مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

ابن خلدون ومسلكه في تقريب العلوم

 

يقول العلامة عبد الرحمن بن خلدون:

 “اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا، إذا كان على التدريج، شيئا فشيئا وقليلا  قليلا، يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يورد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيّأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن الثاني، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا منغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته، هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له و يتيسر عليه، وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته، ويُحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانا على التعليم، وصوابا فيه، ويكلفون رعي ذلك وتحصيله، فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها، فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجيا، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة، إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا، بمخالطة مسائل ذلك وتكرارها عليه، والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتم الملكة في الاستعداد، ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه، وإنما أتى ذلك من سوء التعليم، ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته، وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا، ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي على ملكة بها ينفُذ في غيره، لأن المتعلم إذا حصّل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستوي على غايات العلم، وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدرك الكلال، وانطمس فكره، ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم،….. وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد والكتاب الواحد بتقطيع المجالس وتفريق ما بينها، لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان، كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة، لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه…

          ومن المذاهب  الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا، فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر، فيستغلقان معا ويستصعبان، ويعود منهما بالخيبة، وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو سبيله مقتصرا عليه، فربما كان ذلك أجدر بتحصيله.”

                                       الـمـقـدمـة لعبد الرحمن بن خلدون

تحقيق درويش الجويدي ،الطبعة2/2010م، ص531-532 

المكتبة العصرية بيروت لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق