مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةأعلام

الإمــام البيـهــقي

عاش الإمام البيهقي مابين سنة 384هـ إلى سنة 458هـ، وهي مرحلة من أشد المراحل اضطرابا وأكثرها فتنا في تاريخ الأمة الإسلامية بسبب ضعف الخلافة العباسية وظهور دويلات مستقلة. وبالرغم من ذلك فإن الحركة العلمية لم تتوقف فقد شهدت نشاطا علميا وازدهارا فكريا فائقين، حيث لمع فيها كوكبة من خيار العلماء والمحدثين في طليعتهم الإمام البيهقي.

اسمه ، ونسبه، ومولده، ونشأته:

هو: أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى، الإمام، العلامة، الحافظ، البيهقي النيسبوري، الخسر وجردي[1].

   يذكر يوسف رضوان الكود في مقدمة تحقيقه لكتاب “مختصر الاعتقاد” للإمام البيهقي حول مولد الإمام البيهقي ونشأته فيقول: “ولد – رحمه الله تعالى- في خسروجرد -قرية من قرى بيهق بنيسابور- سنة 384هـ ، ونشأ في بيهق التي كانت تموج بالحركة العلمية الواسعة، مما أدى بالإمام البيهقي أن يلتقي بنخبة علماء عصـره، في سن مبكرة، ويكتب عنهم الحديث يقول –رحمه الله –: “كتبت الحديث من سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وأدركت بعض أصحاب الشرقيين، وابن الأعرابي، والصفار والرزاز والأصم وابن الأخرم”. فسمع وهو ابن خمس عشر سنة من الشيوخ الذين بلغوا المائة شيخ، ولعل هذه  السن المبكرة التي ابتدأ البيهقي الطواف على الشيوخ استقلالا هي المرحلة العلمية التي أشار إليها هو في أثناء حديثه عن نفسه فقال: “وإني منذ نشأت، وابتدأت في طلب العلم أكتب أخبار سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين، وأجمع آثار الصحابة الذين كانوا أعلام الدين، وأسمعها ممن حملها، وأتعرف أحوال روايتها من حفظها، وأجتهد في تمييز صحيحها من سقيمها، ومرفوعها من موقوفها، وموصولها من مرسلها، ثم أنظر في كتب هؤلاء الأئمة الذين قاموا بعلم الشريعة، وبنى كل واحد منهم مذهبه على مبلغ علمه من الكتاب والسنة، فأرى كل واحد منه رضي الله عنهم جميعهم قصد الحق فيما تكلف واجتهد في أداء ما كلف”.

فهذه النشأة -كما يظهر من كلامه- نشأة زكية، مدعومة بنهضة مبكرة في الأخذ بأولويات العلوم، ومعرفة مراتبها. 

وفي هذه النشأة العلمية المبكرة أيضا رحل في طلب الحديث والعلم، وتجول في البلاد، فقد رحل إلى العراق والحجاز، وسمع في نوقان و إسفرائين وطوس وهمدان وأصبهان والري ونيسابور، وغيرها من البلاد والآفاق، مصاحبا علماءها ومشايخها وأدباءها، الذين كان لهم الأثر الأكبر في نبوغه العلمي المبكر، حتى غدا أحد أئمة المسلمين وهداة المؤمنين والدعاة إلى حبل الله المتين، وفقيها جليلا، وحافظا كبيرا، وزاهداً وورعا، قانتا لله تعالى، وجبلا من جبال العلم، وخلفا لأساتذته في تصنيف العلم، وتحرير الكتب التي تشرح أصول الإسلام، وقواعد الإيمان”[2]. 

شيوخه:

تتلمذ على مشايخ العلم وجهابذته في نيسابور والعراق وغيرها، من بين هؤلاء:

الحاكم النيسابوري: هو الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدوية بن نعيم بن الحكم، أبو عبد الله بن البيع الضبي الطهماني النيسابوري الشافعي، الصوفي، الإمام، الحافظ، الناقد، العلامة، شيخ المحدثين، صاحب التصانيف، كان مولده سنة 321هـ  بنيسابور.

طلب العلم في صغره بعناية والده وخاله، ثم أخذ عن خيرة العلماء في زمانه، فتفقه على الإمام أبي سهل الصعلوكي، والإمام ابن أبي هريرة، وغيرهم، حتى نبغ في سائر العلوم وخاصة في الحديث وعلمه.

لقيه البيهقي في مطلع نشأته العلمية، أثناء رحلته إلى نيسابور، توفي رحمه الله تعالى سنة(405هـ)[3] .

أبو عبد الرحمن السلمي: هو أبو عبد الله، محمد بن محمد بن موسى الأزدي السلمي النيسابوري من علماء المتصوفة، ولد على المشهور سنة 325هـ قال الذهبي “شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفاسيرهم، بلغت مصنفاتهم مئة أو أكثر، منها: طبقات الصوفية، ومقدمة في التصوف، ومنهاج العارفين”، وهو من أكبر مشايخ البيهقي، توفي رحمه الله سنة 412هـ [4].

الشيخ الإمام أبو محمد الجويني: هو عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد، والد إمام الحرمين، شيخ الشافعية، لقب بركن الإسلام، أصله من قبيلة العرب، قرأ الآداب على والده، لازم الإمامين أبا الطيب الصعلوكي والقفال حتى برع عليهما مذهبا وخلافا، وكان إماما في التفسير والفقه والأدب، صنف التصانيف الكثيرة، منها: الهداية إلى بلوغ النهاية في معاني القرآن الكريم وتفسيره، والتبصيرة  في القراءات، وغيرهما، توفي رحمه الله سنة 438هـ [5].

ابن فورك: هو الإمام العلامة شيخ المتكلمين أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني، حدث عنه أبو بكر البيهقي، وصفه السبكي فقال: «الإمام الجليل والحبر الذي لا يجارى فقها وأصولا وكلاما ووعظا ونحوا، مع مهابة وجلال بالغ، رفض الدنيا وراء ظهره، وعامل الله في سره وجهره، وصمم على دينه وثبت، أقام بالعراق إلى أن درس بها المذهب الأشعري على يد أبي الحسن الباهلي»،  توفي رحمه الله سنة 406هـ[6].

مؤلفاته[7]:

1- إثبات عذاب القبر 

2- الأسماء والصفات 

3- الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث

4- البعث والنشور

5- شعب الإيمان

6- حياة الأنبياء في قبورهم بعد وفاتهم

7- القضاء والقدر

8- الإيمان (مختصر  شعب الإيمان)

9- أحكام القرآن 

10- القراءة خلف الإمام

11- تخريج أحاديث الأم

12- الدعوات الكبير

13- الزهد الكبير

14- السنن الكبرى

15- دلائل النبوة

تلاميذه:

بعد أن كان البيهقي تلميذاً يتلقى ما جاد به أساتذته عليه من علم وفير، حتى استوعبه، وحققه، وبرع في تصنيفه وتدوينه، ما لبث أن أصبح شيخاً بارزاً، يعطي تلاميذه بنفس البذل الذي أخذه من مشايخه، فتخرج على يديه العديد من العلماء من بينهم: 

إسماعيل البيهقي: إسماعيل بن أحمد بن الحسين البيهقي، وَلد الإمام الجليل الحافظ البيهقي، وُلد بخسروجرد سنة (428هـ)، وسمع عن أباه وتفقه عليه، توفي سنة (507هـ)[8].

حفيد البيهقي: هو عبيد الله بن محمد بن أحمد بن أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي بن شيخ الإسلام الإمام البيهقي، ولد سنة (449هـ)، روى عن جده كتاب الأسماء والصفات، قال عنه الصفدي: «كان من الأمة الكبار في الفقه والحديث والوعظ والتقدم عند الملوك، حسن الأخلاق مع كمال المروءة والصدق والثقة وجميل الطريقة، وحدث بنيسابور والري وأصبهان وهمدان ومكة وبغداد»[9]. 

ابن منده: أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن الحافظ محمد بن إسحاق بن منده العبدي الأصبهاني الحافظ، الحنبلي، مؤرخ، حافظ للحديث، روى الكثير عن جماعة منهم أبوه وعماه، ودخل نيسابور للإفادة من علمائها، وكان على رأسهم البيهقي، فأخذ عنه الكثير.

دخل بغداد حاجاً، وحدّث بها، وأملى بجامع المنصور من كتبه تاريخ أصبهان، وكتاباً على الصحيحين في الحديث، ومناقب الإمام أحمد وغيرها. كان من بيت علم وفضل مشهور في أصبهان، وتوفي بها سنة 511هـ [10].

بعض آرائه العقدية:

يقول الدكتور عبد الله محمد أحمد ربايعية: «الإمام أحمد بن أبي بكر البيهقي على عقيدة أهل السنة والجماعة، على طريقة الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري- رحمه الله تعالى-» [11]. ويضيف: «ويصـرح في أكثر من موضع في كتاباته بانتسابه إلى الإمام الأشعري، وهو كثير الإجلال والتعظيم له،  فمن الأدلة على ذلك قوله في حق الشيخ أبي الحسن الأشعري في ترجمة حافلة له خرجها حيث أثنى عليه بقوله في قول الله تعالى:﴿ الرحمن على العرش استوى﴾- سورة طه الآية 5- :« وذهب أبو الحسن بن إسماعيل الأشعري إلى أن الله تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء، كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا أو نعمة»، وقوله: «وأما الإتيان والمجيء فعلى قول أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى، يحدث الله تعالى يوم القيامة فعلا يسميه إتيانا ومجيئا»، ومرة يقول: ذهب أبو الحسن الأشعري -رحمه الله تعالى- إلى أن :« إرادة الباري إذا تعلقت بالإنعام فهي رحمة…»، كل هذا يدل على أن الإمام البيهقي يرجع إلى شيخه ويقر من خلال هذه النصوص ما قاله الإمام الأشعري [12].

وعقيدة الأشاعرة التي اعتقدها الإمام البيهقي قائمـة على أساس تنزيـه الله –تعالى- عن مشابهة الحوادث، والإيمان بكل ما وصف الله تعالى به نفسه من صفات الكمال، ونفي كل ما نفاه عن ذاته العليا من صفات الحوادث والنقص، فالأشاعرة يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه وينفون عنه ما نفاه عن نفسه[13].

أول ما يجب على العبد معرفته والإقرار به:

اختلف المتكلمون بمن فيهم الأشاعرة في أول الواجبات، فمن قائل إنه: «اعتقاد وجوب القصد»، ومن قائل إنه:«القصد إلى النظر»، ومن قائل إنه:«معرفة الله» ، ومن قائل إنه: «الإيمان بالله»، وهناك من قال هو:« النطق بالشهادتين»، وذهب بعضهم إلى أن أول الواجبات هو:« النظر». فما  قول الإمام  البيهقي في هذه المسألة؟

قال البيهقي: «قال الله جل ثناؤه لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-:﴿فاعلم أنه لاإله إلا الله﴾- سورة محمد: 19- وقال له ولأمته ﴿فاعملوا أن الله مولاكم﴾-الأنفال الآية 40-وقال ﴿فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون﴾- هود 14- ﴿قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا﴾- البقرة 136-، فوجب بالآيات قبلها معرفة الله تعالى وعلمه، ووجب بهذه الآية الاعتراف به والشهادة له بما عرفه، ودلت السنة على مثل ما دل عليه الكتاب.

وقال: وروينا عن جابر وأبي هريرة : قالا : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-« أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» [14]، وزاد في رواية: “ويؤمنوا بي وبما جئت به”[15].

وروى الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة -رضي الله- حديثا طويلا قال فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يا أبا هريرة، وأعطاني نعليه: اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة» [16]. 

وروى الحاكم وغيره عن عثمان -رضي الله- عنه قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» [17].

ثم بعد سرد هذه الآيات والأحاديث يخلص الإمام البيهقي إلى أن الحديث الأول فيه بيان ما يجب على المدعو أن يأتي به حتى يحقن دمه، وفي الثاني بيان ما يجب عليه من الجمع بين معرفة القلب والإقرار باللسان مع الإمكان حتى يصح إيمانه، وفي الخبر الثالث والرابع شرط الوفاة على الإيمان حتى يستحق دخول الجنان بوعد الله تعالى [18].

رؤيته في صفات الذات وصفة الفعل: 

لله -عزَّ اسمه- أسماء وصفات، وأسماؤه صفاته وصفاته أوصافه، وهي على قسمين أحدهما صفات ذات والآخر صفات فعل:

فصفات الذات ما يستحقه فيما لم يزل ولا يزال، وهو على قسمين:

أحدهما: عقليّ؛ وهو ما كان طريق إثباته أدلة العقول مع ورود السمع به، وهو على قسمين:

– أحدهما ما يدلُّ خبر المخبر به عنه، ووصف الواصف له به على ذاته. وهنا فالاسم هو المسمَّى. نحو شيء، ذات، موجود، قديم. 

– الثاني ما يدل خبر المخبر به عنه ووصف الواصف له به على صفات زائدات على ذاته قائمات به. نحو حيّ عالم قادر مريد سميع بصير متكلم باق، فدلت هذه الأوصاف على صفات زائدة على ذاته قائمة به كحياته وعلمه وقدرته إلخ… والاسم هنا صفة قائمة بالمسمى، لا يقال إنها هي المسمى.

وأما السمعي فهو ما كان طريق إثباته الكتاب والسنة فقط، كالوجه واليدين والعين، وهذه أيضا صفات قائمة بذاته ولا يجوز تكييفها؛ فالوجه له صفة وليست بصورة، واليدان له صفتان وليستا بجارحتين، والعين له صفة وليست بحدقة، وطريق إثباتها له صفات ذاتُ ورودِ خبر الصادق به. 

وأما صفات فعله فهي تسميات مشتقة من أفعاله ورد السمع بها، مستحقة له فيما لا يزال دون الأزل،لأن الأفعال التي اشتقت منها لم تكن في الأزل، وهو كوصف الواصف له بأنه خالق رازق محيي، فالتسمية في هذا القسم إن كانت من الله تعالى فهي صفة قائمة بذاته وهو كلامه، لا يقال إنها المسمى ولا غير المسمى، وإن كانت التسمية من المخلوق فهي فيها غير المسمى. 

ومن أصحابنا من ذهب إلى أن جميع أسمائه لذاته التي له صفات الذات وصفات الفعل، فعلى هذا؛ الاسم والمسمى في الجميع واحد والله أعلم.وعلى هذه الطريقة يدل كلام المتقدمين من أصحابنا.

والصفات التي يستحقها الباري عزَّ وجلَّ أكثر من أن تحصى، وهي منثورة في الكتاب والسنة.

والأصل أن كلَّ صفة كمالٍ للإلـــه تثبت، وينفى عنه كلُّ نقص. 

والله تعالى حيٌّ وله حياة يباين بها صفة من ليس بحي. وقادر وله قدرة يباين بها صفة من ليس بقادر. وعالم وله علم يباين به صفة من ليس بعالم، وعلمه أحاط بالمعلومات كلها، كما عمَّتْ قدرته المقدورات كلها. وسميع بصير وله سمع وبصر يدرك بأحدهما جميع المسموعات وبالآخر جميع المبصرات. ومتكلم وله كلام يباين به صفة الأخرس والساكت. وباق وله بقاء ومعنى وصفه بذلك أنه واجب الوجود فيما لا يزال.

وله صفة الوجه واليدين والعين، وعرفنا بالشرع والعقل أنها ليس بصورة ولا جارحة ولا حدقة، بل هي صفات ذات، أثبتناها بالكتاب والسنة بلا تشبيه[19].

قوله في الاستواء:

ذهب المتقدمون وبعض من تبعهم من المتأخرين إلى أن المذهب الصحيح في جميع ذلك الاقتصار على ما ورد به التوقيف دون التكييف، فقالوا: الاستواء على العرش قد نطق به الكتاب في غير آية ووردت به الأخبار الصحيحة وقبوله من جهة التوقيف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية له غير جائز. 

فالاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. 

ودرج العلماء على هذا في مسألة المجيء والإتيان والنـزول أيضا، وحديث النـزول لم يتكلم أحد من الصحابة والتابعين في تأويله، وأصحاب الحديث فيما ورد به الكتاب والسنة من أمثال هذا على قسمين: 

– منهم من قبله وآمن به ولم يؤوله، ووكل علمه إلى الله، ونفى الكيفية والتشبيه عنه. 

– ومنهم من قبله وآمن به، وحمله على وجه يصح استعماله في اللغة ولا يناقض التوحيد. 

وفي الجملة فإن البيهقي يرى أنه يجب أن يعلم أن استواء الله سبحانه وتعالى ليس باستواء اعتدال عن اعوجاج ولا استقرار في مكان ولا مماسة لشيء من خلقه، لكنه مستوٍ على عرشه كما أخبر، بلا كيف بلا أين بائن من جميع خلقه، وأنَّ إتيانه ليس بإتيان من مكان إلى مكان، وأن مجيئه ليس بحركة، وأنَّ نـزوله ليس بنُقلّةٍ، وأنَّ نفسه ليس بجسم، وأنَّ وجهه ليس بصورة، وإنما هذه أوصاف جاء بها التوقيف فقلنا بها، ونفينا عنها التكييف[20].

رؤيـــــة الله :

 من المسائل التي دار حولها جدال بين الفرق الكلامية خاصة المعتزلة مسألة رؤية الله- تعالى – إذ تتصل المسألة اتصالا وثيقا بما عرف في التاريخ الإسلامي مشكلة خلق القرآن، فما موقف الإمام البيهقي منها؟

الرؤية بالأبصار جائزة، وأبصار المؤمنين لا تدركه في الدنيا دون الآخرة، ولا تدركه أبصار الكفار مطلقا.

فالله تعالى يُرى ولا يُدرَك كما يُـعْـلَم ولا يحاط به علماً. والله تعالى قادرٌ على أن يري نفسَه عبادَهُ المؤمنين. وفي الجنة يُرِي الله تعالى نفسَه للمؤمنين بعدَ أنْ يرفع عن أعينهم الحجاب، فيرونه بلا كيف ولا جهة. 

 وقد أثبتها انطلاقا من قوله تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾- لقمان21-22- فقال: «ولا يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى عنى بقوله: ﴿إلى ربها ناظرة﴾ نظر التفكر والاعتبار؛ لأن الآخرة ليست بدار استدلال واعتبار، وإنما هي دار اضطرار، ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار؛ لأنه ليس في شيء من أمر الجنة انتظار؛ لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير، والآية خرجت مخرج البشارة، وأهل الجنة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من العيش السليم والنعيم المقيم»[21].

ولا يجوز أن يكون الله سبحانه أراد نظر التعطف والرحمة؛ لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم، فإذا فسدت هذه الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع من أقسام النظر وهو معنى قوله: ﴿ إلى ربها ناظرة﴾ أنها رائية ترى الله عز وجل[22].

وفاته: 

بعد حياة حافلة في جمع العلوم وتحصيله وتدريسه، رحل الإمام البيهقي عن هذه الدنيا سنة 458 هـ وله من العمر74 سنة[23].

 

                                                       إعداد الباحثة: حفصة البقالي

 

الهوامش:

[1]-  ابن خلكان وفيات الأعيان1/75، طبقات الشافعية للسبكي 1/124، الوافي بالوفيات للصفدي 2/316.

[2]- مقدمة التحقيق كتاب “مختصر الاعتقاد لإمام البيهقي تأليف الإمام عبد الوهاب الشعراني، دراسة وتحقيق يوسف رضوان، ص 17-18.

[3]- انظر: وفيات الأعيان، 4/280-281، سير أعلام النبلاء17/162-177، طبقات الشافعية الكبرى 4/15.

[4]- البداية والنهاية، 12/12-13، طبقات الشافعية الكبرى، 4/143-147.

[5]- طبقات الشافعية الكبرى5/73-78، مختصر الاعتقاد لإمام البيهقي، ص 21.

[6]- طبقات الشافعية  الكبرى، 4/66.

[7]- الجانب العقدي عند الإمام أبي بكر بن الحسن بن علي البيهقي، رسالة دكتوراه لعبد الله محمد أحمد ربايعة.

[8]- سير أعلام النبلاء، 19/313-314، طبقات الشافعية الكبرى، 7/44.

[9]-  تاريخ الإسلام، 4/127. 

[10]- الإمام البيهقي وموقفه من الإلهيات، ص 64.

[11]- الجانب العقدي  عند الإمام البيهقي، ص55. 

[12]- المصدر السابق 56.

[13]- المصدر السابق 56.

[14]- أخرجه البخاري  ومسلم.

[15]- الزيادة في صحيح مسلم.

[16]- أخرجه مسلم في صحيحه رقم 31، وابن حبان في صحيحه رقم 4543

[17]- أخرجه مسلم تحت رقم 26، وابن حبان في صحيحه201.

[18]-  الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، ص30-31.

[19]- الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، ص:212-213 بتصرف.

[20]- المصدر السابق: ص: 122

[21]- المصدر السابق: ص:122 

[22]- المصدر السابق: ص: 226

[23]- طبقات الفقهاء الشافعية، 1/334-335، البداية والنهاية، 12/94.

 

عاش الإمام البيهقي مابين سنة 384هـ إلى سنة 458هـ، وهي مرحلة من أشد المراحل اضطرابا وأكثرها فتنا في تاريخ الأمة الإسلامية بسبب ضعف الخلافة العباسية وظهور دويلات مستقلة. وبالرغم من ذلك فإن الحركة العلمية لم تتوقف فقد شهدت نشاطا علميا وازدهارا فكريا فائقين، حيث لمع فيها كوكبة من خيار العلماء والمحدثين في طليعتهم الإمام البيهقي.
اسمه ، ونسبه، ومولده، ونشأته:
هو: أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى، الإمام، العلامة، الحافظ، البيهقي النيسبوري، الخسر وجردي[1].
   يذكر يوسف رضوان الكود في مقدمة تحقيقه لكتاب “مختصر الاعتقاد” للإمام البيهقي حول مولد الإمام البيهقي ونشأته فيقول: “ولد – رحمه الله تعالى- في خسروجرد -قرية من قرى بيهق بنيسابور- سنة 384هـ ، ونشأ في بيهق التي كانت تموج بالحركة العلمية الواسعة، مما أدى بالإمام البيهقي أن يلتقي بنخبة علماء عصـره، في سن مبكرة، ويكتب عنهم الحديث يقول –رحمه الله –: “كتبت الحديث من سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وأدركت بعض أصحاب الشرقيين، وابن الأعرابي، والصفار والرزاز والأصم وابن الأخرم”. فسمع وهو ابن خمس عشر سنة من الشيوخ الذين بلغوا المائة شيخ، ولعل هذه  السن المبكرة التي ابتدأ البيهقي الطواف على الشيوخ استقلالا هي المرحلة العلمية التي أشار إليها هو في أثناء حديثه عن نفسه فقال: “وإني منذ نشأت، وابتدأت في طلب العلم أكتب أخبار سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين، وأجمع آثار الصحابة الذين كانوا أعلام الدين، وأسمعها ممن حملها، وأتعرف أحوال روايتها من حفظها، وأجتهد في تمييز صحيحها من سقيمها، ومرفوعها من موقوفها، وموصولها من مرسلها، ثم أنظر في كتب هؤلاء الأئمة الذين قاموا بعلم الشريعة، وبنى كل واحد منهم مذهبه على مبلغ علمه من الكتاب والسنة، فأرى كل واحد منه رضي الله عنهم جميعهم قصد الحق فيما تكلف واجتهد في أداء ما كلف”.
فهذه النشأة -كما يظهر من كلامه- نشأة زكية، مدعومة بنهضة مبكرة في الأخذ بأولويات العلوم، ومعرفة مراتبها. 
وفي هذه النشأة العلمية المبكرة أيضا رحل في طلب الحديث والعلم، وتجول في البلاد، فقد رحل إلى العراق والحجاز، وسمع في نوقان و إسفرائين وطوس وهمدان وأصبهان والري ونيسابور، وغيرها من البلاد والآفاق، مصاحبا علماءها ومشايخها وأدباءها، الذين كان لهم الأثر الأكبر في نبوغه العلمي المبكر، حتى غدا أحد أئمة المسلمين وهداة المؤمنين والدعاة إلى حبل الله المتين، وفقيها جليلا، وحافظا كبيرا، وزاهداً وورعا، قانتا لله تعالى، وجبلا من جبال العلم، وخلفا لأساتذته في تصنيف العلم، وتحرير الكتب التي تشرح أصول الإسلام، وقواعد الإيمان”[2]. 
شيوخه:
تتلمذ على مشايخ العلم وجهابذته في نيسابور والعراق وغيرها، من بين هؤلاء:
الحاكم النيسابوري: هو الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدوية بن نعيم بن الحكم، أبو عبد الله بن البيع الضبي الطهماني النيسابوري الشافعي، الصوفي، الإمام، الحافظ، الناقد، العلامة، شيخ المحدثين، صاحب التصانيف، كان مولده سنة 321هـ  بنيسابور.
طلب العلم في صغره بعناية والده وخاله، ثم أخذ عن خيرة العلماء في زمانه، فتفقه على الإمام أبي سهل الصعلوكي، والإمام ابن أبي هريرة، وغيرهم، حتى نبغ في سائر العلوم وخاصة في الحديث وعلمه.
لقيه البيهقي في مطلع نشأته العلمية، أثناء رحلته إلى نيسابور، توفي رحمه الله تعالى سنة(405هـ)[3] .
أبو عبد الرحمن السلمي: هو أبو عبد الله، محمد بن محمد بن موسى الأزدي السلمي النيسابوري من علماء المتصوفة، ولد على المشهور سنة 325هـ قال الذهبي “شيخ الصوفية وصاحب تاريخهم وطبقاتهم وتفاسيرهم، بلغت مصنفاتهم مئة أو أكثر، منها: طبقات الصوفية، ومقدمة في التصوف، ومنهاج العارفين”، وهو من أكبر مشايخ البيهقي، توفي رحمه الله سنة 412هـ [4].
الشيخ الإمام أبو محمد الجويني: هو عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد، والد إمام الحرمين، شيخ الشافعية، لقب بركن الإسلام، أصله من قبيلة العرب، قرأ الآداب على والده، لازم الإمامين أبا الطيب الصعلوكي والقفال حتى برع عليهما مذهبا وخلافا، وكان إماما في التفسير والفقه والأدب، صنف التصانيف الكثيرة، منها: الهداية إلى بلوغ النهاية في معاني القرآن الكريم وتفسيره، والتبصيرة  في القراءات، وغيرهما، توفي رحمه الله سنة 438هـ [5].
ابن فورك: هو الإمام العلامة شيخ المتكلمين أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني، حدث عنه أبو بكر البيهقي، وصفه السبكي فقال: «الإمام الجليل والحبر الذي لا يجارى فقها وأصولا وكلاما ووعظا ونحوا، مع مهابة وجلال بالغ، رفض الدنيا وراء ظهره، وعامل الله في سره وجهره، وصمم على دينه وثبت، أقام بالعراق إلى أن درس بها المذهب الأشعري على يد أبي الحسن الباهلي»،  توفي رحمه الله سنة 406هـ[6].
مؤلفاته[7]:
1- إثبات عذاب القبر 
2- الأسماء والصفات 
3- الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث
4- البعث والنشور
5- شعب الإيمان
6- حياة الأنبياء في قبورهم بعد وفاتهم
7- القضاء والقدر
8- الإيمان (مختصر  شعب الإيمان)
9- أحكام القرآن 
10- القراءة خلف الإمام
11- تخريج أحاديث الأم
12- الدعوات الكبير
13- الزهد الكبير
14- السنن الكبرى
15- دلائل النبوة
تلاميذه:
بعد أن كان البيهقي تلميذاً يتلقى ما جاد به أساتذته عليه من علم وفير، حتى استوعبه، وحققه، وبرع في تصنيفه وتدوينه، ما لبث أن أصبح شيخاً بارزاً، يعطي تلاميذه بنفس البذل الذي أخذه من مشايخه، فتخرج على يديه العديد من العلماء من بينهم: 
إسماعيل البيهقي: إسماعيل بن أحمد بن الحسين البيهقي، وَلد الإمام الجليل الحافظ البيهقي، وُلد بخسروجرد سنة (428هـ)، وسمع عن أباه وتفقه عليه، توفي سنة (507هـ)[8].
حفيد البيهقي: هو عبيد الله بن محمد بن أحمد بن أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي بن شيخ الإسلام الإمام البيهقي، ولد سنة (449هـ)، روى عن جده كتاب الأسماء والصفات، قال عنه الصفدي: «كان من الأمة الكبار في الفقه والحديث والوعظ والتقدم عند الملوك، حسن الأخلاق مع كمال المروءة والصدق والثقة وجميل الطريقة، وحدث بنيسابور والري وأصبهان وهمدان ومكة وبغداد»[9]. 
ابن منده: أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن الحافظ محمد بن إسحاق بن منده العبدي الأصبهاني الحافظ، الحنبلي، مؤرخ، حافظ للحديث، روى الكثير عن جماعة منهم أبوه وعماه، ودخل نيسابور للإفادة من علمائها، وكان على رأسهم البيهقي، فأخذ عنه الكثير.
دخل بغداد حاجاً، وحدّث بها، وأملى بجامع المنصور من كتبه تاريخ أصبهان، وكتاباً على الصحيحين في الحديث، ومناقب الإمام أحمد وغيرها. كان من بيت علم وفضل مشهور في أصبهان، وتوفي بها سنة 511هـ [10].
بعض آرائه العقدية:
يقول الدكتور عبد الله محمد أحمد ربايعية: «الإمام أحمد بن أبي بكر البيهقي على عقيدة أهل السنة والجماعة، على طريقة الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري- رحمه الله تعالى-» [11]. ويضيف: «ويصـرح في أكثر من موضع في كتاباته بانتسابه إلى الإمام الأشعري، وهو كثير الإجلال والتعظيم له،  فمن الأدلة على ذلك قوله في حق الشيخ أبي الحسن الأشعري في ترجمة حافلة له خرجها حيث أثنى عليه بقوله في قول الله تعالى:﴿ الرحمن على العرش استوى﴾- سورة طه الآية 5- :« وذهب أبو الحسن بن إسماعيل الأشعري إلى أن الله تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء، كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا أو نعمة»، وقوله: «وأما الإتيان والمجيء فعلى قول أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى، يحدث الله تعالى يوم القيامة فعلا يسميه إتيانا ومجيئا»، ومرة يقول: ذهب أبو الحسن الأشعري -رحمه الله تعالى- إلى أن :« إرادة الباري إذا تعلقت بالإنعام فهي رحمة…»، كل هذا يدل على أن الإمام البيهقي يرجع إلى شيخه ويقر من خلال هذه النصوص ما قاله الإمام الأشعري [12].
وعقيدة الأشاعرة التي اعتقدها الإمام البيهقي قائمـة على أساس تنزيـه الله –تعالى- عن مشابهة الحوادث، والإيمان بكل ما وصف الله تعالى به نفسه من صفات الكمال، ونفي كل ما نفاه عن ذاته العليا من صفات الحوادث والنقص، فالأشاعرة يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه وينفون عنه ما نفاه عن نفسه[13].
أول ما يجب على العبد معرفته والإقرار به:
اختلف المتكلمون بمن فيهم الأشاعرة في أول الواجبات، فمن قائل إنه: «اعتقاد وجوب القصد»، ومن قائل إنه:«القصد إلى النظر»، ومن قائل إنه:«معرفة الله» ، ومن قائل إنه: «الإيمان بالله»، وهناك من قال هو:« النطق بالشهادتين»، وذهب بعضهم إلى أن أول الواجبات هو:« النظر». فما  قول الإمام  البيهقي في هذه المسألة؟
قال البيهقي: «قال الله جل ثناؤه لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-:﴿فاعلم أنه لاإله إلا الله﴾- سورة محمد: 19- وقال له ولأمته ﴿فاعملوا أن الله مولاكم﴾-الأنفال الآية 40-وقال ﴿فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون﴾- هود 14- ﴿قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا﴾- البقرة 136-، فوجب بالآيات قبلها معرفة الله تعالى وعلمه، ووجب بهذه الآية الاعتراف به والشهادة له بما عرفه، ودلت السنة على مثل ما دل عليه الكتاب.
وقال: وروينا عن جابر وأبي هريرة : قالا : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-« أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» [14]، وزاد في رواية: “ويؤمنوا بي وبما جئت به”[15].
وروى الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة -رضي الله- حديثا طويلا قال فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يا أبا هريرة، وأعطاني نعليه: اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة» [16]. 
وروى الحاكم وغيره عن عثمان -رضي الله- عنه قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة» [17].
ثم بعد سرد هذه الآيات والأحاديث يخلص الإمام البيهقي إلى أن الحديث الأول فيه بيان ما يجب على المدعو أن يأتي به حتى يحقن دمه، وفي الثاني بيان ما يجب عليه من الجمع بين معرفة القلب والإقرار باللسان مع الإمكان حتى يصح إيمانه، وفي الخبر الثالث والرابع شرط الوفاة على الإيمان حتى يستحق دخول الجنان بوعد الله تعالى [18].
رؤيته في صفات الذات وصفة الفعل: 
لله -عزَّ اسمه- أسماء وصفات، وأسماؤه صفاته وصفاته أوصافه، وهي على قسمين أحدهما صفات ذات والآخر صفات فعل:
فصفات الذات ما يستحقه فيما لم يزل ولا يزال، وهو على قسمين:
أحدهما: عقليّ؛ وهو ما كان طريق إثباته أدلة العقول مع ورود السمع به، وهو على قسمين:
– أحدهما ما يدلُّ خبر المخبر به عنه، ووصف الواصف له به على ذاته. وهنا فالاسم هو المسمَّى. نحو شيء، ذات، موجود، قديم. 
– الثاني ما يدل خبر المخبر به عنه ووصف الواصف له به على صفات زائدات على ذاته قائمات به. نحو حيّ عالم قادر مريد سميع بصير متكلم باق، فدلت هذه الأوصاف على صفات زائدة على ذاته قائمة به كحياته وعلمه وقدرته إلخ… والاسم هنا صفة قائمة بالمسمى، لا يقال إنها هي المسمى.
وأما السمعي فهو ما كان طريق إثباته الكتاب والسنة فقط، كالوجه واليدين والعين، وهذه أيضا صفات قائمة بذاته ولا يجوز تكييفها؛ فالوجه له صفة وليست بصورة، واليدان له صفتان وليستا بجارحتين، والعين له صفة وليست بحدقة، وطريق إثباتها له صفات ذاتُ ورودِ خبر الصادق به. 
وأما صفات فعله فهي تسميات مشتقة من أفعاله ورد السمع بها، مستحقة له فيما لا يزال دون الأزل،لأن الأفعال التي اشتقت منها لم تكن في الأزل، وهو كوصف الواصف له بأنه خالق رازق محيي، فالتسمية في هذا القسم إن كانت من الله تعالى فهي صفة قائمة بذاته وهو كلامه، لا يقال إنها المسمى ولا غير المسمى، وإن كانت التسمية من المخلوق فهي فيها غير المسمى. 
ومن أصحابنا من ذهب إلى أن جميع أسمائه لذاته التي له صفات الذات وصفات الفعل، فعلى هذا؛ الاسم والمسمى في الجميع واحد والله أعلم.وعلى هذه الطريقة يدل كلام المتقدمين من أصحابنا.
والصفات التي يستحقها الباري عزَّ وجلَّ أكثر من أن تحصى، وهي منثورة في الكتاب والسنة.
والأصل أن كلَّ صفة كمالٍ للإلـــه تثبت، وينفى عنه كلُّ نقص. 
والله تعالى حيٌّ وله حياة يباين بها صفة من ليس بحي. وقادر وله قدرة يباين بها صفة من ليس بقادر. وعالم وله علم يباين به صفة من ليس بعالم، وعلمه أحاط بالمعلومات كلها، كما عمَّتْ قدرته المقدورات كلها. وسميع بصير وله سمع وبصر يدرك بأحدهما جميع المسموعات وبالآخر جميع المبصرات. ومتكلم وله كلام يباين به صفة الأخرس والساكت. وباق وله بقاء ومعنى وصفه بذلك أنه واجب الوجود فيما لا يزال.
وله صفة الوجه واليدين والعين، وعرفنا بالشرع والعقل أنها ليس بصورة ولا جارحة ولا حدقة، بل هي صفات ذات، أثبتناها بالكتاب والسنة بلا تشبيه[19].
قوله في الاستواء:
ذهب المتقدمون وبعض من تبعهم من المتأخرين إلى أن المذهب الصحيح في جميع ذلك الاقتصار على ما ورد به التوقيف دون التكييف، فقالوا: الاستواء على العرش قد نطق به الكتاب في غير آية ووردت به الأخبار الصحيحة وقبوله من جهة التوقيف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية له غير جائز. 
فالاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. 
ودرج العلماء على هذا في مسألة المجيء والإتيان والنـزول أيضا، وحديث النـزول لم يتكلم أحد من الصحابة والتابعين في تأويله، وأصحاب الحديث فيما ورد به الكتاب والسنة من أمثال هذا على قسمين: 
– منهم من قبله وآمن به ولم يؤوله، ووكل علمه إلى الله، ونفى الكيفية والتشبيه عنه. 
– ومنهم من قبله وآمن به، وحمله على وجه يصح استعماله في اللغة ولا يناقض التوحيد. 
وفي الجملة فإن البيهقي يرى أنه يجب أن يعلم أن استواء الله سبحانه وتعالى ليس باستواء اعتدال عن اعوجاج ولا استقرار في مكان ولا مماسة لشيء من خلقه، لكنه مستوٍ على عرشه كما أخبر، بلا كيف بلا أين بائن من جميع خلقه، وأنَّ إتيانه ليس بإتيان من مكان إلى مكان، وأن مجيئه ليس بحركة، وأنَّ نـزوله ليس بنُقلّةٍ، وأنَّ نفسه ليس بجسم، وأنَّ وجهه ليس بصورة، وإنما هذه أوصاف جاء بها التوقيف فقلنا بها، ونفينا عنها التكييف[20].
رؤيـــــة الله :
 من المسائل التي دار حولها جدال بين الفرق الكلامية خاصة المعتزلة مسألة رؤية الله- تعالى – إذ تتصل المسألة اتصالا وثيقا بما عرف في التاريخ الإسلامي مشكلة خلق القرآن، فما موقف الإمام البيهقي منها؟
الرؤية بالأبصار جائزة، وأبصار المؤمنين لا تدركه في الدنيا دون الآخرة، ولا تدركه أبصار الكفار مطلقا.
فالله تعالى يُرى ولا يُدرَك كما يُـعْـلَم ولا يحاط به علماً. والله تعالى قادرٌ على أن يري نفسَه عبادَهُ المؤمنين. وفي الجنة يُرِي الله تعالى نفسَه للمؤمنين بعدَ أنْ يرفع عن أعينهم الحجاب، فيرونه بلا كيف ولا جهة. 
 وقد أثبتها انطلاقا من قوله تعالى:﴿وجوه يومئذ ناظرة إلى ربها ناظرة﴾- لقمان21-22-فقال:« ولا يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى عنى بقوله: ﴿ إ لى ربها ناظرة﴾ نظر التفكر والاعتبار؛ لأن الآخرة ليست بدار استدلال واعتبار، وإنما هي دار اضطرار، ولا يجوز أن يكون عنى نظر الانتظار؛ لأنه ليس في شيء من أمر الجنة انتظار؛ لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير، والآية خرجت مخرج البشارة، وأهل الجنة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من العيش السليم والنعيم المقيم»[21].
ولا يجوز أن يكون الله سبحانه أراد نظر التعطف والرحمة؛ لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم، فإذا فسدت هذه الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع من أقسام النظر وهو معنى قوله: ﴿ إلى ربها ناظرة﴾ أنها رائية ترى الله عز وجل[22].
وفاته: 
بعد حياة حافلة في جمع العلوم وتحصيله وتدريسه، رحل الإمام البيهقي عن هذه الدنيا سنة 458 هـ وله من العمر74 سنة[23].
إعداد الباحثة: حفصة البقالي
الهوامش:
[1]-  ابن خلكان وفيات الأعيان1/75، طبقات الشافعية للسبكي 1/124، الوافي بالوفيات للصفدي 2/316.
 [2]- مقدمة التحقيق كتاب “مختصر الاعتقاد لإمام البيهقي تأليف الإمام عبد الوهاب الشعراني، دراسة وتحقيق يوسف رضوان، ص 17-18.
[3]- انظر: وفيات الأعيان، 4/280-281، سير أعلام النبلاء17/162-177، طبقات الشافعية الكبرى 4/15.
[4]- البداية والنهاية، 12/12-13، طبقات الشافعية الكبرى، 4/143-147.
[5]- طبقات الشافعية الكبرى5/73-78، مختصر الاعتقاد لإمام البيهقي، ص 21.
[6]- طبقات الشافعية  الكبرى، 4/66.
[7]- الجانب العقدي عند الإمام أبي بكر بن الحسن بن علي البيهقي، رسالة دكتوراه لعبد الله محمد أحمد ربايعة.
[8]- سير أعلام النبلاء، 19/313-314، طبقات الشافعية الكبرى، 7/44.
[9]-  تاريخ الإسلام، 4/127. 
[10]- الإمام البيهقي وموقفه من الإلهيات، ص 64.
[11]- الجانب العقدي  عند الإمام البيهقي، ص55. 
[12]- المصدر السابق 56.
[13]- المصدر السابق 56.
[14]- أخرجه البخاري  ومسلم.
[15]- الزيادة في صحيح مسلم.
[16]- أخرجه مسلم في صحيحه رقم 31، وابن حبان في صحيحه رقم 4543
[17]- أخرجه مسلم تحت رقم 26، وابن حبان في صحيحه201.
 [18]-  الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، ص30-31.
[19]- الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد، ص:212-213 بتصرف.
[20]- المصدر السابق: ص: 122
[21]- المصدر السابق: ص:122 
[22]- المصدر السابق: ص: 226
[23]- طبقات الفقهاء الشافعية، 1/334-335، البداية والنهاية، 12/94

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أختي حفصة نفع الله بك وبارك في علمك لي رجاء فأنا أعد بثا جامعيا وأحتاج لرسالة الدكتور عبدالله الربابعة الجانب العقدي عند البيهقي فلعلك تستطيعين مساعدتي او إرشادي لكيفة الحصول عليها ولك جزيل الشكر.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق