وحدة الإحياءدراسات عامة

الإنسان والقيم العليا.. رؤية معرفية

ملخص

نحاول في هذه الورقة أن نستعرض دور الإنسان في هذا العالم وعلاقته بمرجع الفعل: “الكون”، ومرجع المعنى: “القرآن”. كما نستشرف حركة الاجتماع الإسلامي اليوم، ونحاول أن نحدد أين يقف زمانا ومكانا، وكيف يمكنه أن يواصل طريق تحركه نحو الأعلى ويعود لموقع الشهادة على الناس المناط بعهدته.

مقدمة

يمر العالم الإسلامي منذ ما يقارب قرنين من الزمن بمحاولات متعددة تبحث على عودته الفاعلة في التاريخ. وتواجه تلك المحاولات صعوبة كبيرة في جعل الاجتماع الإسلامي قادرا على أن يتحرك نحو قبلة بعيدة قادرة على ضمان سيره المشترك نحوها. ذلك أنه من غير الممكن أن تكون أمة ما فاعلة في التاريخ حتى تكون قادرة على أن تعرف بدقة عالية أين هي زمانا ومكانا، وأين عليها أن تتحرك، وكيف يمكنها أن تجعل من سيرها المشترك شيئا قابلا للتحقق رغم التحديات التي تعترضها. يمكن اليوم أن نرى عند دراساتنا لظهور الأمم أن هناك لحظات جد صعبة للخروج منها.

يطلق على تلك المحطات الصعبة في حياة الأمم تسميات؛ (كالانحطاط، والسقوط، والأزمة الخانقة). إلا أنها في مجملها تتلخص في غياب القدرة للأمة على مواصلة سيرها المشترك نحو غاية بعيدة توحدها؛ إذ تكون الرؤية المتوفرة للأمة في مثل تلك المحطات من تاريخها متعطلة بالكامل، وعاجزة على توفير ما تحتاجه من طاقة تواصل بها سيرها، فهي بتعبير القرآن: ﴿سلاسل وأغلالا﴾ وجب التخلص منها؛ أي أن الرؤيا ذاتها، والتي كانت تلبي ما تحتاجه الأمة لمواجهة تحدياتها، تصير جزء من المشكل، أين ما توليها لا تأتي بخير. ويكون لتحول الأحوال بالجملة احتياج كبير لرؤية جديدة وطاقة هائلة تجعل من حركة الأمة أمرا ممكنا من جديد. وكما يقول ابن خلدون: “وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث[1].”

ونحن نعتقد أن الأمة اليوم تعيش واقعا مشابها للحظات ولادة الأمم الكبرى وعودتها للفعل في التاريخ وصناعته. نحاول خلال هذا المقال أن نفهم كيف تقع التحولات الكبرى، وأي إنسان وعقل تحتاج حتى تصير ممكنة. ومن ثم نحاول أن نستشرف دور الأمة اليوم في أن تكون فاعلة في التاريخ، قادرة من جديد على الحياة والفعل في العالم والشهادة على الناس.

نحاول أن نقيم حوارا دائما بين القرآن والكون والإنسان، كما يبينه الرسم أسفله من أجل الوصول بسرعة ودقة لما نريد.

                              
القرآن          آية           الكون
آية               آية
الإنسان

كما اعتمدنا الآية كمنهج للاقتراب من الحقيقة المراد معرفتها. ومن المعلوم أن القرآن هو الذي ولد الآية كمصطلح تتم به المعرفة في المجال البشري، ودعا لتوخيه سبيلا للاقتراب من عالم الحق. يستعمل القرآن مصطلح “آية” استعمالا كونيا. حيث الآية لا ترتبط كمصطلح بالكتاب المنزل، وإنما تستعمل كذلك في المجال الكوني عندما يدعى الإنسان للتذكر أو للعلم أو غير ذلك مما له علاقة بحركة الإنسان في مستوى الفعل أو مستوى المعنى.

 الآية، هاهنا، وضعت كمصطلح في ضوء معارف الإنسان التي تبدو اليوم أكثر دقة وتكاملا مع الإنسان وطبيعة معارفه. الإنسان كرحلة داخل عالم لا يحتمل حضور الحقيقة، حيث هو متشكل بشكل يمكن من الاقتراب أو الابتعاد منها فحسب، ولا يسمح بامتلاكها أصلا. تتعامل الرؤية، المتخذة من الآية كوحدة معرفية في مجال عالم المعنى أو عالم الفعل، مع كل ما يصل إليه الإنسان من نتائج على أنه غير نهائي؛ أي أنه خاضع دوما للتعديل والتجاوز ولكن ليس بشكل عابث، حيث تشكل الآيات التي تستمد من مرجعي الوجهة والحركة؛ أي المعنى والفعل، دالا يساعد على تعديل ما توصل إليه الإنسان في حياته.

ومن ثم كانت الآية مصطلح يتكامل مع طبيعة الإنسان كمشروع متحرك نحو التحقق في الزمن “الجعل” ومتكاملا كذلك مع لا نهائية النتائج التي يصل إليها الإنسان وهو يشق طريقه نحو تحقق غاية وجوده داخل الغيب الرحب. تبدو المعرفة الخاضعة لفكرة الآية لا تراكمية، ومتخلصة من النتائج المسبقة، واعية بخطورة أن يسجن الإنسان داخل تصوراته المحدودة؛ أي أن التخلص من الرؤيا التي يبنى الإنسان معتمدا الآية، ومرجع المعنى ومرجع الفعل يحدث داخل إطار التصديق والهيمنة. التصديق هنا؛ يعنى أن أية رؤيا جديدة تبحث أن توسع مجال الرؤيا السابقة لا يمكنها أن تكون صحيحة حتى تستطيع أن تموقع داخلها الرؤيا السابقة وتجعل أجزاءها أكثر تماسكا.

وعلى الرؤية الجديدة أن تكون مهيمنة لما بين يديها عبر قدرة تفسيرية أعلى لمجال حركة الإنسان المعرفية الجديدة.

ومن ثم فنحن كذلك نحاول فيما يلي معرفة موقع الإنسان في الوجود، وكيف يتصل مع الكون، وأين يتجاوزه، كما سنتطرق، بعد ذلك، إلى التحولات الكبرى وكيفية حدوثها عبر الاستعانة بما بين أيدينا من آيات، دون ادعاء نهائية ما نصل إليه.

أولا: الإنسان وعلاقته المتواصلة مع الكون

يؤكد القرآن أن للإنسان علاقة مباشرة بالكون، وذلك يتصل بالخلق نفسه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ مٍنْ حَمإٍ مَّسْنُونٍ﴾ (الحجر: 26)، من المهم هنا أن نلاحظ أن الخلق هو الذي يجعل من الإنسان مخلوقا نوعيا متجاوزا للمادة، مع المحافظة على التواصل معها. وبالنسبة للقرآن، فإن خلق الإنسان من طين ليس أمرا كان قد حدث وانتهي، بل هو متصل بخلق كل إنسان: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةَ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا ـاخَرَ، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (المؤمنون: 12-14)؛ أي أن كل إنسان له علاقة مباشرة مع الكون عبر الطين، حيث يستعمل القرآن كذلك بصفة الجمع: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ (الصافات: 11)، وهنا كذلك يمكننا أن نلاحظ أن القرآن يقص خلق الإنسان داخل التصديق والهيمنة. فهناك حديث عن خلق الإنسان من طين ولكن ذلك يتم بشكل أكثر تماسكا مقارنة مع ما كان متداولا عند نزول الوحي؛ فالطين هنا يحافظ على علاقة الإنسان مع الكون، والخلق هو الذي يجعل منه خلقا آخر مميزا بدوره في هذا العالم.

وفي الحقيقة فإن القرآن يغطي بشكل موسع عملية خلق الإنسان، ويمكن للعلماء أن يعرفوا اليوم مدى علاقة الطين بأوصافه التي يعطيها القرآن وبدايات خلق الإنسان اليوم. فالإنسان خلق (من طين لازب، من صلصال كالفخار، من صلصال من حمإ مسنون، من سلالة من طين)؛ يبدو الإنسان هنا مرتبطا عضويا مع الكون ولكنه ليس سجينا داخله، كما أنه ليس معاديا له. فهو قريب منه عبر الطين، ومتجاوزا له ومسؤول عنه عبر الخلق. والإنسان عليه أن يسخر إمكانية الخلق ذاتها للقيام بمسؤوليته داخل الكون نفسه.

يركز القرآن من أول سورة نزلت على تقديم قراءة للإنسان تساعده على معرفة دقيقة لذاته. حيث يشكل القرآن في مجمله زمن الختم المرجع الذي يمكن الإنسان من مواصلة مشروع النبوة وتحقيق دوره في هذا الوجود في مستواه الفردي والاجتماعي. فالنبوة زمن الختم هي تحقق كذلك في المستوى الفردي لغاية خلق الإنسان ووجوده داخل عالم الشهادة. فالقرآن كوحي مكتمل يشكل مرجع الوجهة الذي يستمد منه الاجتماع البشري زمن الختم ما يحتاج من معنى يهدي به حركته وهو يتحرك نحو الأعلى. القرآن كذلك يصاحب اكتمال مشروع النبوة حيث تحقق الإنسان الأسوة الذي هو بسدرة المنتهى، قاب قوسين أو أدنى.

ومصطلح الإنسان المستعمل من أول يوم نزل فيه القرآن ذو دلالة كبيرة يبدو من خلالها الإنسان يواجه تحد للوجهة يجعل منه مثنى خلقة، إنس+إنس= إنسان. فهو قد يكون في موقع “ينهى عبدا إذا صلى”، وقد يكون في موقع مناقض لذلك تماما، حيث هو على الهدى، ويأمر بالتقوى. يبدو تحدي الوجهة، هاهنا، واضحا تماما حيث الإنسان على عكس الكون، عليه أن يكون قادرا على اختيار الوجهة التي تجعله متحركا نحو الله منبع القيم جميعا. يجعل تحدي الوجهة من الإنسان مخلوق مميز يحتاج علما ومعرفة وانتباه مستمر لمنع السقوط في اتجاه الطغيان المهلك لإنسانيته، والمنهي لعلاقة تكامله مع من حوله من بني جنسه، أو الكون المسخر له. ذلك أن الإنسان يمكنه أن يخلق عالما وهميا يبدو فيه مستغنيا عن كل شيء، غير مسؤول عن تعامله المحافظ على التسامي معه.

وهي حالة تعكس الإنسان عندما يختل توازنه، ويفقد قدرته على أن يتواصل مع نفسه، ومحيطه تواصلا مسؤولا يحافظ على الحياة ويعمل على ابتهاجها. وهي حالة تشبه كثيرا ما ذهب إليه عبد الرحمان ابن خلدون وهو يصف إنسان الحضارة كحالة يخرج فيها العمران إلى الفساد: “بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد؛ لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك… وإذا فسد الإنسان في قدرته ثم في أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة.”

إلا أن ذلك لا يرتبط بمرحلة الحضارة فقط، وإنما يتعداها كذلك عندما يتحرك المجتمع في اتجاه رفض العالم. فالرهبنة، مثلا، كحالة نقيض للحضارة هي طغيان في المجال الإنساني له نتائج مدمرة على حياة الإنسان تشبه في نتائجها ما يقع زمن الحضارة. فلأن كانت الرهبنة تصل بصاحبها في نهاية المطاف إلى رفض العالم ورفض حتى الاهتمام بذلك الرفض، ثم رفض الإضافة فيه حيث تعانق القداسة رفض الزواج نفسه. فإن الحضارة بمعناها الخلدوني قد تؤدي إلى نتائج مشابهة تهدد النوع الإنساني نفسه وبقاءه: “ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ والمشارب وطيبها. ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزنا واللواط، فيفضي ذلك إلى فساد النوع: إما بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزنا، فيجهل كل واحد ابنه؛ إذ هو لغير رشدة؛ لأن المياه مختلطة في الأرحام، فتفقد الشفقة الطبيعية على البنين والقيام عليهم فيهلكون، ويؤدي ذلك إلى انقطاع النوع، أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط إلى انقطاع النوع أو يكون فساد النوع بغير واسطة كما في اللواط المؤدي إلى عدم النسل رأساً وهو أشد في فساد النوع[2].”

فالطغيان، هنا، معاد للإنسان ومهدد لغاية وجوده، ومعيق لدوره في هذه الحياة. ومن ثم كان محور أول ما نزل من القرآن، الذي طرح علاجا له، وهو أن يصاحب كل شيء في المجال الإنساني مبدأ عام يرى فيه ومعه: ﴿إن إلى ربك الرجعى﴾؛ والرجعى هنا رمزية هي الأخرى حيث تحمل معنى أن يكون الله غاية كل توجه. كما ترسم آخر آية لأول سورة السجود كغاية للحركة كلها. ذلك أن السجود يشكل أعلى مستوى للتسامي والتخلص من أشد سجون الإنسان صعوبة؛ أي سجن الذات. الإنسان في الحقيقة مهدد باستمرار للتخلص من سجن أي شيء تقع عليه يداه، أو يصل إليه لحظات تعاليه.

ثانيا: المصطلحات الكونية

1.الميزان

الطغيان كما تقدم حالة مهدده للإنسان ودوره في الحياة. وهي معادية لمحيطه كذلك لما ينجر عن دخول الإنسان أو المجتمع مرحلة الطغيان من ضرر بالعمران والكون في الوقت نفسه يقدم القرآن الكريم الميزان كحاضر في الكون وشاهدا على رفعته. ولكنه يبقى تحديا في المجال الإنساني، ومن ثم دعا القرآن لمنع الطغيان في الميزان في المجال البشري: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 5-7).

يقدم الكون والقرآن هاهنا كمساعدان للإنسان لمعرفة الميزان وتحقيقه في المستوى البشري. وكذلك معرفة ما ينجر عن اختلاله في المستوى الكون، والاجتماع الإنساني، الوحي المنزل للإنسان يرتبط هو الآخر بالميزان؛ حيث هو ما يساعد على معرفة الحق، وكذلك هو المرجع المساعد على منع وقوع الإنسان في الطغيان، الدال على نتائجه الوخيمة: ﴿اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ، وَمَا يُدْرِيكَ، لَعَلَّ السَّاعَةَ قَريبٌ﴾ (الشورى: 15)؛ ﴿لَقَدْ اَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزيزٌ﴾ (الحديد: 24).

يمكن اليوم دراسة حالات الطغيان في المستوى الاجتماعي مثلا المنجرة عن فقر مذقع، أو غنى فاحش لنرى كيف يصب كلا المجموعتين بأمراض متشابهة. كما يمكن كذلك أن نرى مثلا كيف يحدث تبادل الطاقة في الكون وعلاقة ذلك التحرك التلقائي للمحافظة على التوازن. كما يمكن أن نرى وندرس كيف أن كل خلل في التوازن ينجر عليه تحرك في اتجاه منع خلل التوازن، وكيف يكون ذلك التحرك عنيفا كلما كان الخلل كبيرا، فالفيزياء اليوم تتناسى كل ذلك عندما تتحدث عن أن لكل فعل ردة فعل، وأن الغاية ليست ردة الفعل، ولكن كل ما يحرك ذلك هي الحركة المتجهة أمرا في اتجاه المحافظة على التوازن.

الإنسان نفسه كما تقدم سورة العاديات هو كذلك لوحة زيتية من أبعاد متعددة يكون هو وسطها. ويحتاج دوما المحافظة على توازنه وهو يواصل رحلته نحو الأعلى. ذلك التوازن الذي يصبح أكثر تعقيدا للمحافظة عليه وتساميه كلما صار رفيعا. كما يمكن رؤية نفس الشيء في المجال الكوني، حيث محافظتك على توازنك ماشيا، أقل صعوبة وخطرا على محافظتك وأنت تسرع داخل سيارتك، وكذلك يكون التوازن والمحافظة عليه أكثر تعقيدا وأشد خطرا عند اختلاله عند طيرانك.

يمكن كذلك دراسة التوازن في عالم الحيوان، لنرى كيف أن التواجد المعقد لمختلف الحيوانات في البرية محكوم بالميزان، وليس بعلاقة القوى. حيث وجود الحيوانات المفترسة لا ينهي تواجد الحيوانات العاجزة خلقة على الافتراس، من إنهاء أي منها، بل إن التدخل العابث لمنع تواجدها جميعا هو الذي يهدد وجودها. فالأسد، مثلا، لا يستطيع أن يقتل من أجل القتل، ويخضع في حياته إلى خاصيات عجيبة تجعله غير معاد للمحيط الذي يعيش فيه، وذلك إذا درسنا طول نومه، وقلة تكاثره مثلا.. وهناك تجارب كثيرة اليوم تبين كيف أن التدخل العابث غير الواعي بالتوازن والمحترم له قد يدخل خللا في الكون وتكون عواقبه جد وخيمة على الحياة.

وكما تقدم، فالطغيان كذلك في المستوى الاجتماعي هو الذي يقف وراء ما يعرف بالانحطاط والسقوط الذي تصاب به التجارب البشرية وهي تتحرك في اتجاه دخول طاغ في العالم، أو خروج طاغ منه كما في حالتي الحضارة بمفهومها الخلدوني ومن بعده “شبنجلر”، أو عند الرهبنة كحالة رافضة للعالم ورافضة للإضافة فيه.

كما يمكن أن نرى كذلك أن العمران البشري الحضري المتقدم عرفته البشرية أول ما عرفته بالمعتدل من المناخ. وكما لاحظ ابن خلدون كذلك أن النبوة كأعلى تَجلٍ للإنسان وعظمته ظهرت هي الأخرى بالمعتدل من المناخ. كما أن النبوة نفسها ختمت بنفس الموقع. وكذلك القرآن كمرجع المعنى زمن الختم هو كتوازن نزل بالحق والميزان، تتداخل فيه الدنيا والآخرة بشكل عجيب يصل إلى حد ضمان توازنهما العددي، كما تتوسط أمة وسطا سورة البقرة.

2.السجود

السجود كما تقدم، هو عام كوني كما يقدمه القرآن؛ أي أنه يقيم علاقة متعالية بين الإنسان والكون متجاوزة للطين اللازب. فالكون هنا في التصور القرآني لا يبدو عابثا كما يحلو للمادية أن تقدمه، بل هو يحوي الكثير من التسامي النوعي الذي يشكل تحديا للإنسان؛ إذ يحتاج الإنسان لكثير من العمل حتى يحقق سجود. إلا أن سجود الإنسان والذي يتطلب القدرة على عدم طاعة ما بداخله من إمكانية أن ينهي عبدا إذا صلى، والذي يكذب ويتولى يحتاج إلى قدرة عالية لقول لا باستمرار وذلك حتى يستطيع تجاوز إمكانيات التردي الكامنة داخله عند تمكنه من أي تسام جديد: ﴿كلا لا تطعه، واسجد واقترب﴾؛ أي أنه سجود متحرك دائم العمل على الاقتراب يعكس قدرة الإنسان على إكراه رغباته حتى يكون الله دوما قبلة لها:﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَواتِ وَالاَرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا وَظِلاَلَهُم بِالْغُدُوِّ وَالاَصَالِ﴾ (الرعد: 16).

والقرآن الكريم جد متماسك عندما يتحدث عن السجود في المجال الإنساني حيث يبقى دوما احتماليا كما تعبر الآية 18 من سورة الحج برمزية عالية حول هذا الأمر باستعمال كلمة كثير من الناس وكثير حق عليه القول. فكلمة كثير، كثير هنا المكررة مرتين تعكس السجود وعدمه بالنسبة للإنسان بشكل متساوي: ﴿اَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الاَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ والشَّجَرُ وَالدَّوَابُ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَثِيرٌ حقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ، وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فما له مِن مُكْرِم، إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ (الحج: 18).

ويمكن بسهولة أن نرى كيف تغيب كلمة كثير وكلمة كرها عندما يتحدث القرآن خارج المجال الإنساني: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الاَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (النحل: 49).

فصدق الله العظيم القائل:

﴿اَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْءانَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غير اللَّهِ لوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافا كثِيرًا﴾ (النساء: 81).

ومن ثم كان سجود الإنسان تحديا غير حتمي التحقق، ولكنه نوعي كذلك؛ لأنه متحرك غير ثابت وجب التخلص من سجنه دوما لتحقيق المزيد من الاقتراب من منبع القيم العليا جميعا: “الله الأعلى”. وفي الوقت نفسه، فإن الكون يبقى مفتوحا باستمرار ليمكن الإنسان متى أراد واستعد لمعرفة السجود ومعانيه عبر قراءة الكون. والآيات المذكورة تعطينا فكرة حول آثار ذلك السجود، حيث يغيب معه الاستكبار، ويعرف كل شيء موضعه الذي خلق له، ويقوم بدوره المناط بغاية خلقه دون تقصير. ومن ثم تحدث القرآن على السجود، وشهد الكون على ذلك. فالإنسان الساجد، والمجتمع الساجد عليه أن يعكس ذلك بشكل يذكر بما جاء بمرجع الوجهة: القرآن، وكذلك ما يؤكده مرجع الفعل: الكون. حيث يذكر السجود بالظل ونعيمه وتحركه المستمر من أجل توفير الحماية للناس وابتهاج الحياة.

3.الوحي

ومن المصطلحات الكونية التي توصل الإنسان مع الكون مصطلح الوحي؛ فالوحي عام في الرؤيا القرآنية للوجود حيث يعكس أن للكون وجهة كذلك تمنع العبث وتجعل الوجود هادفا مرتبطا بغاية خلقه. حيث يتصل الوحي في المجال الكوني خارج المجال الإنساني بعالم الأمر، حيث الوجهة محددة مسبقا تفرض اللاعبث بشكل خلقي حيث تعمل الوجهة دوما على المحافظة على غائية الخلق:

﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ اَمْرَهَا، وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ، وَحِفْظًا، ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ الَعلِيم﴾ (فصلت: 12).

وكذلك:

﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الِجبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ (النحل: 68).

إلا أن الوحي في المجال الإنساني لا يفرض على الإنسان دوره، وإنما هو مرجع يجعل من ذلك الدور ممكنا. فوحي الحكمة، لا يمنع حتما أن لا يسقط الإنسان في الشرك الذي يشكل أتعس أنواع السقوط.

﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ، وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً ـاخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا﴾ (الاِسراء: 39).

ومن ثم يمكن للإنسان أن يعرف دور الوحي في حياته بدراسة ما للوحي من دور محافظ على الحياة في المجال الكوني، ونفع للناس وشفاء لهم من سوء غياب الوجهة التي يحتاجها الفعل الإنساني الهادف حتى يكون داعما للحياة، داعما لها، محافظا عليها، عاملا على ابتهاجها. والقرآن الكريم يعطي صورة رائعة لما يلي الوحي في عالم النحل: ﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً، يَخْرُجُ مِن بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ اَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ، إِنَّ فِي ذَلِكَ ءلايَةٌ لِقَوْمِ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 69).

من المهم هنا أن نلاحظ أن القرآن الكريم يجعل الإنسان مع علاقة هادفة مع الكون مختلفة تماما عن تلك العلاقة المادية التي تجعل من الإنسان عدوا للكون، متعطشا إلى غزوه. فالعلاقة التي يعمل القرآن على بناءها تجعل الكون فاتحا ذراعيه للإنسان حتى يحقق دوره الذي نزل الأرض من أجله. يقدم القرآن الكون متبعا للوحي، ساجدا لله مانحا الإنسان عند تفكره في آيات الله في المجال الكوني، وفي مجال الوحي القرآني، قدرة على أن يهتدي إلى معرفة دوره وكيف يجعله ممكنا. ومن ثم دعي الإنسان مع أول ما نزل من القرآن الحكيم إلى: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾؛ حيث يبني الإنسان رؤيته حرفا حرفا ليجعل منها لغة متكاملة تسمح بالسير المشترك نحو الأعلى، قادرة على الخلق دوما لتحقيق خطوات اقتراب من الله تذكر برحلة الإنسان عبر الخلق من العلق إلى الإنسان المسوى، المعدّل، المركّب في أعلى صورة. إنها قراءة كذلك لا تشك في العطاء وتعمل على إشاعته، متصلة برب أكرم: ﴿اقرأ وربك الاَكرم. الذي علم بالقلم. علم الاِنسان ما لم يعلم﴾ (العلق: 3-4)؛ فالإنسان هنا يقدم على أنه قادر على تعلم ما لم يعلم؛ حيث يتكامل ذلك مع سجوده المتحرك هو الآخر، المقترب دوما من الله، الرب الأكرم الذي لا ينتهي عطاؤه. كما يعكس ذلك دور القلم في حياة الإنسان وتوثيقه لعلمه ولما توصل إليه من تواصل مع الكون والوحي طيلة عمر جنسه. وهو عطاء غير محظور مرتبط بالرب الأكرم: ﴿كلاَّ نُّمِدُّ، هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ، وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ (الاِسراء: 20).

فالوحي في المجال البشري هو ما يمد الإنسان بالمعنى الذي يحتاجه لمواصلة سيره الاجتماعي نحو الأعلى. وكما أن الفعل في المجال الكوني يشكل تحديا للإنسان حتى يجعل منه ممكنا مساعدا على الحياة، فإن الوجهة، التي تمنح فعله المعنى المتسامي الهادي إلى الله، هي كذلك لا تقل تحديا لجعلها ممكنا. ومن ثم  يبقى ادعاء اللادينية، داخل التصور القرآني، لا معنى له في المجال البشري. والسبب في ذلك ارتباط عالم المعنى بالإنسان خلقة. حيث يمكن للإنسان أن ينكر وجود الله، وذلك لإمكانية عيشه في الوهم، ولكنه لا يمكنه أن يتخلص من المعنى لارتباطه بخلقه. فالدين كمصطلح قرآني يرتبط بالمعنى؛ أي بوجهة الفعل، ومن ثم سجل القرآن أن للكافر دينه، ولفرعون دينه، كما لمحمد دينه كذلك.

 ونحن إذا رجعنا كل ذلك إلى علم الاجتماع والأنثربولوجيا، ودرسنا الإنسان، نجد أن الفعل في المجال الإنساني، يعيش دوما تحد الوجهة، كما يعيش الإنسان تحدي تكامل الوجهة مع الفعل لجعل الحياة ممكنة. وهذا يعني أن اللادينية وهم من أساسه، لا معنى له في العمران البشري إجمالا.

عندما نتناول الدين كمصطلح داخل القرآن ونحن نحاول أن نبحث سويا على حلول للتحديات التي تواجهنا. فعلميا يمكن أن نرى أن الحفريات قديمها وحديثها تجد أن الإنسان يصاحبه شيئان: الأداة للفعل في العالم، ومرجع المعنى ليمنع فعله الوجهة التي يحتاج لجعل حياته ممكنة. وذلك حتى في أبسط لحظات بدائيته.

والكون يشهد أن الحركة تحتاج وجهة، وبشكل غير عابث كذلك. حيث يؤدي الخلل في ذلك إلى اختلال نظام الكون، واستحالة مواصلة الإنسان حياته فيه. ولولا ذلك مثلا ما كان القمر ولا الشمس حسبانا، ولا استطاع الإنسان أن يعرف له زمنا ولا موقعا داخل الوجود. وبالنسبة لمرجع (المعنى – القرآن)؛ فإن الدين، كما سبق القول، يرتبط بعالم المعنى، وهو احتياج بشري صرف. كما أنه يختلف عن مرجع المعنى المستمد منه.

فالدين بشري يستمد من مرجع المعنى المكتمل مع الختم عبر احتواءه لعالم الكلمة: ﴿قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا به مددا﴾ (الكهف: 104)، وهو في ذلك يشبه عالم الفعل الذي نسميه الكون حيث أن قراءتنا للكون ليست الكون، ولكنه ما يجعل فعلنا ممكنا داخلها اعتمادا على تلك القراءة. ولكن القراءة نفسها بشرية، ومن ثم هي مهددة بالموت؛ أي أنها تحمل خاصيات الإنسان الذي أوجدها. هناك منهج لمعرفة متى يتم ذلك الأمر، ومتى تتحول القراءة التي كانت بالأمس حلا، إلى “سلاسل وأغلالا” تمنع الحركة وتعيق السير المشترك نحو الأعلى.

وكذلك بالاعتماد على مرجع (المعنى – القرآن) الذي تعتمده الأمة بشكل حر ولا يخضع لكنيسة؛ لأنه وبكل بساطة رأى حفظه منذ أول لحظات ظهوره، في مشاعيته. فهو الكتاب الذي يبدأ باسم الله وينته باسم الناس. يسجل الكتاب وبشكل لا لبس فيه أن التكذيب بالدين هو من: ﴿يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين﴾ (الماعون: 2-3) وهو كذلك يصرح أن للكافرين دينهم، وهو لا يرى أن الديانات التي سبقت مقدسة؛ لأنها كانت تعتمد الوحي، بل صرح أنها كانت مرتبطة بمراحلها، ولا يغني وحيها عن عدم إمكانية تواصلها شيئا، ومن ثم لم يدخل أصلا في نقاشات جانبية للتأكيد على تحريف نصوصها كما ذهب الفقهاء.

وذلك لأن الوحي نفسه كان يتحرك نحو الاكتمال كما الإنسان نفسه، والاجتماع الإنساني كذلك. ومن ثم لم يطرح القرآن فكرة أن الإسلام كان دينا يبحث عن ملئ فراغ ديني، كما روج لذلك فيما بعد. كان الطرح متصلا بفكرة: “ظهر الفساد في البحر”؛ أي أن التوازن اختل كليا بين الفعل ووجهته، ومن ثم غلب ظهر الفساد كنتيجة لعمل الإنسان. ومن ثم لم تهتم الفتوحات في العهد الراشد بأسلمة الناس، وإكراههم على الدين حيث لا معنى لذلك أصلا، فهم يتحركون؛ لأنهم يبحثون أن تكون كلمة الله هي العليا؛ أي أنه يحملون رسالة تجعل الفعل من جديد قادرا على جعل الحياة أكثر ابتهاجا. وكذلك لم يكن للمدينة، زمن خروج الأمة مدارس فقهية ولا كانت أمة الختم بالمدينة مهتمة بذلك. ذلك أن الإسلام نفسه، وكما لاحظ ابن خلدون زمن المدينة كان يبحث أن يصنع إنسانا، بينما تحول زمن العباسيين إلى علم يبحث أن يكون الإنسان مسلما:

“بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم، بل كانوا أشد الناس بأسا لأن الشارع، صلوات الله عليه، لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم، لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي. فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة، كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم. قال عمر، رضي الله عنه: (من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله) حرصا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقينا بأن الشارع أعلم بمصالح العباد. ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالأحكام الوازعة، ثم صار الشرع علما وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقضت بذلك سورة البأس فيهم[3].”

4.الإسلام

وكما تقدم، فإن كل ذلك يحدث في المجال الإنساني عندما يتمكن من تحقيق ﴿كلا لا تطعه واسجد واقترب﴾؛ حيث ألهم الإنسان الفجور كما ألهم التقوى. وعليه أن يكره نفسه على رفض الفجور ويجعل رغباته متجهة إلى ربه. فالإنسان يعيش دوما تحدٍ في أن يكون وجهه مسلما لله؛ أي لا يحول بينه وبين الله شيء بشكل مستمر كما تبحث الشهادة على تحقيق ذلك وتجعل من كل نقطة وصول نقطة بداية لتحرك أكثر تساميا واقترابا من الله: “أشهد أن لا إله إلا الله”؛ فهي شهادة تذكر بالدخول الأول في الإسلام، لتجعل من ذلك الدخول حالة مستمرة تقاوم الشرك في أي لحظة من لحظات الاقتراب من الله. ومن هنا يبدو الإسلام مقاومة مستمرة للتخلص من الشرك الذي يبدو إمكانية واردة في أية لحظة.

 فالإسلام عمل واع، حر، قادر على جعل وجهة الإنسان متجهة دوما إلى الله، كما ستفسر هذا المعنى لاحقا. كما يبدو الشرك خطرا يتولد عليه حتميا تعدد الآلهة، ومن ثم تيه الإنسان. حيث تتكاثر الآلهة تكاثرا جرثوميا في داخل عالم الشرك وتنتفي معه القدرة على شهادة “لا إله” لتمنع على الإنسان معرفة الله. وانتفاء الشهادة داخل عالم الشرك ينهي كذلك الإنسان الشاهد على عصره، وعلى الكون من حوله، وعلى الناس، بحضوره المتسامي دوما، المتعالي على سجون ما يقع بين يديه وما يصل إليه.

والقرآن الكريم يقدم الإسلام ضمن مصطلحاته الكونية. حيث أسلم لله من في السموات والأرض طوعا في المجال الكوني، وكرها في المجال الإنساني. ذلك أن الإسلام بمعناه المتقدم يتطلب العمل المستمر، العلمي، الحكيم، القادر على منع السقوط في فخ الشرك المعطل للشهادة: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالاَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ (ءال عمران: 82).

5.الخلق والزوجية

يؤكد القرآن عبر مصطلح الخلق لا عبثية الوجود. الخلق يعكس تحرك المخلوق نحو غاية خلقه، ومن ثم فهو كمصطلح يمنع العبث في مستوى الوجود كله، الذي يخضعه القرآن لصيرورة الخلق. والإنسان كما الوجود مخلوق هو الآخر، بل أكثر من ذلك فالإنسان خضع ظهوره للوجود إلى عملية خلق مركبة: خلق من بعد خلق، جعلت منه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين. وكما أكد ما نزل من القرآن: إن إلى ربك الرجعى. فإن الخلق يؤكد أن المخلوق مرتبط في ما يخص غاية خلقه بخالقه. وهو أمر ثابت حتى في المجال الإنساني، عندما يمارس الإنسان الخلق، حيث يتحرك ما يريد الإنسان خلقه نحو تلك الغاية. يقدم القرآن الإنسان على أنه خلق آخر، وأنه راجع إلى الله خالقه في نهاية المطاف: ﴿أَفَحَسِبْتُمُ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَاَنَّكُمُ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾ (المومنون: 116).

ومما يميز الإنسان على غيره من المخلوقات، هو إمكانية الخلق عنده؛ أي أن الإنسان أعطي قدرة على أن يخلق. كما أن الرؤية القرآنية تبقى متماسكة، حيث يحمل الخلق في مجاله الإنساني تحدي الوجهة، الذي يهدد بعبث الخلق في المجال الإنساني كلما ضعفت قدرة الإنسان على إعطاء خلقه ما يحتاج من وجهة ترتبط بغاية حركته نحو الأعلى: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا، إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُون اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا، فابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزْقَ، وَاعْبُدُوهُ، واشْكُرُوا لَهُ، إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (العنكبوت: 16).

كما يبقى العبث إمكانية واردة في المجال الإنساني، لا يمكن تجاوزها بشكل حتمي: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ـايَةً تَعْبَثُونَ﴾ (الشعراء: 128).

ومن ثم على الإنسان أن يعتمد الوجود كمخلوق لدراسة غاية الخلق، ومن ثم يتعلم كيف يخلق بالحق ويكون الحق غاية لخلقه. وعليه أن يخضع نتائجه التي يصل إليها وهو يحاور الكون، إلى مرجع المغنى المكتمل: القرآن، حتى يكون له دوما شاهدان يؤكدان صحة ما ذهب إليه، أو ينفيان له ذلك: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والاَرْضَ بِالحَقِّ، وَيَوْمَ يَقُولُ كُن، فَيَكُونُ. قَوْلَهُ الحَقّ،ٌ وَلَهُ الْمُلْكُ، يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ، عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ﴾ (الاَنعام: 73-74).

الخلق كمصطلح كوني يعم الوجود كله، يجعل من تأله المخلوق وهم يذكر بالعبث فحسب، ولا يرتبط بعالم الحق، وبما أن العبث غير ممكن في المجال الكوني، فإن الرؤيا القرآنية تبقى متماسكة وتجعل وهم التأله ممكنا في المجال الإنساني فحسب. ومن ثم كان ذلك العبث آية على طريق غير صحيحة سلكها الإنسان في مستواه الفردي أو الجماعي، وعليه العمل المعتمد على الشاهدين: الكون والقرآن، لمعرفة كيف يعدل طريقه. كما يلزمه إعادة بناء نفسه ومجتمعه حتى يجعل من تجاوز العبث الذي سقط فيه، أمرا ممكنا. ذلك أن معرفة الطريق في المجال البشري غير كافية لسلوكه. حيث يتوقف سلوك الطريق الصحيح على الشهادة؛ أي معرفة الطريق الصحيح، وحضور القدرة على جعل اختاره ممكنا.

يبدو الوجود كله، والإنسان محمي خلقة من التأله. وذلك عبر الخلق كما تقدم، وكذلك عبر الزوج، الذي هو مصطلح قرآني كوني يعم الوجود كله: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خلقنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الذاريات: 49).

الزوجية تجعل تواصل الحياة مرتبط خلقة بالنصف الآخر ومتكاملا خلقة معه. حيث يملك الزوجان ما يفقده كل منهما بشكل متكامل يجعل عند تزاوجهما معا الحياة ممكنة وقابلة على أن تتولد عبر ذلك التواصل.

وهنا كذلك يمكن للإنسان دراسة الزوجية في المجال الكوني، وداخل مرجع المعنى المكتمل: “القرآن”، حتى يعرف أبعادها، وكيف يقيم ذلك في حياته. فالأرض، مثلا، عند إنزال الماء عليها تهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج كقوله تعالى: ﴿وَالاَرْضَ هَامدةً فإذَا أنزلنا عليها المَاء اهتزتْ وربَتْ وأَنبتَتْ من كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (الحج: 5)؛ وقوله عز وجل: ﴿وَالاَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وأنبتنا فيها من  كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (ق: 7) كما يكون هذا الزوج كريما لقوله تعالى: ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْا اِلَى الاَرْضِ كَمْ اَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم﴾ (الشعراء: 6)، وكذلك قوله تعالى: ﴿خلقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ، تَرَوْنَهَا، وَأَلْقَى فِي الاَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ، وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءًً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم﴾ (لقمان: 9).

فالإنسان يجعل زواجه متواصلا مع الكون متكاملا معه عندما يجعل منه الزوجية في مجالها الإنساني كريمة مبتهجة، قادرة على مواصلة الحياة الكريمة المبتهجة.

كما يبقى مرجع الوجهة المكتمل دقيقا وهو يتحدث على الزوجية في المجال الإنساني، حيث تبقى زوجية بين الذكر والأنثى، هادفة، تذكر بغائية الخلق، ولا عبثية الوجود، مخلصة من وهم التأله، مذكرة بالنصف الآخر حيث يكون التكامل وتكون الحياة وتواصلها ممكنا: ﴿وَأنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثَى﴾ (النجم: 44).

كما يبقى القرآن دقيقا في ارتباط هذه الزوجية في مجالها الإنساني مع خلق غائي، حيث تبدو متفرعة عنه باستمرار. فكما رأينا أن خلق الإنسان من طين في رؤية القرآن المهيمنة على من سبقها، هو أمر متواصل مع كل إنسان، وغير مرتبط بآدم لوحده. فكذلك فإن الخلق من نفس واحدة هو متواصل مع كل إنسان، وغير مرتبط بآدم لوحده. فكذلك فإن الخلق من نفس واحدة متواصل كذلك مع كل زوجين، حيث يتفرغ من النفس الواحدة زوجها في عملية خلق غائي يؤدي عبر تحرك النفس الواحدة نحو الأنثى، وجعل زوجها منها أحيانا أخرى، في نظام بديع يتولد عليه الذكر والأنثى في مناصفة عجيبة. ورغم ضعف معارفي الطبية فيبدو لي أن الخلق من خلال الآيتين التاليتين يؤكد هذه الفكرة. كما تبدو لي الأنثى سابقة للتشكل والذكر متفرع عنها، والله أعلم: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ، فَلَمَّا أَثْقَلَت دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ ـاتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ (الاَعراف: 189)؛ ﴿خَلَقَكُم مِن نَفسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا، وَأَنزَلَ لَكُم مِنَ الاَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ، يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مٍن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ، ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ، لاَ إله إٍلاَّ هُو، فَأَنَّا تُصْرَفُونَ﴾ (الزمر: 7).

والآيتان السابقتان مثال آخر على ضرورة أن نتعامل مع الكون والقرآن كشاهدين يصححان من فهمنا الحاصل عند التعامل مع أحد المرجعين لوحده. فالتوجه، هنا، عليه أن يتوجه لتعديل رؤية حصلت بالاعتماد على مرجع واحد، بعرضها على المرجع الثاني، وليس عبر فرضها فرضا على أحد الشاهدين. كما تشكل الزوجية ثمرة الحياة التي تتواصل من خلالها. فهي لا تنتهي عندها، بل تعمل الثمار بذرة تواصلها.

﴿وَهُوَّ الَّذِي مَدَّ الاَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً، وَمِن كُلِّ الثَّمِرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اْثنَيْن، يُغْشِي اليْلَ النَّهَارَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ ءلايَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الرعد: 3).

كما يعكس اعتماد الإنسان نفسه على تلك الثمار لجعل حياته ممكنة، مسؤولا ليبدأ حياته بزوجية كريمة، مبتهجة، ومثمرة. ومن ثم يمكن أن نرى كم هي سخيفة المصطلحات التي يدخلها الشرك إلى مجتمعاتنا اليوم كتلك التي تتحدث عن الزواج المثلي، حيث يفقد المصطلح معناه عند لحظة ولادته، فهو مصطلح يذكر بغياب المعنى وخلل الوجهة الذي أصاب المجتمع الذي ولده. حيث يصاب المجتمع البشري كما أثبت ابن خلدون في مرحلة الحضارة كخروج للعمران إلى الفساد، بفقدان الإنسان قدرته على توجيه فعله في اتجاه التسامي الذي يحتاجه نوعه.

“ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ والمشارب وطيبها. ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح من الزنا واللواط، فيفضي ذلك إلى فساد النوع[4].”

 يرتبط الوجود كله والإنسان عبر الخلق بالخالق، ومن ثم يوحد الكل عبر الله قبلة الحركة جميعا. يلتزم الوجود كله، ما عدا الشيطان، في التصور القرآني على تمكين الإنسان من القيام بدوره والتحرك بحرية نحو غاية خلقه. كما يجعل القرآن من الشيطان عدوا للإنسان، وعلى الإنسان أن لا يثق بغير الكون، والقرآن وهو يحاول معرفة طريقه وصدق اتجاهه لابتهاج الحياة وكرمها. كما يتواصل الإنسان مع الوجود عبر المصطلحات الكونية في القرآن والتي تجعل ذلك التواصل نوعيا، مثمرا، وهادفا، وتأخذ الحياة معه بعدا أكثر تعقيدا من التواصل عبر الطين الحاصل حتما. فالتواصل عبر المصطلحات الكونية يبقى تحديا قائما في المجال الإنساني مرتبطا بقدرة الإنسان على جعله ممكنا معاشا.

ثالثا: القيم العليا المشترك بين البشرية جمعاء

يتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات بوعي الحاجة إلى الآخر، ومن ثم ينظم حياته تبعا لتلك الحاجة. فالإنسان لا يستطيع أن يلبي ما تحتاجه حياته لوحده حتى في أبسط مطالب الحياة. ذلك أن أي مطلب من مطالبه الحياتية يقتضي التعاون بين أبناء جنسه؛ سواء اتصل ذلك بمأكله أو ملبسه أو منع الاعتداء عليه. إلا أن تلك الاستعانة بأبناء جنسه ليست هي الأخرى حاصلة مع من هم أحياء فحسب، ولكن هي كذلك تذكر بمن سبقه من بني الإنسان على اختلاف عمرانهم وأزمانهم وألوانهم وأديانهم وأجناسهم.

فالقميص الذي يرتديه الإنسان، مثلا، له من العمر آلاف السنين، وبصمات من شارك فيه تتجاوز عدد عقده. والأمر نفسه فيما يخص كل نواحي حياة الإنسان. ولما كان كل ذلك طبيعيا للإنسان كان الوعي به صفة إنسانية كذلك. إلى جانب ذلك فإن حياة الإنسان لا تتم عبر هذا التعاون لوحده، ذلك أن النوع الإنساني وقعت حمايته عبر نظام الأسرة؛ أين يمارس الإنسان بوعي ضرورة حماية الحياة عبر تقسيم ما ينتجه بفكره، وتصنعه بخدمة ذلك الفكر يداه؛ أي أن حياة الإنسان لا تستقيم بغير ذلك العطاء السابق لنتائجه، والذي يتعامل معه بني الإنسان عن وعي على أنه واجب تتطلبه الحياة نفسها.

ونحن إذا نظرنا إلى الإرث، الذي يمكن رؤيته عند الكثير من المجتمعات البشرية على تنوعها، نجد أن الإرث هو نوع من التواصل الذي يتجاوز الإنسان عبره مدة عمره؛ أي أن الإنسان هنا يمتد عبر عطائه لفترة تتجاوز وجوده العيني ليتواصل عبر حياة أخرى ساهم هو في نموها يوم كان مولودا جديدا عاجزا عن العطاء ومحتاجا إليه بشكل كلي. ويتابع الإنسان مساهمته في صناعة الحياة عبر توريث ما كسب بفكره وصنعت يداه. فنحن هنا أمام مخلوق يمتاز على بقية المخلوقات بوعيه للحياة ومقاومته للموت عبر التواصل مكانيا وزمنيا مع أبناء جنسه. فالإنسان لا يموت فحسب، بل هو يعي أنه سيموت، ومن ثم يقاوم موته الحتمي في بعده الفردي حتى تتواصل حياة نوعه وبشكل واع كذلك.

يقدم القرآن الكريم معرفة للقيم العليا التي يحتاجها الإنسان الساعي إلى التحرك نحو الأعلى. تشكل تلك القيم في المجال الإنساني الدعاء الذي يعكس دوما تطلع الإنسان إليها وقدرته على معرفة تلك القيم الحسنى، وجعلها واقعا معاشا في حياته: ﴿وَلِلهِ الاَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا، وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ، سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الاَعراف: 180).

فالقيم العليا هنا تستمد وجودها من غاية حركة الإنسان ذاتها كما أعلن ذلك أول ما نزل من القرآن الكريم: ﴿إن على ربك الرجعى﴾؛ فالله هو الرحمان الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، العدل، الحق، القادر، الظاهر، الباطن، القوي، العزيز… كما يقدم القرآن ذلك في آيات كثيرة.

 تشكل تلك القيم العليا مشتركا بين بني البشر جميعا، ومن ثم تحمل القدرة على توحيد الكل الإنساني ليتحرك موحدا نحو الله منبع تلك القيم الحسنى العليا كلها. وهي كقيم عليا مشتركة بين الناس، تجد في المجال الاجتماعي قدرات متنوعة لجعلها متداولة بين بنى الإنسان. ومن ثم لا يمكن لمجتمع بشري ما ادعاءها لنفسه.

وكذلك فإن المجتمعات البشرية جميعا يمكنها أن تتبادل الخبرات في إنزال تلك القيم إلى واقع الناس. ومن ثم دعا الإسلام إلى التعارف، واصطلح على الحرب بالأوزار، وكان من أسماء الله الحسنى “السلام”. فالتعارف هنا هو المناخ الذي تحتاجه البشرية لتبادل خبراتها في معرفة القيم العليا، ومعرفة كيف تجعل نفسها موحدة، ومؤلفة حولها، مسبحة اسم ربها الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى.

الأسماء الحسنى تبدو كلها منعكسة في الكون والقرآن انعكاس النور عند وقوعه على المرآة. ومن ثم يمكن للإنسان التقاطها عبر الآيات التي ما تنفك تصل إليه. وهي كقيم حسنى متعددة تعكس عظمة الإنسان وصعوبة مسؤوليته في الوقت نفسه. فهو مدعو أن يقيمها في ذاته ومجتمعه ويبني عليها عمرانه ويربط بها علاقته مع بني جنسه، بشكل متوازن فيما بينها ومتحرك باستمرار نحو الأعلى. يمكن مثلا أن نتصور قيم العدل والقوة والرحمة والمغفرة وكيف يصبح النموذج معقدا عند محاولة الجمع بينها بشكل يحافظ على الميزان ورفعته. وفي الوقت نفسه يمكن تصور الحالات المتعددة التي تنشأ عن القيم جميعا عبر تفاوت تواجدها من مجتمع إلى آخر وعدد حالات العمران التي تتولد عنها. ومن ثم كيف يقوم التعارف بين المجتمعات البشرية بخلق ذلك المناخ المساعد على تسام أعلى عبر تبادل خبرات تحقق القيم وتوازن تواجدها جميعا.

نحاول فيما يلي ربط ما تقدم بالتحولات الكبرى التي يحتاجها المجتمع البشري، كلما تعطلت قدرته على مواصلة سيره المشترك نحو الأعلى.

1.التحولات الكبرى

تقدم سورة “الطارق” نظرة عن تحرك الإنسان نحو تحققه. وذلك في لحظات يخيم شبح الموت فيها على الاجتماع البشري وقد صار لا يرى إمكانية لمواصلة حركته. ترمز السماء إلى عالم متعالي يمد الإنسان بـ”المعنى – النور” الذي يحتاج وهو يتحرك داخل المجهول ليؤمن رحلته وسيره المشترك نحو الأعلى. ويرمز الطارق كذلك إلى بشرى انتهاء ليل قد عسعس. كما أن هناك إيحاء أن التحولات الكبرى في المجال البشري، الباحثة عن عودة الحياة والحركة للاجتماع البشري تحتاج إلى طاقة هائلة حتى تبدد الظلام الحالك الذي أفقد الوجهة. هنا النجم الثاقب هو تلك الطاقة، التي تذكر كذلك بالشمس وضحاها، وكذلك تذكر بالصبح إذا تنفس. هنا رمزية عالية التي تمكن من أن تعطي فكرة عن دور الوحي في حركة الوجود الكبرى. هي لحظة تعطل للحركة ناتج عن عجز ما هو متوفر من مرجع للمعنى لمنع فساد ظهر بالبر والبحر. الظهور هنا يعكس الغلبة كذلك: ﴿فَأّيََّدْنَا الَّذِينَ ءامنوا عَلَى عَدُوِّهِمَ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ (الصف: 14). هي لحظة تبلى فيها السرائر حيث اليأس القاتل وقد أحاط بالإنسان من كل جانب. يقدم القرآن صورة كونية أخرى حتى يعود الأمل للإنسان. فالسماء هنا هي ذات رجع والأرض ذات صدع. السماء والرجع يجعل الأرض حية بعد موتها. يحافظ القرآن على نفس المصطلح وهو يتوجه إلى الإنسان وقد تدخلت السماء لتمكينه من مرجع الوجهة لمرحلة الختم: ﴿إنه على رجعه لقادر﴾. ليس هناك نهاية للتاريخ إذا ما دام هناك إنسان. ذلك أن الموت الذي يصيب مجتمع بشري ما عند أزمات التحقق ليس حجة تعتمد على عدم تمكن الاجتماع من جديد من مواصلة سيره عندما يتم مده بما يحتاج من السماء من مرجع للوجهة تجعل حركته داخل عالم الفعل ممكنة ومحافظة على الحياة.

أ. الإنسان والكون

يمكن دراسة القرآن في مرحلته المكية لنرى كيف يطرح من خلال صور كونية ما تحتاجه التحولات الكبرى في مستوى الاجتماع البشري كتلك التي يقودها الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم. من المهم أن نرى أن القرآن لا يرى أن الدين الجديد يبحث أن يعوض غياب الدين في المجتمع البشري الذي يتوجه له.

وكذلك من المهم أن نرى أن مفهوم الدين نفسه الذي يتحدث عليه القرآن أوسع وأشمل بكثير مما يصطلح عليه بدين اليوم والمترجم عن مصطلح “رلجيون” الذي نشأ في المجتمع الغربي. يقدم القرآن حركة النبوة كحركة ممتدة من آدم إلى محمد، ويقدمها متواصلة مع بعضها ومتحركة نحو تحقق غاية خلق الإنسان ذاته. ويقدم القرآن الكريم الإنسان على أنه مخلوق مختلف عن باقي المخلوقات وقعت تسويته وعدله وركب في صورة تجعل قيامه بدوره ممكنا: ﴿يَأَيُّهَا الاِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾ (الانفطار: 6-8).

يمكن أن نأخذ على سبيل المثال سورة الشمس لنرى كيف يبدو الإنسان مختلفا على بقية الكون ولكن غير منفصل عنه. ﴿والشَّمْسِ وَضُحَاهَا. والقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا. وَالنَّهارِ إِذَا جلاَّهَا. والَيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا. والسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا. وَالاَرْضِ وَمَا طَحَاهَا. ونَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاها. قَدْ اَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دسَّاهَا﴾ (الآيات: 1-10).

يلاحظ هنا كيف يقدم الوجود بشكل معرف حيث تضاف (ال) التعريف إليه بشكل عام. ويقدم الإنسان الذي يعمل داخل ذلك الوجود دون تعريف، حيث تغيب (ال) التعريف تماما عندما يقدم الإنسان. عدم التعريف هذا يعلل بأن الإنسان هو صاحب تعريف نفسه. فالإنسان هو من يرتبط مصيره بـ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾.

يمكن تحليل الكلمات المستعملة للاقتراب بدقة أكثر من المعاني التي يراد إيصالها. هنا أفلح تذكر بالفلح والفلاح؛ أي أن الإنسان هو نبات عندما يرتبط الأمر بإخراجه إلى عالم الفعل “وأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا” يقول القرآن عندما يتحدث عن أم مريم. ومن ثم فإن الإنسان كإنسان هو منتم لعالم (الفعل –الشهادة)، ولكن ينتمي كذلك إلى عالم الغيب؛ أي أنه يحتاج إلى عمل بناء وخلاق في الوقت نفسه يجعل من تحقق إنسانيته أمرا ممكنا. هذا العمل يصفه القرآن هنا بزَكَّاهَا، حيث هي عملية تصنيع مستمر يمر بها الإنسان وهو يدخل عالم الشهادة ويتحرك في الوقت نفسه داخل عالم الغيب لتوسيع عالم شهادته وهو يحقق نفسه.

ولكن كل ذلك لا يتم بشكل حتمي، حيث يمكن أن يأتي على الإنسان حين من الدهر دون أن يكون شيئا مذكورا. ومن ثم كان خروج الإنسان إلى الفعل وتحققه داخل هذا العالم يرتبط بعمل قادر على ذلك. فالإنسان يمكنه أن يدسي نفسه ويمنع خروجه، ومن ثم يحقق خيبته. الفلاح كما الخيبة هنا يقاسان بالنسبة لغاية وجود الإنسان ذاته، والتي هي تحققه كإنسان قادر على أن يصل إلى اقتراب متواصل من عالم القيم العليا التي يمثل الله منبعها جميعا. اقتراب الملائكة يسجدون له.

ب. الشمس خلق يحتاج إلى نهار يجليه

القرآن الكريم يتحدث على حقيقة هامة جدا وهو أن النهار خلق بشكل يجعل تجلي الشمس ممكنا؛ أي أن النهار هو الذي يجلي الشمس وهو من عنده خلقا تلك الخاصية: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا﴾. الشمس خارج مجال النهار تبدو قرصا أسود لا يمكن رؤية أهميته؛ أي يجب أن يكون هناك وعي بأن النور نفسه يحتاج إلى مناخ يجعل تجليه ممكنا. هنا القرآن يقدم للأمة المخرجة زمن الختم ضرورة كونية تذكر الرسول الخاتم أن الرسالة غير الأمة، ولا يمكنها أن تعوض واجب إخراج الأمة أين تتجلى رسالة الختم.

يبدو لي أن على الأمة اليوم أن تقوم بذلك الدور نفسه، حيث تتجلى فيها القيم الكبرى للختم كما تجلت في محمد النبي الخاتم، عليه الصلاة والسلام، والأمة المخرجة زمن الختم والتي قال فيها القرآن: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللهِ﴾ (ءال عمران: 110)؛ أي أنه بدون التمكن من إخراج الأمة؛ أين تتجلى رسالة الختم، يبقى الختم نفسه، ذلك القرص الذي يحتاج إلى نهار يجليه. ومن ثم فإن صعوبة الحصول على الحكمة، مثلا، ليس أكثر صعوبة من خلق مجال تجلي الحكمة ذاتها. ومن خلال اتباعي لبيان القرآن؛ أجد أن هناك ثلاث أدوار للنبي: ﴿يزكيهم، يعلمهم الكتاب والحكمة﴾؛ التزكية هنا هي الارتقاء بالفرد كما بالمجتمع حتى يكون قادرا على تجلي ممكن للحكمة. الكتاب هو مرجع الحكمة، الحكمة هي القدرة العالية على تحكم الإنسان في مصيره، وتحركه باستمرار نحو الله “الحكيم”.

 يمكن، اعتمادا على ما قلناه، أن نقيس، مثلا، الاختلاف بين الجامعات اليوم حتى داخل البلد الواحد حيث يسهل التلقي للعلم نفسه عند وجود مجلي له أكثر صفاء ولا يمكن لاعتماد نفس المنهج والكتب أن يجعل النتائج متساوية. وفي رأيي فإن هذا ما ذهب إليه ابن خلدون عندما تحدث عن ضرورة السفر في طلب العلم وكذلك عندما تحدث عن رسوخ الحضارة وكيف يقع حيث يعلل ذلك كالآتي: “والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل: تارة علما وتعليما وإلقاء، وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها.

 والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى قد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم. ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين. فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصل وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في المكان وتصحح معارفه وتميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم.

هذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية. فالرحلة لابد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ومن ثم يمكن أن نرى كيف أن لمصدر تجلي النور خصوصيات ليست عند النور ذاته؛ أي أن معرفة النور وخاصياته لن يؤدي حتما لإمكانية تجليه. ومن ثم فالتحدي هو في معرفة خاصيات الاثنين معا كخلق الشمس وخلق النهار. الخلق هنا يستعمل كقدرة لتخطي عائق الزمن نفسه لجعل ما نحتاج ممكنا.

ومن ثم كان لزاما على كل صاحب رسالة أن يفهم قيمها العليا، وأن يعرف كيف يخلق المجال الذي يجعل تجليها ممكنا. إلا أن كل ذلك يحتاج إلى إيمان بأن الإنسان هو من يخلق واقعه، وهو عبر خاصية الخلق عنده لا يحتاج لنظرية التطور حتى يتأقلم مع واقعه. ومن ثم فإن ذلك الإيمان يضع الإنسان على الطريق الصحيح للتخلص من أكبر سجونه، والذي هو سجن الواقع، عندما تدخل الحضارة مرحلة السقوط.

ج. سجن الواقع وخطورته على الإنسان

تفرض المناهج المتبعة في مراحل الحضارة، كخروج للعمران للفساد بالمفهوم الخلدوني، مادية قاتلة على الإنسان تجعله سجين عالم الأشياء لا يستطيع أن يرى الوجود رحبا كما هو. ولكن ليس الوجود لوحده المستهدف بطغيان المادية، ذلك أن الإنسان نفسه يفقد خاصياته اللامادية. تلك الخاصيات اللامادية التي تمنح الإنسان التحكم في المادية ذاتها والتحرر من سجونها ونارها الموصدة.

ولما كان أن عالم القيم المرتبط بالله “الأعلى”، متعاليا بطبعه، فإن أول ما يضيع داخل عالم المادية هو القيم المتعالية حيث تعجز المادية خلقة أن تقيس كل ما خرج على نطاقها. ومن ثم تسقط المادية كل ما لا تستطيع قياسه من كل نواحي عملها. وهي؛ أي المادية، حتى عندما تتحدث عن القيم لا تفقهها، بل تخضعها إلى عالم مادي بحت. وتفسر الاختلاف الواسع كما يعكسه الوجود على أنه لا يعدو أكثر من تهيكل نوعي، والذي يشكل الإنسان أعلاه. يمكن أن نرى أن الإنسان يتشيأ داخل المادية وينتهي عند ولادته.

والسبب في ذلك هو أن المادية التي تجعل من الإنسان أعلى ترقي للمادة، لا يمكنها أن تأخذه إلى ما هو أعلى من ذلك الموقع. ومن ثم فإن نتائج المادية على الإنسان، عند طغيانها، كما تبينه حركة الوجود، هو التردي. والسبب في ذلك أن ادعاء أن الإنسان هو آخر نقطة الترقي المادي داخل وجود هو مادي مائة بالمائة لا يمكنه إلا أن يكون مكذبا بالحسنة. حيث تعجز الرؤية أن ترى أعلى من تلك النقطة التي تصاحب الإنسان لحظة دخوله العالم. الحسنى هنا هي لا نهائية التحرك نحو الأعلى، ومن ثم ترتبط بالإيمان، كحالة ممكنة تسبق إدخالها عالم الشهادة؛ أي أن الحسنى هي خارج عالم المادة. ومن ثم فهي كحالة ممكنة عند الإنسان قبل دخولها واقعه، تعكس لا مادية الإنسان المؤمن المتحرر عبر الحسنى من سجن الواقع، ومتحكما في ذلك الواقع وقادرا على تجاوزه.

د. الإنسان كتحرك لا يتوقف

يقدم القرآن، مرجع المعنى داخل مرحلة الختم، صورة جد رائعة حول هذا الموضوع. حيث يبدو الفلاح بشكل جلي مرتبطا بمستوى تخلص الفعل الإنساني من سجن المادية، ذلك السجن المتجسد أساسا في عالم أشياءها. يقابل القرآن بين من أعطى واتقى وبين من بخل واستغنى. ويوحد قياس التحرك عبر توحيد المرجع: الحسنى. ومن ثم تبدو الحركة متحركة في اتجاهين فيما يخص تحرك الإنسان نحو تحقيقه لإنسانيته أو منعه لذلك. حيث يبدو الإنسان في حالة أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، متحركا نحو الأعلى بشكل ميسر لليسرى. حيث الإنسان قادر باستمرار أن يرى، عبر وعي ذاته ووعي الوجود من حوله، أن ما وصل إليه ليس إلا نقطة عليا عليه أن يتجاوزها.

 وعلى الإنسان أن يعي أنه صانع نقطة وصوله مهما بدت عالية، حتى تكون دوما له لا عليه. وعليه كذلك أن يكون دوما مؤمنا بإمكانية تحقيق أحسن مما وصل إليه. وعليه كذلك أن يؤمن بقدرته كإنسان أن يدخل إلى عالم الوجود، عبر إبحاره داخل عالم الغيب، ما هو أحسن مما وصل إليه وبشكل مستمر؛ أي أنه يعمل كإنسان أن يرى نفسه ظاهرا وباطنا. أن يرى الجهر ويستعد للتمكن من الذي يخفى. وبذلك يكون إنسانا محررا؛ أي أكبر من حر. والسبب في ذلك أن المحرر يعي أن أي مناخ حر، خلقه بفكره وصنعته يداه لمواصلة سيره نحو الأعلى، والذي يتجلى في نوعه ويعكسه محيطه الذي يصنع، هو مناخ صائر حتما من مرعى إلى غثاء أحوى.

وفي الطرف المقابل للتحرك نحو الأعلى المؤمن بالحسنى، يتشكل عالم مغاير، عالم يتجسد فيه سجن المادية وعالم أشياءها القاتل، باعتباره تحققا أوجب تجاوزه. الفعل في هذه الحالة هو: بخل واستغنى، حيث يقابل بخل أعطى ويقابل اتقى استغنى. فلأن عكس فعل أعطى التحرر من سجن ما يدخله الإنسان إلى عالم الواقع، فإن اتقى تعكس التحكم في العطاء ذاته حيث تفرض عليه وجهة التحرك نحو الحسنى. وفي الحالة المقابلة يعكس بخل خضوع الإنسان إلى الشيئية، وتحكم تلك الشيئية في مصير الإنسان.

يجري كل ذلك داخل رؤية تعجز أن ترى التحرر؛ لأنها محكومة بـ”بخل واستغنى”؛ أي أن الاستغناء هنا ناتج عن تصور للوجود لا يرى موقعا للإنسان خارجه، ولا يرى واقعا آخر غير الذي أحاط به. ومثل ذلك التصور مخالف لحقيقة الوجود ذاته، ذلك أن الواقع نفسه متغير بطبعه يشهد على ذلك الوجود كله. فالإنسان نفسه يولد طفلا، ولا يمكنه أن يوقف حركة تغيره التي تبدو حتى في ملامح وجهه المذكر بوجهته. والفيزياء اليوم لا ترى عالم المادة نفسه إلا عبر نظام الاحتمالات حيث تحكي مثلا عن وجود سحابة الإلكترون وليس الإلكترون ذاته، وهي لم تعد تؤمن بإمكانية امتلاك الحقيقة حيث يبيت الخطأ العالم، ولا تمكن الرياضيات من التخلص من الخطأ. تلك الرياضيات التي كانت تقدم كإطار يمكن من المعرفة المطلقة للحقيقة. ومن ثم فحالة “بخل واستغنى” هي حالة مرتبطة بالإنسان، وتعكس تعاليه عن عالم المادة كذلك كما في الحالة الأولى. ذلك أن بإمكان الإنسان أن يجسد حالة غير موجودة خارجه. ومن ثم وصف القرآن تلك الحالة بكذب بالحسنى. حيث هي حالة سجن ولكنه سجن-كذبة، لولا الإنسان ما وجد.

يجري التحرك، إذن، في اتجاهين. ففي حالة صدق بالحسنى يتمكن الإنسان أن يتحرك بشكل متواصل نحو الحسنى متحررا من سجن كل ما يقع بين يديه. ويكون ذلك التحرك ذاته متحركا هو الآخر نحو اليسرى: “نيسره لليسرى”، حيث يخرج الإنسان إلى عالم الفعل، وتبرز باستمرار معالمه وتتجسد فيه القيم العليا، تلك القيم التي يمثل الله منبعها جميعا. وأما من بخل واستغنى، وكذب بالحسنى فإن حركته هي حركة تردي؛ أي حركة سقوط لا قاع له؛ أي أنه سقوط لا مادي كذلك يفرض على المادية ذاتها درجات من السفالة لم تكن موجودة، التحرك نحو أسفل سافلين؛ أي لا تناهي السقوط والمعبر عنه بالتردي. ومن ثم لا يغنى عنه ماله إذا تردى، لأن المال كمجسد للمادة لا يمكنه أن يعالج حالة خارجة عنه.

ﻫ. التخلص من سجن الواقع عبر العقل الخلاق

تطرح أول آية لمرحلة الختم فكرة رئيسية حول ما تتطلبه حالة الاختناق التي يمر بها اجتماع بشري ما عندما تتحول رؤيته التي يتعامل بها مع واقعه إلى سلاسل وأغلالا تكبله، ويتحول واقعه الذي صنع إلى قفص حديدي يسجن داخله. ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق: 1)، هذه هي الوحدة وليست “اقرأ”، كما يروج منهج العنعنة، ويريد أن يفرض علينا. “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ”، هي إذًا كل لا يتجزأ يشكل الوحدة القرآنية: الآية؛ أي عليك ببناء رؤية قادرة على أخذ الكل موحدا نحو الأعلى معتمدا الخلق.

هناك تحدي توليد القراءة التي تحتاجها المرحلة “اقرأ”، والتمكن من صناعة اللغة “اسم” التي تحتاجها الأمة والتي من خلالها تضمن التحامها وسيرها المشترك نحو الأعلى، وتعرف تحدياتها وتصنع حلولها، وتتحرك نحو قبلتها موحدة ومتسامية باستمرار “ربك”، وتكون قادرة على “الخلق”، واعية أن الخلق هو الخاصية المتغلبة على مرحلة الموت الذي خلق الخلق كحقيقة لا تفهمه المادية ولا يمكن للعقل الأداتي فهمه كذلك.

والسبب في ذلك أن كل ما يخضع لعالم الخلق هو خارج عن الأداة، وغير منتم لعالم المادة. ومن ثم لا يتمكن من معرفة الخلق غير العقل الخلاق، ذلك العقل الخلاق الذي بإمكانه أن يتجاوز غياب الأداة المتاحة عندما لا تستجيب لما يريد. ذلك أن العقل الخلاق هو عقل مختلف عن عقل الأداة والذي يعد أكثر حضورا عند التحرك داخل عالم تم وجوده عبر عقل خلاق. التحولات الكبرى تحتاج لحالة من الوجدان يعكسها عقل خلاق وروح متعالية عن سجن المادية حيث الطين اللازب المعجون بالكلمة يصير مع نفخ القيم العليا فيه والتي يمثل الله منبعها جميعا ﴿نفخت فيه من روحي﴾ حرا من سجون النار الموصدة، التي تولدت عن واقع صار عاجزا عن أن يستجيب لتعالى الإنسان.

القرآن الحكيم يقرب هذه المعاني عبر ضرب الأمثال وسرد قصص توحي بهذه المعاني المتعالية وتحاول أن تقربها للإنسان. فمثلا عندما يبحث موسى عن العبد الصالح القادر عن الخروج من سجن الواقع الذي صار عاجزا أن يفسر لموسى ما هو بصدد رؤيته أمام عينيه حيث تعجز الرؤيا المتوفرة أن تفسر ذلك. تلك الرؤيا الملتصقة في أغلب الحالات بالنفعية العاجلة كما بينتها الطريق التي توخاها العبد الصالح المتقن لإخراج الإنسان من كهف المادية المظلم.

يبدو أن إحساس موسى بذلك كان سابقا عن لحظة ملاقاة عبد الله هذا، هناك إيمان مسبق بوجود ذلك العبد، والذي قد يكون ناتج عن تصديق بالحسنى. ولكن هناك وعي مسبق أن آية وجوده لن تكون داخل كهف المادية وقد أظلم. هي آية تذكر بالحياة يعجز الواقع المتخشب الميت أن يدل عليها. ذلك “الواقع – الصخرة” التي تهدد أن تتحطم عليها كل آمال الإنسان. كانت عودة الحوت إلى الحياة وإبحاره كحدث خارج عن المادية متعاليا عليها، هو الدليل الذي كان موسى يبحث عنه. ﴿قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ، فَارْتَدَّا عَلَى ءاثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ (الكهف: 63).

 ذلك الحدث المتعالي على المادية، والقادر على الإبحار الحي كان آية تدل على مكان عبد الله الذي يبحث عنه موسى، والذي بإمكانه أن يحيى النفس التي قتلها سجن الواقع المادي الصلد. تلك الحياة التي تمكن الإنسان من الإبحار داخل عالم الغيب الرحب، تلك الرحلة التي تحتاج الشرعة كشراع يمكن من الإبحار وتحتاج المنهاج الذي يمنح الإبحار داخل عالم الغيب ما يحتاج من وجهة باستمرار وهو يتحرك نحو الأعلى.

و. على الإنسان أن يكون على الدوام سيدا لما صنعت يداه

ربما إذا ضربنا مثلا آخر قد يساعدنا على التقاط هذا المعنى. فموسى الذي نتحدث عنه هنا لم يمنحه سجن القصر، أعلى حضور للمادية، إمكانية تغيير الواقع ولا إمكانية أن يمنح الحياة للفرد ولا المجتمع بالاعتماد على القصر. حيث كانت أول أفعال الخروج من القصر: ﴿فوكزه موسى فقضى عليه﴾ (القصص: 14)؛ تواجه تلك الحالة في بداية الأمر بخوف لا يرى سبيلا للنجاة غير الهروب من القصر. إلا أن موسى هذا عندما يوضع على يدي شعيب داخل مدار النبوة المتعالي عن المادية وسجونها، يصير متحررا من سجن واقعه.

 المادية التي لم تستطع إلى حد اليوم خوض عالم النبوة ومن ثم عمدت على إنكاره رغم أن البشرية تؤرخ بميلاد نبي وبهجرة آخر، بحيث ينتمي على الأقل خمسون بالمائة من سكان العالم إلى حركة النبوة ذاتها، حيث يشكل اليهود والمسيحيون والمسلمون نصف العالم. والسبب في ذلك أن التكذيب والإلغاء هو أداة المادية عندما تعجز أن تفسر ظاهرة من الظواهر. يخضع موسى وهو يتوجه نحو تغيير واقع القصر، ومنح الحياة لشعب تم قتله عبر استعباده، إلى اختبار التخلص من سجن الواقع.

ذلك إن الإنسان لا يمكنه أن يغير ما عجز أن يرى إمكانية تغييره حقيقة معاشة في داخله كإنسان قبل تحقق ذلك في الواقع. وذلك رغم أنف الواقع الحاضر بكل عمده الممدة وأبوابه السميكة الموصدة. وككل اختبار فإن السؤال يشكل جوهر وجوده. ذلك السؤال الذي هو خاصية إنسانية لا مادية حيث لا يسأل غير الإنسان ومن ثم كان مسؤولا كذلك ﴿وَمَا تلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى. قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤاْعَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَئارِبُ أُخْرَى. قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى. فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَّ حَيَّةٌ تَسْعَى. قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الاُولَى. واضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ـايَةً أُخْرَى. لِنُرِيَكَ مِنْ ـايَاتِنَا الكُبْرَى. اذْهَبْ اِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ (طه: 16-23).

سؤال الاختبار هنا هو: “وما تلك بيمينك يا موسى؟”؛ اليمين هنا تعكس التحكم والثقة العالية في ذلك التحكم المطمئن للأداة التي باليمين. الجواب: “قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى”. هو جواب –مصيبة، يتجسد فيه سجن الواقع، ويستحيل من خلال ذلك الجواب تغيير الواقع.

تبدو الأداة من خلال الجواب واضحة المعالم، لا يستطيع الإنسان أن يفعل شيئا بدونها، بل هي أداة جزء من حركته ذاتها: “أتوكأ عليها”، وهي التي تمنحه ما يحتاج لجعل حياته ممكنة: “أهش بها على غنمي”. وأكثر من ذلك كله فهي التي تطمئن بكل حلول المستقبل داخل عالم مادي مسطح، باهت، راكد، وتافه. حسنا لن يكون هناك إمكانية للتحرر إذًا داخل هذه الرؤيا. قال ألقها. تخلص منها حيث لا أمل فيها وقد صار وضوح معالمها وارتباط كل آمال الإنسان بذلك الوضوح هو السجن عينه وهو العمد الممدة.

ليس هناك وقت للنقاش، حيث اللحظة هي حالة طوارئ تبحث عن إسعاف الحياة من نار موصدة، والكل يعرف كيف يتعلم الصغار بالمدارس واجب طاعة الأوامر أثناء الحرائق ويتمرنون على ذلك. إذا ألقها، أمر. “فألقاها فإذا هي حية تسعى”. لم تعدـ إذن، بعد إلقائها، ذلك الوضوح القاتل وقد صارت حية. وهي تسعى؛ لأنها حية كذلك. إذن؛ هي حالة طوارئ أخرى: “قال خذها ولا تخف”؛ حيث الخوف من الواقع يشل حركة الإنسان الذي يحتاج أن يكون قادرا على الخروج من سجنه. وهي كحية تسعى، لا يجب أن يتعامل معها على أنها واضحة المعالم، ونهائية، بل هي حالة جديدة، عليها أن تخضع إلى تحكم الإنسان فيها. ذلك أن حياة الإنسان التي هي الأعلى نوعيا. قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى.

وأخطر من سجن الواقع على الإنسان هو أن لا يتعامل الإنسان مع حالته التي يصل من خلالها إلى التخلص من سجن الواقع، على أنها حالة نهائية كذلك. حيث يؤدي ذلك الشعور إلى أتعس أنواع سجون الإنسان، والذي هو سجن ذاته. ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ـايةً أُخْرى﴾ (طه: 21) هو يحتاج إلى سيطرته على حالات تحققه هو كذلك حتى يستطيع أن يواصل سيره نحو الأعلى وأن يجسد باستمرار تحققا لحالة أقرب إلى الله. وأن يكون دوما قادرا على التخلص من سجن ذاته. هذه الحالة؛ وعي ضرورة التخلص من أعلى حالات الاقتراب، تمارس يوميا مع الختم.

يمكن أن يرى كل من مارس الصلاة مع محمد، صلى الله عليه وسلم، كيف يعاد السجود مرتين داخل وحدة الصلاة والذي هو الركعة. السجود هنا يرمز إلى أعلى مرتبة يصلها الإنسان تلتقط فوتوغرافيا في تجسد وضع الوجه على التراب. يجعل السجود من تلك اللحظة جزء من الواقع وجب التخلص منها، وإلحاقها بالتراب، وفتح أفق أرحب يمكن من سجود أكثر اقترابا من الله “قبلة الحركة”.

 السجود هنا يسبقه إيمان بوجود سجود أعلى منه، كإمكانية موجودة داخل عالم الغيب وليس داخل عالم الشهادة “الواقع”. ومن ثم كان السجود هو لحظة يتخلص فيها الإنسان من سجن الذات المتعالية في لحظة تحقق لاقتراب، يهدد عبر تعاليه الإنسان بالموت، إن لم يستطع التخلص منه. والسجود باعتباره تحقق قياسي لمرتبة متعالية استطاع الإنسان أن يجعلها واقعا معاشا، هو خطر على الإنسان ومشروعه، حيث يصعب على محطم الرقم القياسي أن يتخلص من نشوة انتصاره ليحطم رقما قياسيا جديدا يتطلبه الإيمان بالحسنى. ومن ثم نرى لماذا يعاد السجود داخل وحدة الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم حتى يستطيع الإنسان أن يتحرك إلى وحدة أعلى في رحلته نحو الله المتعالي ومنبع القيم جميعا.

ز. خلق الموت والحياة

في المجال الكوني نعرف أن الموت غير مرحب به، وينظر إليه كمهدد لرغبة الإنسان في الخلود داخل هذا العالم. ولكنه كذلك يبقى غير مفهوم ولا يعرف له سبب، حيث تتعدد أسبابه ويبقى واحدا. وهو كذلك يحظى بالاعتراف من قبل الكل حيث أنه لا يشك في وجوده ولا يعرف عنه شيء في الوقت نفسه. ورغم تعدد المحاولات لمعرفة الموت، فلا أحد استطاع تفاديه. ومن ثم كان جواب الموت هو ضمان مواصلة الحياة. تلك المحافظة على الحياة التي تصاحب الإنسان حتى وهو يحاول تدميرها؛ حيث يخوض الإنسان، مثلا، الحرب باسم المحافظة على الحياة ومنع اندثارها.

تبين الدراسات اليوم أن الموت ليس أمرا مرتبطا بالفرد فيما يخص الاجتماع الإنساني، بل إنه يتعدى الفرد ليصيب الإمبراطوريات وهي في عز قوتها. ليس ذلك لأنها لم تحاول تفاديه، بل لأنه مصير لا يمكنها تجنبه. وفي المجال الفردي كذلك فإن حركة الإنسان البيولوجية ذاتها تتحرك نحو الموت. حيث يولد الإنسان ليمر بمراحل الطفولة فالكهولة فالشيخوخة بشكل لا يملك التصرف فيه. تعبر المادية، التي تتحكم في رؤية الحضارة، عن ذلك الموت بالسقوط، أو الانهيار. وتهتم فلسفة التاريخ كعلم بذلك. حيث استطاعت فلسفة التاريخ أن تنهي مع فكرة خلود تجربة حضارية ما، وتمكنت كذلك من معرفة العشرات من الحضارات التي تحركت نحو حتفها وهي تبحث عن أبدية بقاءها في هذا العالم.

هناك كذلك تجارب أخرى تمكنت من توحيد حركة الاجتماع البشري في اتجاه رافض للحضارة وماديتها الخانقة، كتجربة التصوف فيما يخص المسلمين، أو المسيحية فيما يخص الغرب. إلا أنها لم تستطع أن تتفادى الموت هي الأخرى لتتفكك وحدة المجتمع التي كانت تقود.

القرآن يقدم الموت كخلق لا يختلف من هذه الناحية عن الحياة: خلق الموت والحياة، يقول القرآن، وكذلك يتحدث القرآن على أن ولِكلِّ أمّة أجلٌ وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ. وهو تعبير في قمة الدقة حيث (الكتاب- الرؤية) ترتبط ارتباطا وثيقا بالأجل، ولا يمكن للأجل كذلك أن يخرج عن الكتاب.

الخلاصة

يمكن أن نرى من خلال ما سبق كيف أن حال الأمة اليوم هو كذلك يعكس حاجة ماسة إلى ذلك النجم الثاقب حتى تبدد ليلا قد طال بقاؤه. إن الأمة التي تبحث للعودة إلى الفعل في العالم لقرابة القرنين من الزمن بعد أن تحركت رافضة السجن فيه زمن تصوفها، تحتاج الكثير من المساعدة لجعل تلك العودة واقعا معاشا. يصاحب الخروج من العالم فقدان الأمة القدرة على الفعل فيه، وذلك لطول غياب رفضها التعامل مع العالم والتمكن من أشيائه. وهي حالة تعيشها الأمة اليوم حيث يبدو عليها التبعية في كل شيء له علاقة بأشياء العالم.

ونحن عندما نضيف لكل ذلك ما تمر به الأمة اليوم من ثورات قد تغير مجرى التاريخ ذاته، فإن بإمكاننا أن نرى أن الطاقة التي تحتاجها الأمم لتتحرك من جديد قد تكون متمثلة في تلك الثورات التي نرى اليوم حيث تحاول الأمة جميعا أن تنفض عنها زمن الخمول. ويعكس ذلك ما نادى به الناس في أقطار الوطن العربي حيث يتوحد الكل حول قيم عليا كالحرية والكرامة والعدل من أجل إحداث تغيير جذري في حياتهم عجز النظام الحاكم أن يجعله ممكنا.

ولكن كل ذلك يتطلب العمل على بلورة ما تحتاجه الأمة من رؤية تجعلها قادرة على تحديد موقعها زمانا ومكانا، ومعرفة قبلة حركتها، واستمرار علاقتها مع الكون، واستخراجها ما تحتاج من كلمة معتمدة على القرآن لتعطي لفعلها المعنى الذي تحتاجه كل حياة تسعى أن تكون كريمة مبتهجة. تلك الرؤية التي تجعل من الميزان ورفعته ميزانا للحركة نفسها، وإطارا تتحقق داخله القيم العليا المتصلة بأسماء الله الحسنى. والله أعلم.

 الهوامش

[1]. مقدمة ابن خلدون، ص36.

[2]. ابن خلدون، المقدمة، الفصل الثامن عشر في أن الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره وأنها مؤذنة بفساده.

[3]. ابن خلدون، المقدمة، الفصل السادس في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم.

[4]. ابن خلدون، المقدمة، م، س.

Science
الوسوم

د. ناجي بن الحاج الطاهر

مُحتَرَف الدراسات القرآنية

شيكاغو/الولايات المتحدة الأمريكية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق