مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأعلام

ابن النحوي 433ﮪ – 513ﮪ

   الولي الصالح، الورع الزاهد، صاحب الشعر المعسول، والدعاء المقبول، والعلم المصقول “أبو الفضل يوسف بن محمد بن يوسف، ولد عام433ﮪ، ثم استوطن مدينة القلعة عاصمة الحماديين الأولى”[1] عرف بابن النحوي، عاش ما يقرب من ثمانين سنة أمضى أغلبها في طلب العلم وتدريسه ونشره، وربما أطال الله في عمره ليصيب من العلم أوفر نصيب سمح به زمانه.

    كان رحمه الله عالما موسوعيا، متمكنا من علوم شتى، كعلم أصول الدين والفقه، والحديث، وكان يميل إلى الاجتهاد، كما جاء في كتاب نيل الابتهاج عن ابن الباز أنه: “أخذ صحيح البخاري عن اللخمي، و عن أبي زكرياء الشقراطسي، وعبد الجليل الربعي، وكان عارفا بأصول الدين والفقه، يميل إلى النظر والاجتهاد، له تآليف، حدَّث وأخذ وروى عن القاضي أبو عمران موسى بن حماد الصنهاجي…، وحصلت له المزية في الفقه والنظر، وأخذ عنه جماعة من الأئمة الأعلام النظار كالفقيهين أبي بكر ومحمد ابنا مخلوف”.[2]

   بدأت رحلة ابن النحوي العلمية بمدينة القلعة عاصمة الحماديين، ثم رحل إلى القيروان فتتلمذ لأبي الحسن علي بن محمد الربعي كما ذكرنا سابقًا، لينتقل بعد ذلك إلى قلعة بني حماد بلدته الثانية التي آثرها على بقية مدن المغرب واستقر بها، فاشتهر بنسبته إليها، فهو الذي أخذ العلم عن يد أساتذة كبار، كأبي عبد الله المازري و أبي زكرياء الشقراطيسي وعبد الجليل الربعي…، وأخذ عنه بن علي عرف بابن الرمامة، وموسى ابن حماد الصنهاجي وغيرهما… “.[3]

   فبعد مكوثه مدة بقلعة بني حماد غادرها وهو في الستين من عمره، متوجهاً إلى سجلماسة بالمغرب الأقصى والتي لم يمكث فيها طويلا ليضطر بعد ذلك إلى تركها لأنه لم يجد فيها الجو المناسب لتبليغ رسالته العلمية، فلجأ بعد ذلك إلى حاضرة أخرى من حواضر المغرب الأقصى وهي مدينة فاس التي حل بها سنة 494ﮪ، وقد استقر بها مدة ارتبط خلالها بالوسط الصوفي، وزاول التدريس فلزمه الطلبة وأخذوا عنه وأعجبوا به، منهم أبو عمران موسى بن حماد الصنهاجي قاضي الجماعة بمراكش، والصوفي الشهير علي بن حرزهم الذي أخذ عنه في صباه، وعيسى بن يوسف من بيت بني الملجوم، وغيرهم من طلبة وشيوخ وصوفية حاضرة فاس. 

   كانت لابن النحوي مكانة كبيرة عند علماء عصره ومحبيه وتلامذته، فكان رجلا يتحلى بصفات الزهاد والصوفية الكبار، ذو هيبة ووقار، وعلم وعطاء باستمرار، جامعا بين الحقيقة والشريعة، موازنا بين الظاهر والباطن بميزان الكتاب والسنة، وقد عُرف بعلو شأنه في العلوم، وتحققه من مقامات التصوف التي رقته إلى درجات الإحسان والقرب من الله، فكانت ثمرة ذلك أن أُعطي مقام الحضور مع الله، ومقام الخوف من الله، حيث كانا عنوان شخصيته، وهو الذي أُعجب بمنهج الغزالي وبكتابه، قال أبو العباس الغبريني: “كان من العلماء العاملين وعلى سنن الصالحين، مجاب الدعوة حاضرا مع الله في غالب أمره، له اعتقاد تام بإحياء الغزالي…، وقال عياض: كان من أهل العلم والفضل شديد الخوف من الله غالب حاله الحضور معه تعالى”،[4]…ويقول القاضي أبو عبد الله بن علي حماد: “كان أبو الفضل ببلادنا كالغزالي بالعراق علما وعملا”،[5] وقال أبو الحسن بن حرزهم: “أوصاني أبي أن أُقبِّل يد أبي الفضل متى لقيته ولو لقيته في اليوم مائة”.[6]

أما علي ابن أبي زرع الفاسي فيقول: “الفقيه الصالح الزاهد يوسف ابن النحوي…،كان من أهل العلم والدّين والوَرَع”.[7]

وأما التادلي فقد ذكر أنه: “كان من أهل العلم والفضل وعلى هدي السلف الصالح،…وكان الغالب عليه الحضور مع الله تعالى”.[8]

   كانت جُرأة ابن النحوي في قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي تصحيح المغلوط ونصرة المظلوم، ونشر العلوم فوق كل اعتبار، مما أثار قريحة بعض الحكام ورؤساء البلاد، فهو الذي نسخ ثلاثين نسخة من كتاب الإحياء للغزالي، حيث كان له اعتقاد تام بهذا الكتاب الذي أثار الجدل منذ صدوره، “(…فعندما أفتى الفقهاء بحرقه في صحن مراكش ووصل كتاب سلطان لمتون بذلك، انتصر وكتب للسلطان وأفتى بعدم لزوم تلك الأيمان، وتحليف الناس بمغلظ اليمين أن ليس عندهم الإحياء، فعندما وصل كتاب رئيس الدولة بالتحريج ـ والتحريم ـ ذهب ابن حرزهم إلى أبي الفضل يستفته في تلك الأيمان، فأفتى بأنها لا تلزم، تلكم ظاهرة نبيلة تبرهن في جلاء على قوة إيمان الرجل، وثبات عقيدته ورسوخ يقينه في الله وإن جرى نوعها بالشرق، وصدع بها عدة علماء – كالنووي والعز بن عبد السلام ـ فمترجمنا أبو الفضل المغربي له فضيلة السبق في الميدان – فضيلة قل من يتوفر عليها من علماء الشعوب ومثقفيها، وقد نسخ أبو الفضل الإحياء ثلاثين جزءا وكان كل يوم من رمضان يقرأ جزء قائلا: وددت أني لم أنظر في عمري سواه)”.[9]

   كان ابن النحوي شخصا خلوقًا، متواضعا، طيب النفس، فصيح الكلام، يقول تلميذه ابن حرزهم: “كان أبو الفضل يلبس البياض فدخل عليه شاب من طلبة العلم فبادر أن يسلم عليه فأراق الحبر على ثوب أبي الفضل فخجل الطالب فقال له أبو الفضل مزيحا عنه الخجل: كنت أقول أي لون أصبغ به هذا الثوب، فالآن أصبغه حبرياً، فجرده وبعث به إلى الصباغ، وببركة دعائه انتفع علي ابن حرزهم”.[10]

    ولابن النحوي قصيدة شعرية مشهورة شاعت في المغرب والمشرق، المعروفة عند صوفية المغرب بالمنفرجة حيث يبدأ فيها بقوله:

 

اشتَدَّي أزمَـةُ تَنفَرِجي
وَظَلامُ اللَّيل ِ لَهُ سُرُجٌ
وَسَحَابُ الخَيرِ لَهَا مَطَر
  قَـد آذَنَ لَيلُكِ بِالبَلَـجِ
حَتّى يَغشَاهُ أبُو السُرُجِ
فإَذَا جَاءَ الإِبّانُ تَجي[11]

ويقول في قصيدة أخرى:

عطاء ذي العرش خير من عطائكم
أنتم يكدر مــا تعطون مَنُّكُــم
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا
وقلت يا سيدي يا منتهى أملــي

  وسَيْبُه واسعٌ يُرجى ويُنتَظَـرُ
والله يُعطى فلا مَنَّ ولا كدَرُ[12]
وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد
يا من بكشف الضر اعتمد[13]

   توفي الشيخ أبي الفضل سنة 513هـ/ 1119م  بقلعة بني حماد بالمسيلة، فقبره هناك بجانب باب القلعة الغربي وما تزال هناك قرية صغيرة تحمل اسم الشيخ.

 

الهوامش: 

[1] -الأضواء البهجة في إبراز دقائق المنفرجة، زكرياء الأنصاري، تحقيق: هشام حيجر الحسني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1/2010، ص:19.

[2]– نيل الابتهاج، أحمد بابا التنبكي، تحقيق: على عمر، ط1/2004، مكتبة الثقافة الدينية،2/319/322.

[3]– جذوة الاقتباس، أحمد ابن القاضي المكناسي، دار المنصور للطباعة والوراقة-الرباط، 1973، مكتبة مروان العطية، ص:552/553.

[4]– الأضواء البهجة، ص: 19.

[5]– نيل الابتهاج:2/320.

[6]– نيل الابتهاج 2/323.

[7]– الأنيس المطرب، علي بن أبي زرع الفاسي،راجعه: عبد الوهاب بنمنصور، ط3/1999م، المطبعة الملكية، ص:42.

[8]–  التشوف إلى رجال التصوف، ابن الزيات يوسف ابن يحيى التادلي، تحقيق: عمر علي، مكتبة الثقافة الدينية، ط1/2007، ص: 78.

[9]– مقتطف من مقال أبو الفضل يوسف ابن النحوي المغربي، لعبد الله الجراري  من مجلة دعوة الحق، العدد الثاني- السنة العاشرة-دجنبر 1966، ص:114.

[10]– جذوة الاقتياس ص: 553.

[11]– الأضواء البهجة، ص ص:39-49.

– بغية الوعاة السيوطي، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 2/349..[12]

[13]– نيل الابتهاج، 2/323.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق