مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الإخـلا ص سرٌّ بين العبد وربه

    لا تُقبل الأعمال الظاهرة والباطنة إلا به، وعليه مدارها وبه كمالها وثوابها، لا يعلمه أحد من المخلوقات، ولا يطلع عليه إلا الحق سبحانه وتعالى، مطلوب ومرغوب فيه، يبلغ به صاحبه من الدرجات العلى ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، فهو من أعمال القلوب، وفحواه “أن يقصد الإنسان بقوله وعمله وجهاده وجه الله، وابتغاء مرضاته، من غير نظر إلى مغنم أو جاه أو لقب أو مظهر أو تقدم أو تأخر، ليرتفع المرء عن نقائص الأعمال، ورذائل الأخلاق، ويتصل مباشرة بالله”[1].

    الإخلاص هو الدين، ومفتاح دعوة المرسلين، إنه محور دعوتهم ولبّها والغاية منها، قال تعالى: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء﴾[2]، وقال جل وعلا: ﴿فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص﴾[3]، وقال جل شأنه: ﴿قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين﴾[4].

    جاءت الأحاديث النبوية الشريفة من أجل توجيه العبد إلى الإخلاص في جميع أعماله، وتُحذِّره من أن يقصد بعبادته ثناء الناس ومدحهم، وتُبيِّن أن كل عمل لم يتصف بالإخلاص لله تعالى فهو مردود على صاحبه، وتوضح أن الله تعالى لا ينظر إلى ظاهر أعمال العبد، بل ينظر إلى ما في قلبه من النوايا والمقاصد، لأن الأعمال بالنيات والأمور بمقاصدها[5].

    أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)[6].

    يعد هذا الحديث قاعدة من قواعد الدين، وأصلا من أصوله، لأن مدار الأعمال كلها على نية صاحبها، والأمور بمقاصدها، والنية هي قصد العمل تقربا إلى الله تعالى، وطلبا لرضائه وثوابه، من غير التفات للخلق، والتماس رضاهم، ورجاء نفعهم، بل يكون الإنسان حريصا على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما يضاده من الرياء والسمعة والكبر.

    والإخلاص دليل كمال الإيمان، فقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان) [7].

    وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (بينما ثلاثة نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطَت على فم غارهم صخرة من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالا عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها لعلّه يفرُجها، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران ولي صبية صغار كنتُ أرعى عليهم، فإذا رُحت عليهم فحلبتُ، بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي، وإنه ناء بي الشجر، فما أتيت حتى أمسيتُ، فوجدتها قد ناما، فحلبتُ كما كنت أحلُب، فجئت بالحلاب، فقمت عند رؤوسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدميَ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبُهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا فرجة نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجة حتى يرون منها السماء. وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي ابنة عم أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فطلبت إليها نفسها، فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار، فلقيتها بها، فلما قعدت بين رجليها، قالت: يا عبد الله، اتق الله، ولا تفتح الخاتم ، فقمت عنها، اللهم فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج لنا منها، ففرج لهم فرجة. وقال الآخر: اللهم إني كنت استأجرت أجيرا بفرق أرُزّ، فلما قضى عمله، قال: أعطني حقي، فعرضت عليه حقَه، فتركه ورغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرا وراعيها، فجاءني، فقال: اتق الله، ولا تظلمني وأعطني حقي، فقلت: اذهب إلى ذلك البقر وراعيها، فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقلت: إني لا أهزأ بك، فخذ ذلك البقر وراعيها، فأخذه، فانطلق بها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج ما بقي، ففرج الله عنهم)[8].

    فمتى أخلص المؤمن عمله لله عزّ وجل، وابتغى به وجهه، فكانت حركاته وسكناته وعبادته الظاهرة والباطنة خالصة لوجهه الكريم، حلّت عليه السكينة والطمأنينة، ونزل الفرج والنجاة من الكرب والشدة، والمُخلص موعود بالنجاحين: نجاح في الدنيا ونجاح في الآخرة، وليس هناك من طريق يجمعهما إلا طريق الإخلاص، الذي شكَل دأب الصالحين، وعنوان العارفين، وعمدة المتصوفين، وبرهان السالكين لطريق الله عز وجل، الذين عملوا على تخليص عبادتهم، مما يمكن أن يكدر صفاءها من الحظوظ النفسانية، واعتبار الخلق في معاملة الحق.

    قال الشيخ أبو طالب المكي رضي الله عنه: “الإخلاص عند المخلصين إخراج الخلق من معاملة الحق، وأول الخلق النفس، والإخلاص عند المحبين ألا يعملوا عملا لأجل النفس، وإلا دخل عليها مطالعة العوض، أو الميل إلى حظ النفس، والإخلاص عند الموحدين خروج الخلق من النظر إليهم في الأفعال، وعدم السكون والاستراحة إليهم في الأحوال، وقال بعض المشايخ: صحِّح عملك بالإخلاص وصحح إخلاصك بالتبري من الحول والقوة”[9].

    كما جاء عن الإمام الجنيد قوله: “إن الله عز و جل يُخلص إلى القلوب من بِرِّه، حسبما خلُصت القلوب به إليه من ذكره، فانظر ماذا خالط قلبك”[10]، ويضيف بأن: “الإخلاص سر بين العبد وربه، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيهلكه”[11].

    وقال سهل التستري: “نظر الأكياس في تفسير الإخلاص، فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى وحده لا يمازجه شيء، لا نفس ولا هوى ولا دنيا”[12].

    فالصوفية جعلوا من إخلاص العبادة لله وحده شعارهم، وخاصية من خواصهم، نظروا إلى الله تبارك وتعالى بقلوبهم، ابتغوا رضاه، فكان الله عز وجل “غايتهم يتوجهون إليه بالغداة والعشي، لا يتحولون عنه، ولا يبغون إلا رضاه، وما يبتغونه أجلّ وأعلى من كل ما يبتغيه طلاّب الحياة، تقوم الدعوات على هذه القلوب التي تتجه إلى الله وحده، خالصة له، لا تبتغي جاهاً ولا متاعاً ولا انتفاعا، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه”([13]).

    وصدق الحق تبارك وتعالى إذ قال: ﴿واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تُطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطا)[14].

وكلام العلماء والعارفين في الإخلاص أكثر من أن يحصى، وكلهم يؤكدون عظيم أهميته وكبير أثره.

    قال أبو القاسم القشيري: “الإخلاص إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله سبحانه دون شيء آخر، من تصنع لمخلوق، أو اكتساب صفة حميدة عند الناس، أو مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى، ويصح أن يقال: الإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، ويصح أن يقال: الإخلاص التوقي عن ملاحظة الأشخاص”[15].

    فالإخلاص روح الأعمال وأساسها، وسبب لمغفرة الذنوب ونيل الرضوان، والعصمة من الشيطان، وهو مفتاح أعمال البر، كما قال الجنيد: “إن لله عبادا عقلوا، فلما عقلوا عملوا، فلما عملوا أخلصوا، فاستدعاهم الإخلاص إلى أبواب البر أجمع”[16].

    وجعل الإمام السيوطي المخلصين لله تعالى في منزلة المقربين لله عز وجل، لأنهم عملوا الطاعات والعبادات، وابتغوا بها وجه الله سبحانه ورضاه، قال: “والقيام بالأوامر والنواهي لله وحده، لا لجلب ثواب ولا لدفع عقاب، وهذا حال من عبد الله لله، خلاف من عبد الله للثواب وخوف العقاب، فإنما عبد لحظ نفسه، وإن كان هو محبا أيضا، لكنه في درجة الأبرار، وذاك في درجة المقربين”[17]

     وللإخلاص عند ابن عجيبة ثلاث درجات: “درجة العوام والخواص وخواص الخواص. فإخلاص العوام: هو إخراج الخلق عن معاملة الحق مع طلب الحظوظ الدنيوية والأخروية، كحفظ البدن والمال وسعة الرزق والقصور والحور، وإخلاص الخواص: طلب الحظوظ الأخروية دون الدنيوية، وإخلاص خواص الخواص: إخراج الحظوظ بالكلية، فعبادتهم تحقيق العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، أو محبة وشوقا إلى رؤيته”[18].

     ومهما اختلفت درجات الناس ومنازلهم وتباينت في مرتبة الإخلاص لله عز وجل، فإنهم مجمعون كلهم على أن الله سبحانه هو المستحق لأن يقصد دون سواه، فهو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو وحده المطلوب والمقصود، لأنه الخالق الهادي المطعم المسقي الذي يغفر الذنوب والخطايا، “فمن كانت هذه صفاته وتلك أفعاله، فإنه الذي يستحق العبادة دون سواه، وهو الذي ينبغي أن يكون المقصد والمعاذ والملاذ، والتوجه إليه وقصده بالعبادة حقه الخالص الذي لا يشركه فيه أحد، فهو الذي يستحق العبادة خوفا ورجاء، ورغبة ورهبة، وتوكلا واعتمادا…”[19].

 

[1] إسلامنا، السيد سابق، ص: 37.

[2] سورة البينة، الآية 5.

[3] سورة الزمر، الآية 2-3.

[4] سورة الزمر، الآية 11.

[5] حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، ص: 205.

[6] صحيح البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، رقم 1.

[7] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (773-852هـ)، عن الطبعة التي حقق أصلها: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ورقّم كتبها وأبوابها وأحاديثها: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، د.ط، 1424هـ/2004م، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس، رقم 10.

[8] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب إجابة دعاء من برّ والديه ، رقم 5974.

[9] إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عطاء الله السكندري، أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة( ت1224 هـ)، تحقيق: محمد عزت، المكتبة التوفيقية، القاهرة، د.ط، د.ت ، ص: 50  .

[10] تاج العارفين، سعاد الحكيم،  ص: 112.

[11] المرجع السابق، ص:113.

[12] تعطير الأنفاس من حديث الإخلاص، سيد بن حسين العفاني، دار العفاني، مصر، ط1، 1421هـ/2001م، ص: 86.

[13] المصدر السابق، ص: 102.

[14] سورة الكهف. الآية 28.

[15] الرسالة القشيرية، القشيري، ص ص: 207-208.

[16] تاج العارفين، ص: 113.

[17] تأييد الحقيقة العلية، السيوطي، ص: 53.

[18] إيقاظ الهمم، ابن عجيبة،  ص: 50 .

[19] مقاصد المكلفين فيما يتعبَد به لرب العالمين، أو النيات في العبادات، عمر سليمان الأشقر، مكتبة الفلاح، الكويت، ط1، 1401هـ/1981م، ص: 369.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق