مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةغير مصنف

الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف عند المغاربة – تاريخه ومظاهره الجزء الثاني-القسم الأول

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم الباحثة : خديجة أبوري*

   عرجت بعجالة في الجزء الأول من المقال على ذكر البدايات الأولى لظهور الاحتفال بالمولد النبوي الشريف عند المغاربة، مستشهدةً ببعض النماذج من  المراجع التاريخية المهمة والتي يمكن الرجوع إليها من أجل التوسع في هذا الجانب، وتتمة لما سبق سأتناول في هذا الجزء بمشيئة الله تعالى مظاهر الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف عند المغاربة؛ وقد قسمته إلى قسمين في القسم الأول منه سأعرض فيه مظاهر الاحتفال بالمولد عند المغاربة على المستوى الرسمي وأما القسم الثاني سأتناول فيه مظاهر هذا الاحتفال على المستوى الشعبي، وهذا هو القسم الأول من هذا الجزء فأقول وبالله أستعين:

·       مظاهر الاحتفاء بالمولد النبوي الشريف ومشاهده عند المغاربة عبر التاريخ.

يحدثنا التاريخ عن بعض مظاهر الاحتفاء بالمولد النبوي في المغرب الأقصى، الذي في حقيقة الأمر يبدأ عندهم منذ أواخر شهر صفر وببداية شهر ربيع الأول، أو قبل ذلك بأسابيع.

فعلى المستوى الرسمي: نجد الدولة المغربية عبر التاريخ تحتفل بهذه الذكرى التي تتجلى في مظاهر متعددة، فمثلا في أواخر حكم الدولة الموحدية نجد احتفال أبا القاسم العزفي كما يقول ابن عذاري المراكشي في وصفه: “ومن مآثره العظام، قيامه بمولد النبي -عليه السلام- ..، فيطعم فيه أهل بلده ألوان الطعام، ويؤثر أولادهم ليلة يوم المولد السعيد بالصرف الجديد من جملة الإحسان إليهم والإنعام، وذلك لأجل ما يطلقون المحاضر والصنائع والحوانيت يمشون في الأزقة يصلون على النبي عليه السلام، وفي طول اليوم المذكور يسمِّع المسمعون لجميع أهل البلد مدح النبي عليه السلام، بالفرح والسرور والإطعام للخاص والعام، جار ذلك على الدوام في كل عام من الأعوام”[1].

وقد تأثر به السلطان الموحدي عمر المرتضى فصار له هو أيضا اهتمام خاص بإحياء ليلة المولد الشريف؛ ومما يذكر لهذا الخليفة أنه كان شاعرا، وأن شعره ردد فيه ما دعا إليه                 أبو العباس العزفي في سبتة من إقامة المولد النبوي والاحتفال به، فقال هذا الخليفة :

وَافَى رَبيــعٌ قَدْ تَعَطَّرَ نَفْحُهُ             أَذْكَى مِنَ المِسْكِ العَتِيقِ نَسِيمَا

بِوِلَادَةِ المُخْتَارِ أَحْمَدٌ قَدْ بَدَا              يَزْهُو بِهِ فَخْراً وحَازَ عَظِيمَا[2]

وكان أبو الحسن المريني المعروف عند عامة الناس -بالسلطان الأكحل- “يحتفل بدوره بهذه المناسبة، وكان يستعد لها بألوان من المطاعم والحلويات، وأنواع الطيب والبخور مع إظهار الزينة والتأنق في إعداد المجالس، حتى إذا حلت الليلة وأدى السلطان صلاة المغرب ونافلتها، قصد إلى مجلسه في مكان الاحتفال، حيث يستدعي الناس للجلوس حسب مراتبهم.. وإذا استوت المجالس وساد الصمت قام قارئ العشر فرتل حصة من القرآن، ويتلوه عميد المنشدين فيؤدي بعض نوبته، ثم يأتي دور قصائد المديح والتهاني بليلة المولد.. وبعد هذا تسرد المعجزات النبوية، وتكثر الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حسب تعبير ابن مرزوق من أعاجيب ما يرى في بلاد المغرب ، فإذا قضيت صلاة الصبح تقدم ألوان الطعام المختصة بهذا الوقت، وجميع ما يفضل من بخور وشموع يقتسمه الفقراء المسافرون على قدر استحقاقهم… وفي صباح يوم سابع المولد يجلس الكُتَّاب لتوزيع العطاء على الأشراف وأعيان الفقهاء، والأئمة، والخطباء، والقضاة الواردين فيعطي كل على قدره كسوة تخصه، وإحسانا للبعض”[3]

وذكر المقري في أزهار الرياض أن :”أبا عنان المريني كان يستدعي الشريف السبتي أبو العباس العزفي من كل سنة إلى حضرته “فاس”، لحضور المولد السعيد، ويعد له ديناراً مسكوكا يُصنع بمدينة مراكش، زنته مائة دينار ذهباً، يدفع له ذلك مع جائزته  سيرا على نهج والده”[4].

وفي عهد السعديين خاصة في أيام المنصور الذهبي خصوصية مميزة في الاعتناء بهذه المناسبة والاحتفال بها. فعندما تبدو طلائع شهر ربيع الأول يجمع المؤذنين من أرض المغرب، ثم يأمر الخياطين بتطريز أبهى أنواع المطرزات، فإذا كان فجر يوم المولد النبوي خرج السلطان فصلى بالناس وقعد على أريكته، كما أن هذه  الليلة فرصة لنظم القصائد والتباهي بها على نطاق واسع ؛ حيث إذا دخل الناس أفواجا، واستقر بهم الجلوس، تقدم الواعظ فسرد جملة من فضائل النبي محمد ومعجزاته، وذكر مولده. فإذا فرغ، بدأ قوم بإلقاء الأشعار والمدائح، فإذن انتهوا، بُسط للناس موائد الطعام التي لم يسمع قط بها، وإذا قضى الناس إربهم منها ترفع ويؤتى بغيرها [5] كما كانت تصنع له شموع أعظم من الأسطوانات يطاف بها في البلد، ومعها الآلات، وجميع أهل الحضرة قد جاءوا لينظروا إليها، وذلك اليوم الذي يطاف بها عيد عظيم عندهم وحق لهم ذلك، فإذا وصلوا بها إلى قصر الخلافة أدخلوها إلى المشور العلي، وقد اتخذت لها آلات عظيمة من النحاس المحكم الصنعة، فتجعل على تلك الآلات، فترى صعداً في السماء كالمنارة [6] وما زالت هذه العادة موجودة إلى الآن بمدينة سلا؛ وهي المعروفة عند أهلها ب “موكب الشموع”.

وأما في عهد الدولة العلوية كما يقول ابن زيدان في كتابه العز والصولة “جرت العادة أن تقيم الجلالة السلطانية حفلات شائعة ومهرجانات فائقة في ليلة عيد المولد، وستة أيام ابتداء من يوم العيد…ومما جرت العادة بإنشاده في تلك الليلة البردة والهمزية للبوصيري، يبدأ بالبردة ثم الهمزية ويتخلل ما بينهما بالألحان والتوشيحات… وبعد ختم الأمداح النبوية يتلى ما وقع اختيار السلطان عليه من القصائد الواردة على حضرته من شعراء دولته من سائر أصقاع إيالته في مدح جنابه الكريم..”[7]

ومن ذلك أيضا ما تذكره مراجعنا التاريخية في هذا الصدد عن احتفال المولى محمد الثالث بهذه الذكرى فكان يستدعي المسمعين من أهل فاس وتطوان للإنشاد، فكانوا ينشدون جميعاً مرة، ثم ينشد كل فريق على حدة بالتناوب مرة أخرى، ويكون ذلك بأحسن الطبوع. يقول المؤرخ الضُّعَيِّف عن احتفال هذا السلطان بهذه الذكرى لسنة 1200 هـ: “وفي ليلة المولد ورد عليه أهل فاس… ليقرؤوا له الهمزية والبردة وغيرهما من القصائد ..، ثم ورد عليه طلبة تطوان لقراءة القصائد أيضاً؛ ففرق المال على أهل الرباط وأهل سلا نحو القنطارين أو أزيد ، وأُمروا أن يصنعوا الطعام ويأتوا به للجامع المذكور: من الدجاج والمروزية والكعك والمقروط والحلوة الشباكية وغير ذلك. وبعث الزرابي من داره وفرش الجامع؛ ثم جلس أهل فاس أمام أهل تطاون وذلك ليلة العيد، ثم خرج السلطان من داره وجلس بينهما؛ وأمرهم بقصيدة كعب ابن زهير: “بانت سعاد”، …وبعد ذلك يفردهم السلطان بالذكر فيذكر أهل فاس ساعة وأهل تطاون ساكتون ، ثم يذكر أهل تطاون وأهل فاس صامتون.

وفي صبيحة يوم العيد يخرج السلطان خارج المدينة، وأهل فاس وتطاون راكبون على بغالهم، وهم يذكرون البردة بأحسن الطبوعم، ثم يلعب السلطان أيده الله بالمزراق، ثم يفرق المال على الفقهاء والطلبة والمجاهدين…”[8].

وإلى عصرنا الحالي استمر ملوكها – حفظهم الله- بالاحتفاء بهذه الذكرى المجيدة سيرا على نهج أسلافهم ،واقتداءا بسنة أجدادهم، حفاظا منهم على هذا الموروث الديني.

هذا هو القسم الأول من الجزء الثاني من هذا المقال، الذي عرضت فيه بعض مظاهر الاحتفال بالمولد عند المغاربة على المستوى الرسمي، وفي القسم الثاني منه سأتطرق فيه بمشيئة الله إلى بعض مظاهر ذلك على المستوى الشعبي.

                                                                 يتبع إن شاء الله

***********************

لائحة المراجع المعتمدة :

1 – أزهار الرياض في أخبار عياض، شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني منشورات صندوق أحياء التراث الإسلامي المشترك بين المملكة المغربية ودولة الإمارات العربية المتحدة.

2- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب – قسم الموحدين-، ابن عذاري المراكشي، تحقيق الأساتذة: محمد ابراهيم الكتاني، محمد زنيبر، محمد بن تاويت، عبد القادر زمامة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء 1985.

3 – تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي من عصر الإسلام الأول إلى عصر فاروق الأول لحسن السندوبي ط1/ 1367هـ-1948مـ مطبعة الاستقامة بالقاهرة.

4 – تاريخ سبتة لمحمد بن تاويت ط1-1402هـ-1982مـ دار الثقافة الدار البيضاء.

5 – تاريخ الضعيف: تاريخ الدولة السعيدة ، لمحمد الضعيف الرباطي الضُّعَيِّف  هـ.تحقيق وتعليق وتقديم: ذ أحمد العماري ط1 /1406هـ – 1986مـ.دار المأثورات، الرباط.

6 – روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس، أحمد بن محمد المقري. ط2 /1403هـ-1983 مـ المطبعة الملكية الرباط.

7 – العز والصولة في معالم نظم الدولة لمؤرخ الدولة العلوية، مولاي عبد الرحمن بن زيدان.1381 هـ – 1961 مـ من مطبوعات القصر الملكي بالرباط.

8 – المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن لمحمد بن مرزوق التلمساني.  401هـ-1981مـ دراسة وتحقيق: دة ماريا خيسوس بيغيرا.


هوامش المقال:

*****************

[1]  – البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب –قسم الموحدين-ص 398.

[2]  – تاريخ سبتة ص 117.

[3] – المسند الصحيح ص 153 فما بعدها.

[4] – أزهار الرياض 1/39.

[5]  – روضة الآس ص 13 – تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي ص 231-فما بعدها.

[6]  – روضة الآس ص: 13 .

[7] – العز والصولة 1/172 فما بعدها.

[8]  – تاريخ الضُّعَيِّف ص 187-فما بعدها.

* راجعت هذا المقال بتكليف من رئيس المركز، لجنة مكونة من: يوسف أزهار، محمد إليولو، فاطمة الزهرة المساري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق