القسم مثقفون بارزون وكبار) يعتبر الإسلام وانسداداته مسؤولاً عن كلّ المصائب التي نزلت وتنزل بنا! ومع أنني ما كتبتُ إلاّ أخيراً في نقد زملائي وأساتذتي لحملتهم على الإسلام قديمه وحديثه؛ فإنني على يقينٍ أنّ ديننا ما كان قديماً ولا هو اليوم بين عوامل التخلُّف أو الجمود أو الاستبداد. وهذا على صحته؛ فإنّ المتطرفين الذين يكونون دائماً أقلية يستطيعون أحياناً إفساد قضية الأكثرية.

ويقودُني هذا الاستنتاج إلى الفارق الرابع والأخير، وهو ليس فارقاً بقدْر ما هو ملاحظةُ تطور. فقد بدأْتُ أُلاحظُ التوتُّر بين السيرة والمنهج أو التأمُّل البحثي لديَّ منذ العام 1976، وهو العام الذي بدأْتُ فيه كتابة أُطروحتي. فقد كنتُ وما زلتُ أقرأُ كلَّ شيئ، وأتأمل تفكراً وكتابةً بحريةٍ كبرى كلّ شيئٍ تقريباً وبدون خوفٍ أو وَجَل. وأحسبُ أنّ هذا أمرٌ تعلمتُهُ بألمانيا، وازددْتُ اندفاعاً وراءه بأميركا. لكنّ سيرتي الشخصية لم تتغير من حيث الاطمئنان إلى الدين والتربية التقليدية والزهد والتوجُّس الشخصي من المراتب والمناصب وطموحات السلطة العلمية أو الاجتماعية أو السياسية، والإسراع بشبه اعتذار وإحساس بالذنب لمساعدة الزملاء وخدمة الطلاب وإن لم أكن مقتنعاً بجدوى ذلك أحياناً. وربما عاد ذلك إلى الأصل الريفي والفلاّحي. فالفلاح بطبيعته شديد الشكّ في نفسه وقدراته، وشديد التوجُّس من الطموح المظهري أو الذي يتطلب مُجازفةً ومُغامرة. لكنني من ناحيةٍ أُخرى أَوغلْتُ إيغالاً شديداً في الإعداد والاستعداد العلمي. وتوصّلْت إلى طروحات ومقولات مغيِّرة أو مطوِّرة في تاريخنا الديني والثقافي، وفي فهم ظواهر الإسلام المُعاصر. وقد رُميتُ من أجل ذلك بشتّى التُّهَم من جانب المتشددين المسلمين، ومن جانب العلمانيين المتطرفين. وما فتّ ذلك في عزيمتي ولا دفعني غير الاقتناع ووجاهة الاعتراض، للتراجع عمّا استقرّ لديّ أو استظهرتُهُ من الناحية البحثية. لكنني ما أزالُ أخشى كثيراً النبز الشخصي، أو “الاتّهام” بالطموح  لمنصب سياسي أو مكانة اجتماعية أو إدارية، أو الرمْي بالتكبُّر وعدم الاهتمام بالزملاء والطلاب. ومن مظاهر تلك “المحافظة” لديَّ تهيُّب الاعتراض أو المواجهة مع الزملاء مهما كانت الاختلافاتُ ظاهرة، وحتّى لو هاجموني شخصياً. فقد تهيبْتُ ولأكثر من عقدين الإقدامَ على نقد أُطروحات الأساتذة العرب الكبار عن القرآن أو الإسلام رغم اقتناعي بخَطَلِها وخطورتها على وعْي شبابنا المتديِّن وغير المتديِّن. وتهيّبتُ أيضاً المُضيَّ مع بعض أُطروحات النقد والنقض إلى النهاية خشيةً مفارقة الأليف أو بسبب التردد أمام المغامرة. فأنا لستُ راديكالياً رغم تصريحاتي الحادة أحياناً. وقد عنونْتُ مداخلتي هذه في ندوتكم بصعوبة التساكُن بين السيرة والمنهج، ولستُ أدري إن كانت الظاهرة التي وصَّفْتُها تستحقُّ هذا العنوان، لكنّ المفارقة المتوترة التي أحسستُ بها للمرة الأولى بألمانيا ما تزالُ ظاهرةً لديّ، حميدةً كانت أم خبيثة!

رابعا

عدتُ إلى لبنان من ألمانيا بعد حصولي على الدكتوراه في صيف العام 1977. وفي خريف ذاك العام، بدأتُ التدريس بقسم الفلسفة بالجامعة اللبنانية. وقد قطعت هذا العام عتبة الستين، وما أزالُ أستاذاً بالقسم نفسه، وسأتقاعد في العام 2014  إن كانت في العمر بقية. ليست لديَّ محطّة أو مراحل بارزة في حياتي غير التطورات العلمية وسأوجزُ فيها؛ لأنّ الزُملاء الكرام في هذه الندوة تحدثوا جميعاً وبكفاءةٍ نادرةٍ عن إنتاجي العلمي، وعن أُطروحاتي البارزة، وعن التأثير الذي تركتْهُ أو أحدثتْه شخصيتي وأبحاثي. ويتركّزُ نشاطي وعلى مدى أكثر من ثلاثين عاماً في أربع  نواحٍ: التدريس، وتأليف الكتب وكتابة الأبحاث، وإصدار المجلاَّت العلمية، ومحاولة التأثير في الرأي العام من طريق الكتابة بشكلٍ مستمرٍ وفي الثقافة والسياسة والاستراتيجيات في الصحف السيّارة. أما التدريس فقد قمتُ به بالجامعة اللبنانية واليسوعية والأميركية والمعهد العالي للدراسات الإسلامية بالمقاصد ببيروت. ثم ذهبتُ للتدريس بجامعة صنعاء عام 1988 وبقيتُ سنتين أُستاذاً بقسم الدراسات الإسلامية بكلية الآداب هناك. وذهبت في زمالةٍ إلى أوكسفورد. ودرّستُ في التسعينات في جامعتي سالسبورغ بالنمسا وبامبرغ بألمانيا، ومضيتُ طوال التسعينات وبشكلٍ دوري حتى العام 2002 للتدريس أستاذاً زائراً بالجامعات الأميركية هارفرد وشيكاغو وبرنستون. وكانت المواد أو الأرصدة التي أُدرّسُها هي مواد الإسلاميات الكلاسيكية: علم الكلام، والفقه وأصوله، وعلوم القرآن. وعندما بدأتْ كتبي وبحوثي في الإسلام المعاصر تظهر وتنتشر بعد أواسط الثمانينات. وكانت الظاهرة الإسلامية  قد انفجرت في العالم، صار يُطلبُ إليّ تدريس أرصدة أو مساقات في الحركات الإسلامية، أو في الظاهرة الأُصولية، أو في فلسفة الدين والقضايا المُعاصرة. وما أزال أُدرّس وأُشرفُ على أطروحات عشرات الطلاب. وقد تخرج لديَّ وبإشرافي المئاتُ بلبنان والخارج. لكنني لا أعتقد أنني أثّرت كثيراً لهذه الناحية. ولذلك إذا كان الزملاء الذين ألْقوا محاضراتٍ عن فكري في هذه الندوة، يرون أنني صاحبُ مدرسةٍ في دراسات الإسلام القديم والمعاصر، فلا شكَّ أنّ التأثير، ورغم المبالغة الأدبية، ما أتى من التدريس والطلاّب الخريجين، بل من المؤلّفات ومن المجلاّت التي أصدرتُها. ذلك أنني لا أعرفُ من اتّبعني في مقولاتي واهتماماتي وأُسلوبي في الكتابة من تلامذتي غير خمسةٍ أو ستةٍ من الشباب بلبنان ومصر والمغرب. ومن ناحيتي، فقد أفدتُ كثيراً في تطوير اهتماماتي ومناهجي البحثية من رحلاتي العلمية وتدريسي بالخارج. وأبرزُ ما يمكنُ ذكرُه تدريسي بجامعة صنعاء، وتدريسي بهارفرد وشيكاغو. ففي صنعاء تعرفْتُ على التراث الفقهي والكلامي الزيدي، وما أزالُ أُفيدُ من هذه المعرفة حتى اليوم في تحقيقاتي للنصوص وبحوثي، وأحمل أطيب الذكرى لبلاد اليمن الرائعة. أمّا في أميركا فقد أذهلتْني الحياةُ الجامعيةُ المزدهرة، واتّسعت اهتماماتي لتشمل الاستراتيجيات الثقافية والسياسية، وتعقُّل موقع الولايات المتحدة في العالم، وحيوية دور الأستاذ الجامعي في التقدم العلمي وفي التأثير السياسي والاجتماعي.

وقد انصبّ اهتمامي بالفعل بعد تخرجي في ألمانيا على التأليف. وكنتُ قد أحضرتُ معي ومن مواريث الدكتوراه فكرة كتابة تاريخ للفكر السياسي الإسلامي. وما اعتبرتُ الأمر في البداية جزءًا مما صار يُعرف لدى الإسلاميين بالسياسة الشرعية، ولا اعتبرتُه تاريخاً لمسألة الدولة؛ بل كان لديَّ في البداية عملاً من أعمال تاريخ الأفكار والتاريخ الثقافي. ثم ظهرت لديَّ الظلال والاهتمامات الفرعية، من مثل فكرة الدولة، وعلائق الدين بالدولة، وعلائق المثقف بالسلطان. وقد بدأتُ العمل الكبير هذا بتحقيق نصوصٍ ضرورية للدخول في المسألة أو الاهتمام، وكتابة دراسات تقديمية أو مقارنة لتلك النصوص. وكان من نتائج ذاك الاهتمام حتى مطلع التسعينات من القرن الماضي تحقيق ستة نصوص، وتأليف كتابين: “الأمة والجماعة والسلطة”، و”مفاهيم الجماعات في الإسلام”. وفي أواسط الثمانينات من القرن الماضي بدأتُ الكتابة في مسائل الإسلام المعاصر، وجمعتُ تلك الكتابات في مجموعتين: الإسلام المعاصر(1987)، وسياسيات الإسلام المعاصر (1997). وتطورت لديَّ فكرةُ التاريخ السياسي إلى تأريخٍ للفكر الإسلامي، فأصدرتُ عام 1997 أيضاً كتابي: “الجماعة والمجتمع والدولة”. وبعد الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، واشتداد التأزُّم في المجال العربي، وفي علائق العرب والمسلمين بالعالَم، أصدرتُ عدة دراساتٍ صغرى وكبرى أهمُّها: مقالة في الإصلاح السياسي العربي (2004)، والصراع على الإسلام (2005). واستذكرْتُ الاستشراق الألماني وتأثيراته ونعيتُه في كُتيِّبٍ عام 2007. وما اقتصرت أعمالي في عقدي الثمانينات والتسعينات على تحقيقات النصوص والمؤلَّفات، بل عمدتُ لترجمة نصوصٍ عن الإنجليزية والألمانية اعتبرتُها مفيدةً في فهم التجربة الإسلامية الوسيطة أو الحديثة. ونشطتُ في الوقت نفسِه وعلى مدى عقدين ونيِّف في كتابة البحوث في المجلاّت العلمية مثل مجلة الأبحاث بالجامعة الأميركية في بيروت، والمجلاّت التي رأسْتُ تحريرها أو عملتُ مستشاراً لها وهي: الفكر العربي (1979-1985)، والاجتهاد (1988-2004)، والتسامح العمانية (2004-2010). وهذه البحوث والمقالات، والأُخرى التي ألقيتُها في المؤتمرات منذ العام 1979، والتي زادت على المائة، إضافةً إلى الكتب التي زادت على العشرين، هي نتاجُ استطلاعاتٍ جديدة، وقراءات وكشوف مستقلّة. وقد تأثرتُ فيها من حيث الموضوعات والإشكاليات بالتكوين العلمي الذي عرضْتُ له فيما بين مصر وألمانيا، وتطوَّر لديَّ مناهج وبحوثاً في لبنان وبريطانيا واليمن والولايات المتحدة. وما قصّرتُ في المتابعة وعرض نتائج البحوث عن الإسلام والظاهرة الإسلامية المعاصِرة من خلال مراجعات الكتب الجديدة بالعربية والإنجليزية والألمانية. ففي ثبت البحوث المطبوع في مقدمة الكتاب الاحتفالي الذي صدر بمناسبة بلوغي الستين، زُهاء الـ 120 مراجعة أو قراءة نقدية لأكثر من سبعين كتاباً. وعلى أيِّ حالٍ؛ فإنّ الزملاء في الندوة عرضوا في بحوثهم للجهود البحثية التي قمتُ بها، كما عرضوا للمقولات الجديدة التي رأَوا أنني نشرتُها وسعيتُ للإقناع بها في المجالات القديمة والحديثة والمعاصرة.

إنما الذي أعتقده أنّ انتشار الاسم والذكْر، إنما جاء من المجلات الثلاث التي أصدرتُها أو شاركتُ فيها، وهي الفكر العربي،  والاجتهاد، والتسامح. وقد اعتبرتُ منذ البداية أنّ عملي في هذه المنابر الفكرية الراقية، لا يتمثّلُ في عرض أفكاري وتوجهاتي، بل عرض الجديد والنقدي والمتطور في العلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفة والتاريخ والاستراتيجيات والدراسات الإسلامية في العالَم. فقد حفلت ملفّات هذه المجلاّت بالترجمات عن سائر اللغات الحية، كما حفلتْ بكتابات العلماء العرب الشبان في كلِّ هذه المجلاّت. وقد كان من حُسْن الطالع أنْ عملتُ في هذه المنابر لجهتين: جهة تقديم العلوم الإنسانية والاجتماعية والإسلامية الجديدة باللغة العربية، وجهة تقديم شبان وكهول عرب إلى القارئ العربي، والتشجيع بهذه الطريقة على نشر المقالات والكتب ذات القيمة المعرفية المحترمة. والذي أحسبُهُ أنّ أكثر الحاضرين اليومَ إنما عرفوا اسمي أول ما عرفوه ليس من خلال كتبي أو تحقيقاتي، بل من خلال المجلاّت السالفة الذكْر، والتي قرأوا فيها وتابعوها، أو كتبوا بحوثاً في الاجتهاد أو في التسامح التي ما تزال تصدر وستبقى إن شاء الله، بعد أن توقّفت مجلة الفكر العربي، ثم توقفت الاجتهاد، والتي ما يزال كثيرون منكم يأسفون لتوقفها ويأملون عودَتها وسط صعود الظاهرة الإسلامية، والضرورات البحثية للتقويم والمتابعة والنقد والفهم.

ومنذ الثمانينات وحتى اليوم، تزايد لديَّ الإحساس بضرورة الاقتراب من القارئ العربي أكثر، وفي مُداخلاتٍ سريعة. ولذلك بدأْتُ الكتابة في الصحف بشكل أسبوعي أو نصف شهري. وبعد العام 2001 وغزو العراق عام 2003، ومقتل الرئيس الحريري عام 2005، ازدادت كتاباتي الصحفية حتّى صارت شبه يومية. لكنها حتى عندما تكون سياسيةً أو مراجعةً لكتابٍ أو ظاهرة، تبدو فيها ولا شكّ آثارُ بحوثي أو فهمي الخاصّ وإنْ على سُرعةٍ واقتضاب. إنها تجربةٌ في التأثير، وربما تأثرتُ فيها بتجربة الأستاذ الجامعي بالولايات المتحدة. ويلومُني عليها بعض الزملاء باعتبارها مضيعة للوقت والجهد. ولستُ أعرفُ مدى الفائدة أو الجدوى، لكنني ما أزالُ أشعر بالحاجة للمتابعة، باعتبار المسؤولية والمهمة، كما يشعر شبان التويتر والفايس بوك على سبيل المثال!

وما كتبتُ في النهاية تاريخاً للفكر السياسي الإسلامي حتى الآن. كما أنني لم أكتب للفكر العربي أو الإسلامي خطاطةً من باب التاريخ الثقافي. وهذه مهامُّ جليلةٌ قام بها أو بشيئٍ منها أساتذتنا من العروي والجابري وأركون وحنفي، وإلى جعيط وأومليل وجدعان ومحمود إسماعيل وسواهم. وأنا أفكِّر منذ عامين في كتابة تاريخ لأهل السنة والجماعة، ومتابعة العمل على التاريخين السياسي والثقافي. وبعدما ألقيتُ محاضرتي عن التأويل لدى المحاسبي (243ﻫ) في هذا المؤتمر، يشجّعني الدكتور أحمد عبّادي على الدخول في مشروعٍ  من هذا القَبيل يقعُ بين التنزيل والتأويل!

قبل أن آتي إلى مؤتمركم هذا، كنتُ أقرأُ كتاباً لدومينيك أورفوا  D. Urvoy  سمّاه: “تاريخ الفكر العربي الإسلامي”. وقد تساءلتُ بعد الانتهاء من قراءته: هل يكونُ هذا هو التاريخ الفكري للأمة حتى أواخر القرن العشرين؟! فهذه المحاولة على طرافتها في المرحلة الكلاسيكية، تصل للنتيجة نفسها التي وصل إليها ألبرت حوراني في كتابه: الفكر العربي في عصر النهضة. فبعد الانفتاحات المشهودة، يعود الموقف للانسداد، والعلاقات بين الإسلام والغرب أو الحداثة إلى التأزم، ولا كلمة عن الاستبداد، ولا عن العلاقات الدولية، وإنما المطلوب إخراج الإسلام من قُمقُمه؛ لأنّ فكره ما يزال يقينياً، ولا يعرف الجانب المأساوي من هذا الوجود، وإلاّ فكيف لا يقبل محاولة لوكسمبرغ (اسم مستعار لكاهن لبناني) إثبات أنّ القرآن من أُصول سريانية! وإذا كان ذلك هو الحكَم أو المقياس فإنّ الأمر لا يصبح مأْساةً بل ملهاة، شأن ما قاله كارل ماركس عن إمكانية إعادة التاريخ لنفسه!

*****

لدينا عملٌ كبير وكثير. فنحن نعمل على تجربة أمتنا التاريخية والحديثة في حوارية النص والجماعة والتلقّي والتحولات القديمة والحاضرة. ونحن نعمل تحت سمع العالم وبصره. ونحن موقنون بضرورات التغيير التي لن يحولَ الإسلامُ دونها، بل سوف يسهم فيها. بيد أنّ هذا التأزم القاسي والخانق في الأنظمة كما لدى الإسلاميين، يكاد يُفقدُنا القدرة على التفكير والتدبير. لقد تخطَّيتُ عتبة الستين، وأنا متعبٌ داخلياً شأن شيوخكم وشبابكم، ولكنّ الأمل باقٍ بالله  وبالأمة، وسنظلُّ نعمل بالثفة وبالرجاء وبالاستعداد للجديد والمتقدم، مهما قال العبثيون والعدميون. أشكركم على المؤتمر والندوة عني. وأرجو أن لا أكونَ قد أطلْتُ عليكم[2].

 الهوامش


[1] . عندما كتبتُ هذه الكلمة في صيغتها الأولى، كان الطيّب ما يزال رئيساً لجامعة الأزهر.

[2] . أدليتُ بهذه الملاحظات شفوياً في آخر الندوة التي أقامتها الرابطة المحمدية للعلماء لي وعني على هامش مؤتمرها: “العلوم الإسلامية، أزمة منهج أم أزمة تنزيل؟” بتاريخ 31 مارس 2010. وقد كتبتُ وقتها ملاحظات عما قلتُه، ثم قمت بالصياغة التي انتهيتُ منها بتاريخ 20/12/2011.

د. رضوان السيد

 أستاذ الدراسات الإسلاميةـالجامعة اللبنانية  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق