وحدة الإحياءدراسات عامة

الإكراه البدني في الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي

ذ. عبد الرحيم بن سلامة

(العدد 15)

إن المرحلة التي يعتبرها المتقاضون حاسمة في الدعوى التي يقيمونها لدى المحاكم للمطالبة بحقوقهم هي مرحلة التنفيذ.

والتنفيذ بوجه عام هو الوفاء بالالتزام، والأصل أن يقوم كل مدين بتنفيذ التزاماته اختياريا والوفاء بها طوعا دون تدخل السلطة لإجباره على الوفاء بما ألزم به، لكنه إذا ماطل في ذلك جاز للدائن الذي صدر الحكم لفائدته أن يلجأ إلى السلطة المختصة لإجبار المدين على الوفاء بما هو مدين به وهو ما يسمى بالإكراه البدني أو الإكراه الجسماني.

مفهوم الإكراه البدني

إن معظم التشريعات الحديثة لم تضع تعريفا للإكراه البدني تاركة للفقه والقضاء فرصة التأويل والتفسير، ولذلك فإن بعض الفقهاء عرف الإكراه البدني: “بأنه التهديد الجسماني للمدين بحبسه لفائدة الدائن مدة حددت بمقتضيات قانونية لينفذ ما حكم به عليه”[1].

فالإكراه البدني إجراء قسري ينصب على شخص المدين وذلك بحبسه مدة معينة قانونا لإجباره على تنفيذ ما التزم به أو ألزم به قضاء، فالمحكوم له يمكن له أمام تعنت المحكوم عليه وامتناعه عن الوفاء، الاستعانة في إطار مسطرة الإكراه البدني، بالسلطة العامة ممثلة في النيابة العامة بما لها من سلطة على الإلزام لإجبار مدينه على الوفاء، وذلك بالزج به في السجن، لكن يتطلب منه سلوك إجراءات مسطرية محددة قانونا بعد أن يصبح الحكم باتا ونهائيا.

الإكراه البدني في ظل التشريعات المختلفة

لقد اختلفت الشرائع القديمة في تطبيق الإكراه البدني فمنها من بالغت في القسوة على المدين كما هو الحال بالنسبة للتشريع الروماني، حيث كلن يباع المدين في الأسواق لاستيفاء ما عليه من ديون، بل إن هذا القانون استباح قتل المدين واقتسام أشلائه بين الدائنين.

ومع تطور الشعوب ورقي الحضارات، تطورت أنظمتها القانونية وتأثرت بالأفكار الفلسفية الداعية إلى احترام آدمية الإنسان وعدم انتهاك حقوقه الطبيعية. وتعتبر الشريعة الإسلامية من أهم الشرائع التي عالجت هذا الموضوع علاجا عادلا عبر مراحل مختلفة، كما سنبين ذلك فيما يلي:

مرحلة بدء نزول الوحي

حيث كان المدين يسترق ويباع إذا لم يستطع الوفاء بدينه، فقد أخذ الرسول، صلى الله عليه وسلم، هذه القاعدة في البداية جريا على ما كان متبعا في شرائع الرسل السابقين لعدم وجود نص يحرم اللجوء إلى ذلك، ففي هذه المرحلة اعتبر عدم الوفاء بالدين من أعظم الذنوب، ففي حديث أخرجه أبو داود في سننه عن أبي سلمة عن جابر قال: “كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يصلي على رجل مات وعليه دين”، وفي حديث آخر رواه الشافعي رضي الله عنه قال: “أخبرنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه دينه”[2].

مرحلة انتشار الإسلام

تميزت هذه المرحلة بإلغاء الشريعة الإسلامية لما اعتاد عليه العرب في الجاهلية من استرقاق المدين أو بيعه استيفاء لدينه، حيث خولت للدائنين وسائل أفضل وأنجع لاستيفاء حقوقهم، كما وفرت الحماية للمدنيين في كرامتهم وحياتهم امتثالا لقوله تعالى: ﴿وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ [البقرة: 280]، وفي حديث شريف قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لغرماء المدين الذي كثر دينه (خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك)، لكن في مقابل هذه الرحمة بالمدين المعسر، شددت الشريعة الإسلامية على المدين الغني المماطل الذي لا يريد تنفيذ التزاماته، فالمدين في المنظور الإسلامي يكون في حالات ثلاث:

أ. المدين الموسر: وهذا يسجن حتى يؤدي ما بذمته أو يعطي ضامنا بالمال لأجل قصير، لأنه ظالم بمطله، ويقول أبو حنيفة بحبسه معللا ذلك بقول الرسول، صلى الله عليه وسلم: “مطل الغني ظلم”، وذهب أبو قدامة الحنبلي إلى أنه إذا كان للمدين مال ظاهر يفي بديونه يحبس عند امتناعه عن الوفاء لقوله صلى الله عليه وسلم: “لي الواجد يحل عرضه وعقوبته حتى يبرئ ذمته”، أما إذا أصر على عدم الوفاء بالتزامه فإن القاضي يبيع عليه ماله ويقضي عليه دينه.

ويقول ابن فرحون وهو من فقهاء المالكية: “يحبس المدين الموسر الممتنع عن الوفاء، لما روى عن بن القاسم عن مالك أنه إذا ثبت عند الحاكم تماطل المدين وتقاعسه فإنه يحبسه ويؤدبه بالضرب الموجع، ولقول الإمام مالك في المدونة: “لا يحبس الحر ولا العبد في الدين إلا بمقدار ما يستبرئ أمره، فإذا اتهمه بأنه خبأ مالا حبسه، وإلا خلى سبيله”[3].

يستنتج مما سبق أن العقوبات التي تلحق بالمدين الموسر المماطل ثلاثة وهي إما إرغامه على بيع ماله والوفاء بديونه، وإما سجنه وإما ضربه.

إلا أن هناك حالات ينبغي فيها إنظار المدين الموسر، منها ما ذكره ابن سلمون الكناني في كتابه العقد المنظم[4]: “أنه عندما يقدر المدين على الأداء ولكن يحصل له مضرة من بيع ماله عليه، فإنظاره في هذه الحالة محتسب…”.

ب. المدين المعسر: لا يحبس المدين المعسر حسب المذهب الشافعي شريطة أن يقيم البينة على نفاذ ماله أو اعساره.

أما المالكية ومنهم ابن سلمون وابن فرحون فيميزون بين المدين المعسر غير المعدم والمدين المعدم، فالأول يرون جواز إنظاره إلى أن يوسر، وفسح المجال أمامه كي يضرب في الأرض عسى أن يكسب ويفي بما عليه من دين، وهذا ما رغب فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حينما قال: “من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله”[5].

أما الثاني: أي المدين المعسر المعدم، فإن إنظاره واجب لقوله تعالى: ﴿وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة﴾ [البقرة: 280].

ج. المدين مجهول الحال: هذا المدين يحبس عند جمهور الفقهاء حتى يتم التثبت من إعساره، فيخلى سبيله، ويرى أبو حنيفة أن للدائن ملازمة المدين المعسر لقوله، صلى الله عليه وسلم: “لصاحب الحق يد ولسان”.

أما عند المالكية فإن المسألة لا تخلو من أمرين:

إما أن يكون المدين مجهول الحال معلوم الصدق أو لم يعلم صدقه.

فقي الحالة الأولى أي إذا ادعى العدم وتبين للحاكم ألا شيء معه يفي بديونه فإنه يطلق سراحه بعد أن يحلف.

أما في الحالة الثانية التي لا يعلم فيها صدق المدين، ولم يعلم أنه سرق أو نهب فإنه يضرب حتى يؤدى ما عليه أو يموت في الحبس، أو يتبين صدق ادعائه أو يقر له بذلك صاحب الدين”[6].

يستنتج مما سبق أن حبس المدين يختلف بحسب حالته.

فهو حبس تضييق وتنكيل في حق المدين الموسر جزاء له على مطله وظلمه.

وحبس تعزير وتأديب في حق من اتهم أنه خبأ ماله.

وحبس تلوم واختبار في حق مجهول الحال.

فمن خلال ما تقدم نرى بأن الشريعة الإسلامية نهجت مع المدين نهجا روعي فيه تكريم الإنسان وتحريم كل ما يمس كرامته وآدميته، وفي نفس الوقت اعتنت بالتعامل في المال سواء كان هذا التعامل تجارة أو دينا مصداقا لقوله تعالى: ﴿يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل، ولا يأب كاتب أن يكتب، كما علمه الله فليكتب، وليملك الذي عليه الحق وليتق الله ربه﴾ [البقرة: 282].

فقد أولى فقهاء المسلمين اهتماما زائدا للديون والوفاء بها استنادا للآية الكريمة السالفة وغيرها، وأحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، من بينها قوله، صلى الله عليه وسلم: “مطل الغني ظلم”.

الإكراه البدني في القوانين الوضعية

إن جل التشريعات الحديثة قد تبنت الإكراه البدني كوسيلة من وسائل التنفيذ، ومن بينها القانون المغربي، وقبل التعرف على الأحكام التي جاء بها المشرع المغربي في هذا الباب، علينا أن نستعرض بإيجاز المراحل التي قطعتها بعض التشريعات الأخرى ومن بينها القانون الفرنسي الذي استمد المشرع المغربي منه بعض الأحكام فيما يخص الإكراه البدني.

لقد عرف القانون الفرنسي عدة مراحل بالنسبة لتطبيق الإكراه البدني: فمرحلة ما قبل سنة 1957م، كان التشريع الفرنسي المعمول به يأخذ بالإكراه البدني كوسيلة لإجبار الدائن لمدينه على الأداء، حيث أعطى مجالا أوسع وأشمل للإكراه البدني.

أما مرحلة ما بعد 1957، فإن أهم ما جاء به قانون 1957 هو التخفيض من الحد الأقصى للإكراه البدني الذي أصبح لا يتجاوز سنتين مقابل عشر سنوات في القوانين التي قبله أي قانون 1932 وخمس سنوات في قانون 1943، وفي سنة 1985 صدر قانون ثم بموجبه تخفيض مدة الإكراه البدني حيث أصبحت تتراوح بين خمسة أيام وأربعة أشهر، كما ألغى المشرع الفرنسي الإكراه البدني بمقتضى القانون المذكور في المواد المدنية والتجارية وأبقى عليه في مجال ضيق، بالنسبة للمواد الزجرية لعدة اعتبارات من بينها:

ـ إن ذمة المدين هي التي تضمن بها ديونه وليس شخصه.

ـ إن حبس المدين أو إلحاق الأذى ببدنه يشل قدرته على الكسب ويعطل طاقته على الإنتاج المثمر الذي قد يكون خيرا له ولدائنيه.

إن الفقيه الفرنسي (جارو) يرى بأن الإكراه البدني فيه مساس بالحرية الشخصية للمدين، فحرية الشخص ليست محلا للتعامل، وبالتالي فلا يمكن السماح بجعلها ضمانا لتنفيذ الالتزامات التعاقدية، أما الالتزامات الناتجة عن الأفعال الجرمية فإنه يرى بفعالية الإكراه البدني كوسيلة لحمل المدين على أداء الغرامات المالية المحكوم بها عليه مبررا، موقفه أنه بدون الإكراه البدني فإن المدينين العاجزين عن الأداء أو الرافضين له سيفلتون من العقاب في حالة الحكم عليهم بغرامات مالية فقط، وهكذا نرى أن التشريع الفرنسي يعتبر نموذجا للتشريعات التي ألغت الإكراه البدني في جانب مهم من مواد القانون؛ كالمواد المدنية والتجارية، وأبقت عليه في مجال ضيق ونعني به الميدان الزجري.

وبالمقابل هناك العديد من التشريعات التي أبقت على نظام الإكراه البدني إيمانا منها بجدواه وفعاليته في اقتضاء الحقوق وحفظ هيبة القضاء ومصداقية أحكامه ومن بينها التشريع المغربي.

الإكراه البدني في التشريع المغربي

لقد عرفت نظرية الإكراه البدني في التشريع المغربي مراحل ثلاثة:

1. مرحلة ما قبل الحماية.

2. مرحلة الحماية الفرنسية.

3. مرحلة ما بعد الاستقلال.

أولا: مرحلة ما قبل الحماية: وهي مرحلة امتدت لقرون عديدة منذ الفتح الإسلامي، في الفتح الإسلامي في النصف الثاني من القرن الهجري إلى 1912م، ففي هذه المرحلة كان تطبيق الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي هو السائد، ونعني بذلك الفقه المالكي حيث كانت الأحكام الشرعية تطبق على النحو الذي ذكرناه من قبل على المدين المخل بالتزاماته إزاء الدائن.

ثانيا: مرحلة الحماية: كان المغرب خلال هذه الفترة مقسم إلى عدة مناطق هي:

ـ المنطقة الجنوبية التي كانت تخضع للاستعمار الفرنسي.

ـ المنطقة الشمالية وكانت تحت النفوذ الإسباني.

ـ منطقة طنجة الدولية.

هذا التنوع الجغرافي صاحبه تنوع في القوانين المطبقة التي أجمعت كلها على عدم الأخذ بنظام الإكراه البدني كوسيلة للتنفيذ الجبري في المواد المدنية والتجارية، لأن الذمة المالية للمدين في مضمون هذه القوانين ـ هي الضامنة لديونه وليس شخصه.

أما في التشريع الجنائي فقد كان يؤخذ بنظرية الإكراه البدني في الديون التأديبية.

هذا بالنسبة للأحكام التي كانت تصدر عن المحاكم العصرية. أما المحاكم الشرعية فقد كانت تحكم بالإكراه البدني في كل الديون.

ثالثا: مرحلة الاستقلال: تميزت هذه المرحلة بإلغاء جميع المساطر التي كان معمولا بها في عهد الحماية، وفيما يخص الإكراه البدني أصبحت المحاكم لا تحكم به في القضايا المدنية. بحيث أصبح لا يمكن الحكم بالإكراه البدني على المسؤول مدنيا ولا على المطالب بالحق المدني ولا على المحكوم عليه من طرف محكمة غير زجرية، لكن جاء قانون 1961م الذي أقر استعمال الإكراه البدني في القضايا المدنية وذلك وفق القواعد المنصوص عليها في الفصل 675 وما بعده من قانون المسطرة المدنية.

شروط تطبيق الإكراه البدني في القانون المغربي

إن كل التشريعات تعطي أهمية بالغة لتنفيذ الأحكام القضائية، ومن بينها التشريع المغربي، لكن هناك سبل مختلفة تنهجها للوصول إلى هذا الهدف، فإذا كان المشرع المغربي قد أخذ بنظام الإكراه البدني كوسيلة لتنفيذ الأحكام القضائية وإعطائها ما تستحق من الهيبة والقدسية للضغط على المدين قصد تسديد الدين المحكوم به عليه، وعمم هذا الإكراه ليشمل الميدانين المدني والجنائي، فإنه قد وضع شروطا لاستعمال الإكراه البدني حماية للمدينين وصونا لحريتهم، لأن الغاية من الإكراه البدني تهديدية أكثر منها زجرية.

وهكذا نجد المشرع المغربي قد تطرق لأحكام الإكراه البدني في الباب الخامس من الكتاب السادس المتعلق بتنفيذ المقررات القضائية وتحديدا في المواد من 673 إلى غاية المادة 687 من ظهير 10 فبراير 1959 المتضمن لقانون المسطرة الجنائية، وكذا ظهير 20 يناير 1961 المتعلق باستعمال الإكراه البدني في القضايا المدنية.

وفيما يلي نستعرض بإيجاز الشروط المتطلبة لتطبيق الإكراه البدني في القضايا الجنائية والمدنية وفق القانون المغربي:

أولا: أن يكون الحكم نهائيا غير قابل لأي طعن

إن صدور حكم نهائي شرط لازم لسلوك مسطرة الإكراه البدني، وهذا الشرط يستنتج من الفصل 645 من قانون المسطرة الجنائية المغربية الذي ينص على أنه: “…ولا يمكن التنفيذ بطريق الإكراه البدني إلا إذا اكتسب الحكم المذكور قوة الشيء المحكوم به بصفة لا تقبل الرجوع”.

فإذا كان الحكم مطعونا فيه أو قابلا لأي وجه من وجوه الطعن عادية كانت أو غير عادية وجب عدم تنفيذه عن طريق مسطرة الإكراه البدني، وهذا أمر منطقي لأن ذلك يتعلق بحرية الأشخاص التي تتطلب التريث من أجل عدم المساس بها.

ثانيا: أن ينذر الدائن المحكوم لصالحه مدينه بالأداء

فقد نص الفصل 680 من قانون المسطرة الجنائية على أنه “لا يمكن إلقاء القبض على المحكوم عليه بالإكراه البدني وسجنه إلا بعد القيام بما يأتي: أن يوجه له إنذار بالأداء، ويبقى بدون جدوى بعد مرور أكثر من عشرة أيام”.

إذ أن مجرد صدور حكم نهائي، لا يكفي لتطبيق الإكراه البدني ضد المحكوم عليه، بل لا بد من إنذاره ومرور عشرة أيام على توصله بالإنذار حتى يستوجب اعتقاله في حالة عدم تنفيذه للمبلغ المحكوم به، وتوجيه الإنذار للمدين واجب سواء كان الدين عموميا أو خصوصيا، وقد حدد المشرع كيفية توجيه الإنذار للمدين في عدة فصول ولاسيما بالنسبة للديون العمومية، والفائدة من توجيه الإنذار للمدين هو جعله في حالة مطل عن الأداء يستحق معها الزج به في السجن إذا لم يستجب للإنذار بأداء الدين للدائن أو التراضي معه على حل يرضيه.

ثالثا: أن يطلب الدائن اعتقال المدين

يرفع الدائن طلبا إلى وكيل الملك مصحوبا بالإنذار سالف الذكر ينم فيه عن رغبته الزج بغريمه في السجن، وإذاك يوجه وكيل الملك الأوامر اللازمة إلى رجال القوة العمومية من أجل إلقاء القبض على المطلوب إكراهه، وفقا للشروط المقررة في تنفيذ الأوامر القضائية.

وبما أن طلب اعتقال المدين حق للدائن أعطاه إياه القانون، فبديهي أن يفرض على المدين المعتقل إذا ما تنازل الطالب عن طلبه بإرادته المنفردة أو بمسعى من المدين نفسه.

رابعا: أن يحدد الحكم مدة الإكراه البدني

  فقد تعرض المشرع لمدة الحبس في المادة 678 من قانون المسطرة المدنية، وذلك بحسب المبلغ المستحق للدائن تحديدا متراوحا بين الحد الأدنى والأقصى لمدة الحبس، مع الإشارة إلى أن أدنى حد للحبس يقدر بيومين وأقصى حد له يقدر بسنتين.

هذه أهم الشروط التي يجب توفرها كي ينفذ الحكم بالإكراه البدني، لكن رغم توفر هذه الشروط هناك حالات استثنائية تحول دون حبس المدين من أجل إكراهه على أداء الدين، منها ما يتعلق بالدين نفسه، ومنها ما يتعلق بالأشخاص المحكوم عليهم.

1. الاستثناءات المتعلقة بالدين: إذا انقضى الدين أو سقط بأي وسيلة من وسائل انقضاء الالتزامات كالإبراء أو التقادم وغير ذلك، فإنه لا يجوز حبس المدين، إذ أن الإكراه البدني في هذه الحالة أصبح غير ذي جدوى، كذلك في الحالة التي يحكم فيها بالإكراه البدني فإن المحكوم عليه يمكن أن يوقف مفعوله بأداء المبلغ الكافي لاستيفاء قدر الدين أو بتنازل الدائن الذي سعى لاعتقاله.

2. الاستثناءات المتعلقة بالأشخاص: تجدر الإشارة إلى أن الإكراه البدني له صفة شخصية ولا ينفذ إلا على المحكوم عليه شخصيا فلا ينفذ على ورثته مثلا، كما أن الإكراه البدني لا ينفذ على الأشخاص الاعتباريين، لأن طبيعة الإكراه البدني سالبة  للحرية وهو ما لا يمكن تطبيقه على الأشخاص المعنويين الذين خصهم المشرع بعقوبات خاصة كالعقوبات المالية والتصفية والحل…

وهناك حالات لا يطبق فيها الإكراه البدني على الأشخاص الذاتيين وهي حالات نص عليها الفصل 676 من قانون المسطرة الجنائية كالجرائم السياسية نظرا لما لهذه الجرائم من صبغة خاصة، وفي حالة الحكم بالإعدام أو السجن المؤبد فالمحكوم عليه سيتم بقاؤه في السجن أو سيعدم، وبالتالي سوف لن يبقى هناك محل لتنفيذ الإكراه البدني في حقه، وهناك قيد يتعلق بسبب المحكوم عليه، فقد نص الفصل 676 من قانون المسطرة الجنائية على أنه: “…لا يمكن الحكم أو المطالبة بتطبيق الإكراه البدني في الأحوال الآتية:

ـ في قضايا الجرائم السياسية.

ـ في حالة الحكم بالإعدام أو السجن المؤبد.

ـ إذا كان عمر المجرم يقل عن 16 سنة يوم ارتكابه الجريمة.

ـ بمجرد ما يبلغ المحكوم عليه 65 عاما…”.

وهناك القيد المتعلق بالقرابة أو المصاهرة أو الزواج، فبالإضافة إلى الحالات السابقة، فإنه لا يمكن الحكم بالإكراه البدني أو تطبيقه إذا كان المحكوم عليه والمحكوم له (المدين والدائن) تجمع بينهما قرابة أو مصاهرة من درجة معينة، وكذلك إذا كان المحكوم عليهما بالإكراه البدني في وقت واحد تجمع بينهما رابطة الزوجية، وقد استثنى المشرع هذه الحالات من نطاق الإكراه البدني نظرا للعناية التي أولاها للروابط العائلية والأسرية، حرصا منه على دوام تماسك أواصرها، فمجتمعنا من مميزاته الخاصة أنه لا يزال مجتمعا عائليا من الناحية البنيوية، ولا يجهل أحد مدى تأثير هذه العلائق على كل نواحي حياة هذا المجتمع ذي الجذور العربية الإسلامية.

وهناك في الأخير حالة أخرى لا يطبق فيها الإكراه البدني وهي حالة تقادم الدين، وهكذا فإن الديون التي قرر لها المشرع مددا للتقادم يستحيل تطبيق الإكراه البدني بشأنها، فالغرامات المحكوم بها في قضايا جنائية تتقادم حسب القواعد المقررة في الفصل 689 من قانون المسطرة الجنائية فلا سبيل إلى تطبيق الإكراه البدني بشأنها، وكذلك التعويضات المحكوم بها في إطار الدعوى المدنية التابعة فإنها تخضع لقواعد التقادم المدني، بمرور ثلاثين سنة حسب الفصل 693 من ق.م.ج.

الإكراه البدني بين شرعية الإبقاء عليه والدعوة إلى إلغائه 

إن من الخصائص المميزة للعمل القانوني والقضائي بصفة عامة اختلاف الآراء وتعدد الاتجاهات وفي ذلك رحمة بالإنسان، وفي هذا الصدد فإن موضوع الإكراه البدني كغيره من المواضيع القانونية الأخرى قد أفرز من الناحية العملية عددا من الإشكالات اختلف حولها الفقه والقضاء من بينها مشروعية أو عدم مشروعية الإكراه البدني وصحة إجراءاته.

لقد سبقت الإشارة إلى أن بعض التشريعات وأهمها القانون الفرنسي والمصري ألغت نظام الإكراه البدني في المواد المدنية والتجارية، لعدة اعتبارات أهمها أن هذا الإجراء فيه مس وخرق لحرية الفرد التي تضمنها الدساتير والمواثيق الدولية، وفي هذا الاتجاه سار فريق من الفقه المغربي حيث دعا إلى إلغاء الإكراه البدني وفي طليعتهم المرحوم الأستاذ علال الفاسي[7] وتمسك بعض الفقهاء المغاربة بضرورة إلغاء الإكراه البدني، كون المغرب من البلدان التي صادقت على الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية ولاسيما الفصل الحادي عشر منها.

ومقابل هذا الفريق نجد فريقا آخر يدعو إلى الإبقاء على الإكراه البدني، لما فيه من ضمان للحقوق وصيانة لقدسية الأحكام القضائية.

أما موقف الشريعة الإسلامية فقد سبق توضيحه، حيث قررت الإكراه في حق المدين الموسر، وذلك جزاء له على مطله لقوله صلى الله عليه وسلم: “مطل الغني ظلم”، في حين منعت سجن المدين المعدم لقوله تعالى: ﴿وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة﴾، لأن إكراه المدين المعسر من شأنه أن يفقد الإكراه البدني ماهيته كوسيلة للإجبار على التنفيذ.

ولهذا نحن مع الآراء التي تقول بعدم تطبيق الإكراه البدني على المدين المعسر عملا بتعاليم الشريعة الإسلامية التي اهتمت بالديون وأصحابها سواء تعلق بها حق الدائن أو المدين، حيث شددت أكثر في حق الغني المماطل المتظاهر بالعسر، ولكنها رغبت أيضا في التصدق على المدين المعسر بالدين الذي في ذمته وجعلت ذلك قربة إلى الله سبحانه وتعالى.

الهوامش


1. بحث للأستاذ حماد العراقي، مجلة رابطة القضاة، العدد 11 و12، ص26.

2. الإمام أبو عبد الله الشافعي، الجزء الثالث، ص188.

3. القاضي برهان الدين إبراهيم بن فرحون المالكي، كتاب تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، ص144.

4. العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام، ص220.

5. الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله القرطبي، الجزء الثالث.

6. العقد المنظم… لابن سلمون ص: 218-221.

7. محاضرات في الفقه والمعاملات، ألقاها المرحوم علال الفاسي على طلبة السنة الثانية بكلية الحقوق بالرباط، سنة 1968.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق