مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةغير مصنف

الإسراء والمعراج … قمة التكريم الإلهي

 

 

 

 

بقلم الباحثة: دة خديجة أبوري.

بسم الله الرحمن الرحيم

 والصلاة والسلام على خير الأنبياء والمرسلين

وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين

وبعد:

فما من محنة تصيب المؤمن إلا وهي متضمنة لمنحة إلهية كبرى،تلك هي حكمة الله تعالى في خلقه، يصيب بها من يشاء من عباده، يقول الله تعالى: (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا)[1] وقد تعرض خير خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم لمحن كثيرة في حياته، وكان من أشدها عليه لما أغلقت قريش الطريق في وجه دعوته بمكة وفرضت الحصار عليهم، فمات عمه أبو طالب الذي كان يحميه ويدافع عنه، وزوجه خديجة رضي الله عنها التي كانت تواسيه وتخفف عنه، فانتهزت قريش الفرصة فأذاقوه من صنوف العذاب ما تئن إليه الجبال، ثم ابتلاه الله تعالى  بما لاقاه من أهل ثقيف يوم شتموه ورفضوا دعوته.

بعد هذه المحن شاءت حكمة الله اللطيف أن يمن على نبيه الكريم بمنحة لم ينل شرفها قبله نبي مرسل، ولا ملك مقرب؛ وهي منحة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والمعراج من المسجد الأقصى إلى السماوات العلا،  فكانت رحلة عطاء وتكريم تقديرا له على صبره وتحمله، وتثبيتا لفؤاده، مصداقا لقوله تعالى: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)[2]، وكانت رحلة تشريع فرضت فيه الصلوات الخمس بأجر خمسين، كما كانت رحلة كاشفة كشف الله له فيها عن ملكوته وأطلعه على الغيب المحجب  فرأى من آيات ربه الكبرى، (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى)[3].

لقد أفاضت كتب التفسير والحديث والسيرة والتاريخ بذكر تفاصيل هذا الحدث من حيث تاريخه، ووقائعه، ولن أستعرض في هذا المقال لذلك كله، لكني سأقف وإياكم على هذا الحدث من زاوية  الدروس والعبر التي يمكن أن نستشفها منه.

إن رحلة ومعجزة الإسراء والمعراج لم تكن مجرد حادث عادي، بل اشتملت هذه الرحلة النبوية على فوائد كثيرة، ودروس عظيمة، فمن ذلك:

1- ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم قبل هذه المحنة من محن دلالة على ضرورة الثبات على طاعة الله سبحانه وتعالى، والصبر على البلاء مهما كان كبيرا، واليقين بأن الله تعالى جاعل دائما بعد العسر يسرا مصداقا لقول الله تعالى: (فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا)[4].

2- أنه حينما يتفقدك الله بشدة ، وتساق لك بعض الشدائد والمحن، ويضيق عليك كل شيء، فاعلم أن الله يحبك، لأن الله إذا أحبّ عبداً ابتلاه وعجل له بالعقوبة كي يعيده إليه.

3- وفي اختلاف العلماء في تاريخ وقوع حادثة الإسراء والمعراج[5] دلالة على أن الله تعالى أخفاها على الإنسان حتى لا يخصصها بشيء من العبادات التي لم يرد ذكرها في الشرع، نقل ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله: ” لم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها؛ بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة التي يظن أنها ليلة الإسراء بقيام ولا غيره”[6].

4- وفي اختيار الله عز وجل أن يسري بنبيه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، ويعرج به من المسجد الأقصى إلى السماوات العلا ليلا، دلالة على أن الليل ستار وسكينة، وهو ما يأنس فيه المسلم بربه عز وجل، يقول العلامة الألوسي في روح المعاني “وإنما أسري به ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلاً لمزيد الاحتفال به ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإن الليل وقت الخلوة والاختصاص، ومجالسة الملوك، ولا يكاد يدعو الملك لحضرته ليلاً إلا من هو خاص عنده”[7].

5- وأما إمامة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء، فهي إقرار مبين بأن أمر النبوة قد ختم[8] كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر،…)[9].

6- وعندما أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بإناء من خمر وإناء من لبن فاختار اللبن فقال: هي الفطرة التي أتت عليك وأمتك دليل على أن هذا الدين دين الفطرة[10]

7- وفي الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وصلاته بالأنبياء هناك، دلالة على أهمية المسجد الأقصى في الإِسلام، فهو القبلة الأولى التي صلى المسلمون إليها في الفترة المكية، وثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام بمكة، وثالث الحرمين الشريفين ولا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ 🙁 لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد:المسجد الحرام،ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى )[11]، وفي ذلك توجيه للمسلمين جميعا بأن يعرفوا قيمته، ويستشعروا بمسئوليتهم نحوه.

8- استفتاح جبريل –عليه السلام- أبواب السماء لأنها كانت مغلقة وإنما لم تهيأ له بالفتح قبل مجيئه. وإن كان أبلغ في الإكرام ـ لأنه لو رآها مفتحة لظن أنها لا تزال كذلك. ففعل ذلك ليعلم أن ذلك لأجله تشريف[12].

9- ثم أنَّ جبريل لما كان يستفتح أبواب السماء، فيقال له: “من”؟ فيقول: “جبريل”. ففيه دليل على أنَّ المستأذن إذا قيل له: من؟ سمَّى نفسه بما يُعرف به، ولا يقول: أنا. فقد ورد في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: “أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب، فقال:(من ذا؟) فقلت:” أنا”. فقال:(أنا أنا!) كأنه كرهها”[13].

10- وفي ترحيب أهل السماوات بالرسول صلى الله عليه وسلم، دلالة على استحباب تلقي أهل الفضل بالبشر والترحيب والثناء والدعاء، وجواز مدح الإنسان المأمون عليه الافتتان في وجهه[14].

10- وما أراه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم من الآيات، ليلة العروج به إلى السماوات العلا -خاصة ما يتعلق بعقوبات بعض الأمراض الاجتماعية كالغيبة وأكل أموال اليتامى وأكلة الربا وغيرها- دلالة على شدة الموقف وهوله، وفيه تأكيد على عدم التساهل في ذلك، لأن الأمر متعلق بحقوق العباد.

11- وفي فرضية الصلاة ليلة المعراج دلالة على شرفها ومكانتها وفضلها[15]، وهي آخر ما وصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته وقت فراق الدنيا قال: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم) [16]. 

12- وما قاله موسى عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم عند فرض الصلاة خمسين صلاة: (فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك)[17] دلالة صريحة على قيمة النصح وأهميته في الإسلام.

13– وفي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم قريشا بقصة الإسراء والمعراج حال عودته وما لقيه من سخرية[18] دلالة على ضرورة قول الحق والجهر به دون الخوف من العواقب، ولله سبحانه وتعالى في ذلك حكمة وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مقبلا على مرحلة جديدة وهي مرحلة الانطلاق لبناء الدولة الإسلامية، فجعل الله هذا الاختبار والتمحيص ليخلص صفوف المسلمين من الضعاف والذين في قلوبهم مرض[19].

14- ثم إن جواب الصديق رضي الله عنه لما أخبرته كفار قريش بالحدث: ” إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك” دلالة على قوة إيمانه، ولذلك استحق لقب الصديق، وهو منتهى الفقه واليقين لأنه وازن بين الحدث ونزول الوحي من السماء فبين لهم أنه إذا كان غريبا على الإنسان العادي فإنه في غاية الإمكان بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم[20]، وفيه دلالة على التسليم المطلق بالغيبيات لأن ذلك من مقتضيات الإيمان.

الخاتمة

وما ذكرته هنا قليل من كثير، وغيض من فيض، وكم في هذه المعجزة الباهرة من دروس وعظات لا يتسع المقام لذكرها، لكن تبقى من أعظم المعجزات التي أيد الله بها نبيه الكريم بعد سلسلة من المحن، وهي بالإضافة إلى ذلك مدرسة للمسلمين في كل زمان ومكان،  يستلهمون منها ما يفيدهم في جميع مناحي الحياة، ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة.

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

******************

لائحة المراجع المعتمدة في المقال:

1- الإسراء والمعراج (الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء) للسيوطي، خرّج أحاديثه: أبو عبدالله القاضي ، ط  1409، دار الحديث القاهرة.

2- التاريخ الإسلامي –مواقف وعبر- السيرة النبوية د. عبد العزيز بن عبد الله الحميدي، ط1 /1418-1997. دار الدعوة

3- الجامع الصحيح لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، ط 1 / 1400هـ، المطبعة السلفية القاهرة.

4- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لشهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي، إدارة الطباعة المنيرية بمصر 1353 دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان.

5- زاد المعاد في هَدْي خير العباد، لمحمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين المعروف بـ: ابن قيم الجوزية، حقق نصوصه وأخرج أحاديثه وعلق عليه: شعيب الأرنؤوط، عبد القادر الأرنؤوط، ط 3/ 1418-1998 مؤسسة الرسالة.

6- سنن ابن ماجه القزويني، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: د بشار عواد معروف ط 1 / 1418 هـ – 1998 مـ . دار الجيل بيروت لبنان.

7- السيرة النبوية (عرض وقائع وتحليل أحداث)، د علي محمد الصلابي، ط 1/ 1428-2007دار ابن الجوزي القاهرة.

8- صحيح مسلم بشرح النووي، حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي – حازم محمد – عماد عامر، ط4 /1422هـ-2001مـ دار الحديث القاهرة.

9- فتح الباري شرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر، أبو الفضل العسقلاني الشافعي، أخرجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي ط 1379 دار المعرفة – بيروت.

10- فقه السيرة، لمحمد الغزالي، خرج أحاديثه: العلامة محمد ناصر الدين الألباني، ط2 / 1424هـ-2003 مـ دار الشروق.

11- مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد، ط 1/ ما بين 1416-1995 و 1418-1997، مؤسسة الرسالة بيروت.

12- مسند الدارمي المعروف بـ: سنن الدارمي، لأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي، تحقيق: حسين سليم أسد الداراني ، ط 1/ 1421-2000 ، دار المغني السعودية.

13- المنتخب من مسند عبد بن حميد، تحقيق وتعليق: مصطفى بن العدوي، ط2/ 1423-2002 دار بلنسية الرياض.

**************************

هوامش المقال:

**************

 [1]  – سورة الشرح الآيتان 5-6.

[2]  – سورة الزمر من الآية 10.

[3]  – سورة النجم من الآية 13 إلى الآية 18.

[4]  – سورة الشرح الآيتان 5-6.

[5]  – وقد اختلف العلماء في تحديد السنة وكذا الشهر الذي وقعت فيه على عدة أقوال: فقيل: قبل الهجرة بسنة قاله ابن سعد، وجرى عليه الإمام النووي، وادعى ابن حزم الإجماع على ذلك،وقيل غير ذلك، وأما الشهر فقد جزم ابن الأثير وجمع منهم النووي بأنها كانت في ربيع الأول، قال النووي: ليلة سبع وعشرين، وقيل: كانت في رجب. وقيل: رمضان. وقيل: شوال. وقيل غير ذلك يراجع في ذلك: فتح الباري 7/203.

[6]  – زاد المعاد 1 /58.

[7]  – روح المعاني 15 /11.

[8]  – انظر فقه السيرة للغزالي ص: 138.

[9]  – مسند الدارمي 1 /196-197 برقم: 50.

[10]  – فقه السيرة للغزالي ص: 142.

[11]  – أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضل الصلاة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 1 /367 برقم: 1189، ومسلم في صحيحه صحيح مسلم بشرح النووي كتاب الحج باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 5 /180 برقم: 1397.

[12] – الإسراء والمعراج (الآية الكبرى) للسيوطي ص:43.

[13]  –  أخرجه البخاري في صحيحه 4 /140، كتاب الاستئذان باب إذا قال : من ذا فقال: أنا برقم: 6250.

[14]  – فتح الباري 7 /217.

[15]  – انظر فتح الباري 7 /216.

[16]  – أخرجه أحمد في مسنده 19 /209 برقم: 12169، وعبد بن حميد في مسنده 2 /239 برقم 1212، وابن ماجه في سننه 4 /266-267 برقم: 2697 كتاب الوصايا، باب هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كلهم من حديث أنس رضي الله عنه.

[17]  – صحيح البخاري كتاب الصلاة باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء 1 /132-133 برقم: 349، صحيح مسلم بشرح النووي كتاب الإيمان  باب الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلا 1 /486-488 برقم: 162.

[18]  – روى البخاري ومسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: ( لما كذبتني قريش قمت في الحجر، فجلّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه) صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار باب حديث الإسراء 3 /63 برقم: 3886، وصحيح مسلم بشرح النووي 1 /509 برقم: 276.

[19]  – السيرة النبوية للصلابي ص: 223.

[20]  – التاريخ الإسلامي –مواقف وعبر- 3 /45.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق