مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينشذور

الآثار في صفة الصحابة الكرام رضي الله عنهم (2)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم»([1]).

من المعلوم أن الله جل شأنه رأفة بعباده اختار محمدا صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته الخالدة للناس، واختار له أصحابا جعلهم أنصارا لدينه ووزراء لنبيه ونموذجا لكل مسلم يريد القرب من الله؛ فبذلوا نفوسهم وأموالهم ومهجهم في سبيل الله وإعلاء كلمته وتبليغ رسالته، فصاروا بقيادة أفضل الأنبياء: الصـراط المستقيم الذي نسأل الله سبحانه أن يهدينا إليه، فقائدهم أفضل الأنبياء، وهم صفوة الخلق بعد الأنبياء، والمرسلين، فهم خير الصديقين، وأفضل الصالحين، وأعظم المجاهدين، وسادة الشهداء. قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}([2]). أثنى الله تعالى عليهم في كتابه الكريم، فقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا}([3])، فإذا عرف المسلم حبّ الله تعالى لهؤلاء الثّلّة المؤمنة، وعلم فضلهم الذي ذكره رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- حين امتدحهم، فقد لزمه حبّهم والتأدّب في الحديث عنهم، والرّغبة في معرفة سيرهم؛ لفضلها وعظيم الدّروس والعبر فيها.

فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: «إِنَّ اللهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ»([4]).

كانت حياتهم وجميع أقوالهم وأفعالهم رضي الله عنهم اقتباساً وتطبيقاً للقرآن الكريم، واتّباعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله، فلهم الفضل الكبير في تبليغ الدّين، ونشره في أصقاع المعمورة، وحفظه من التّحريف والزّيادة والنُّقصان، فهم رضي الله عنهم خير خلق الله تعالى بعد الرّسل والأنبياء، اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيّه مُحمد صلى الله عليه وسلم، فهم أكثر هذه الأمة فهماً وعلماً، والأطهر قلوباً، والأقوم هدياً، وقّافون عند حدود الله، سريعو الإنابة، زُهّادٌ بالحياة الدنيا، توّاقون للآخرة.

فهم أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين، فقد جعلهم الله خير أمةٍ أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله، فجعلهم مثلًا لأصحاب الكتابين: التوراة والإنجيل، خير الأمم أمَّته، وخير القرون قرنه، يرفع الله من أقدارهم؛ إذ أمر الله عزو جل نبيه صلى الله عليه وسلم  بمشاورتهم؛ فقال:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر}([5])، لما علم من صدقهم، وصحة إيمانهم، وخالص مودَّتهم، ووفور عقلهم، ونبالة رأيهم، وكمال نصيحتهم، وتبيُّن أمانتهم، رضي الله عنهم أجمعين.

يقول ابن القيِّم رحمه الله – مبيِّنًا هذا المعنى في حقِّ الصحابة  رضي الله عنهم: «فَلَا رَيْبَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ قُلُوبًا، وَأَعْمَقَ عِلْمًا، وَأَقَلَّ تَكَلُّفًا، وَأَقْرَبَ إلَى أَنْ يُوَفَّقُوا فِيهَا لِمَا لَمْ نُوَفَّقْ لَهُ نَحْنُ؛ لِمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ تَوَقُّدِ الْأَذْهَانِ، وَفَصَاحَةِ اللِّسَانِ، وَسَعَةِ الْعِلْمِ، وَسُهُولَةِ الْأَخْذِ، وَحُسْنِ الْإِدْرَاكِ وَسُرْعَتِهِ، وَقِلَّةِ الْمُعَارِضِ أَوْ عَدَمِهِ، وَحُسْنِ الْقَصْدِ، وَتَقْوَى الرَّبِّ تَعَالَى؛ فَالْعَرَبِيَّةُ طَبِيعَتُهُمْ وَسَلِيقَتُهُمْ، وَالْمَعَانِي الصَّحِيحَةُ مَرْكُوزَةٌ فِي فِطَرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ»([6]) .

وفيما يلي درر من بعض الآثار الواردة في صفة الصحابة الكرام رضي الله عنهم:

أَخرج ابن جرير([7]) وابن أَبي حاتم عن السُّدِّي في قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}([8]) قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لو شاء الله لقال: {أنتم} فكنَّا كلُّنا ولكن قال: {كنتم} خاصّة في أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومَنْ صنع مثل صنيعهم، كانوا خيرَ أمّة أُخرجَتْ للنَّاس». وعند ابن جرير([9])  عن قَتَادة رضي الله عنه قال: ذُكرَ لنا أَن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأَ هذه الآية: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية، ثم قال: «يا أيَّها الناس، من سرَّه أَن يكون من تِلْكم الآية فليؤدّ شرط الله منها».

وأَخرج أبو نُعيم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «من كان مُستنّاً فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا خير هذه الأمّة، أبرَّها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلَّها تكلُّفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبَّهوا بأَخلاقهم وطرائقهم؛ فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله ربِّ الكعبة»([10]) ، وأَخرج أَيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «أنتم أَكثرُ صياماً وأَكثرُ صلاةً وأَكثرُ اجتهاداً من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيراً منكم! قالوا: لِمَ يا أبا عبد الرحمن، قال: «هُمْ كَانُوا أَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا، وَأَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ»([11]). وأخرج أيضاً عن أَبي وائل، قال: سمع عبد الله رجلاً يقول: أَيْنَ الزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا وَالرَّاغِبُونَ فِي الْآخِرَةِ؟ فقال عبدالله: «أولئك أَصحاب الْجَابِيَةِ([12])، اشترط خمسُ مائة من المسلمين أن لا يرجعوا حتى يُقتلوا، فحلقوا رؤوسهم ولَقُوا العدو فقُتلوا إِلاَّ مخبرٌ عنهم»([13]).

وأَخرج ابن أَبي الدنيا عن أَبي أَراكة([14]) يقول: صليتُ مع علي رضي الله عنه صلاة الفجر، فلما انفَتَلَ عن يمينه مكث كأَنَّ عليه كآبةً، حتى إِذا كانت الشمس على حائِط المسجد قَيْدَ رُمْح صلَّى ركعتين ثم قَلَب يده فقال: «والله لقد رأَيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يُشبههم!! لقد كانوا يُصبحون صُفْراً شُعْثاً غُبْراً بين أعينهم كأَمثال رُكَب المِعزى، قد باتوا لله سُجّداً وقياماً، يتلُون كتاب الله، يتراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإِذا أَصبحوا فذكروا الله مادُوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تنبل ثيابهم، والله لكأَنّ القومَ باتوا غافلين» ثم نهض فما رُئِيَ بعد ذلك مفترَّاً يضحك حتى قتله ابن مُلْجِم عدوُّ الله الفاسق، كذا في البداية([15]).

وأخرج أبو نُعيم عن قتادة قال: سُئل ابن عمر رضي الله عنهما هل كان أَصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون قال: «نعم والإِيمانُ في قلوبهم أعظمُ من الجبال» ([16]).

وأَخرج الحاكم في المستدرك ([17]) عن أَبي سعيد المَقْبُري قال: لما طُعِنَ([18]) أبو عبيدة رضي الله عنه قال: يا معاذُ صلِّ بالناس، فصلى معاذ بالناس، ثم مات أبو عبيدة بن الجراح، فقام معاذ في الناس فقال: «يا أيّها الناس، توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً فإِن عبد الله لا يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أَن يغفر له. ثم قال: إنكم أيها الناس، قد فُجِعتم برجل – والله – ما أَزعم أَني رأيت من عباد الله عبداً قطُّ أَقل غِمْراً([19]) ، ولا أبرأ صدراً، ولا أَبعد غائلة([20])، ولا أَشد حباً للعاقبة، ولا أَنصح للعامة منه، فترحَّموا عليه ثم أَصْحِروا([21])للصلاة عليه، فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً». فاجتمع الناس وأُخرج أَبو عبيدة رضي الله عنه وتقدَّم معاذ رضي الله عنه فصلّى عليه، حتى إذا أُتي به قبره دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو بن العاص والضحَّاك بن قيس، فلما وضعوه في لحده وخرجوا فشنّوا عليه التراب، فقال معاذ بن جبل: «يا أبا عبيدة، لأثنِيَنَّ عليك ولا أقول باطلاً أَخاف أَن يلحقني بها من الله مَقْتٌ: كنتَ – والله – ما علمتُ من الذاكرين الله كثيراً، ومن الذين يمشون على الأَرض هَوْناً وإِذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، ومن الذين إِذا أَنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتُروا وكان بين ذلك قواماً، وكنت والله من المُخبتين، المتواضعين، الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويُبغضون الخائنين المتكبرين».([22])

————————————————————————————–

([1]) أخرجه مسلم في الصحيح-كتاب فضائل الصحابة– باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم:4/1963 رقم: 2533.

([2])  سورة التوبة آية 101.

([3])  سورة الفتح، آية: 29.

([4]) أخرجه أحمد في المسند: 6/84، وقال المحقق شعيب الأرنؤوط: (إسناده حسن).

([5])  سورة ال عمران، آية: 159.

([6]) إعلام الموقعين:4/ 113.

([7])  تفسير الطبري: 5/671.

([8])  سورة آل عمران آية 110.

([9])  تفسير الطبري: 5/672.

([10])  حلية الأولياء: 1/67، وضعفه الألباني في مشكاة المصابيح: 1/42.

([11])  حلية الأولياء: 1/136، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 7/106، وأبو داود السجستاني في الزهد: 1/133، والطبراني في الكبير: 9/153، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد: 10/584، وقال: (فيه عمارة بن يزيد صاحب ابن مسعود ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات).

([12])  قرية من أعمال دمشق ثم من عمل الجيدور من ناحية الجولان قرب مرج الصفّر في شمالي حوران، وفي هذا الموضع خطب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، خطبته المشهورة. ينظر معجم البلدان للحموي: 2/91.

([13])  حلية الأولياء: 1/135، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير: 9/113، والبيهقي في شعب الإيمان: 13/114، قال الهيثمي: (فيه علي بن عاصم وهو كثير الخطأ وبقية رجاله ثقات) مجمع الزوائد:6/316.

([14])  لعله عمرو بن أراكة أو ابن أبي أراكة، قال ابن حجر: (ذكره البخاري في الصحابة، وقال: سكن البصرة) الإصابة: 7/329.

([15])  البداية والنهاية لابن كثير: 8/7، وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في الحلية: 1/76.

([16])  الحلية لأبي نعيم: 1/311.

([17])  3/295، سكت عنه الذهبي في التلخيص.

([18])  طعن:  أصيب بالطاعون، وهو طاعون عمواس سنة 18هـ.

([19])  الغمر بالكسر، وهو الحقد، أي المحاقد. ينظر، تاج العروس للزبيدي: 13/264.-مادة غمر-

([20])  غائلة: أي أمرا داهيا منكرا. تاج العروس للزبيدي: 30/131. -مادة غول-

([21]) (وأصحروا: برزوا فيها) ، أي الصحراء. وقيل: أصحروا، إذا برزوا إلى فضاء لا يواريهم شيء، تاج العروس للزبيدي: 13/264. مادة صحر.

([22])  -المعجم الكبير أبو القاسم الطبراني-المحقق: حمدي بن عبد المجيد السلفي-دار النشر: مكتبة ابن   تيمية – 1415 هـ – 1994 م.

       – حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم  الأصبهاني (المتوفى: 430هـ). الناشر: السعادة – بجوار محافظة مصر، 1394هـ – 1974م.

      -حياة الصحابة تأليف: محمد يوسف الكاندهلوي-تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف-مؤسسة الرسالة-ط 1- 1420هـ/1999م.

الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق