مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةأعلام

ابن العريف أَحْمَدُ بنِ عَطَاءِ اللهِ الصِّنْهَاجِيُّ (481ﮪ-536ﮪ)

   هو عَلمٌ شامخ في سجل أعلام المغرب والأندلس، ونجم ساطع في سماء أهل الزهد والتصوف، يُعد من مشاهير أولياء المغرب المتشبعين بالعلم والعمل، والمعروفين بالتقوى والورع، أسال حِبرَ الكَثيرِ من المترجمين والمؤلفين في مناقبه وحُسن سيرته، وفاضت في وصفه ومدحه قَريحةُ العديد من العلماء والشيوخ والشعراء…، عالم جليل، وعارف رباني سَنيّ، اعتُبر من قِلّة القِلّة الأكابر، ومن أجّل علماء قرنه الأفاضل.

   إنه “ابْنُ العَرِيْفِ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُوْسَى بنِ عَطَاءِ اللهِ الصِّنْهَاجِيُّ الإِمَامُ، الزَّاهِدُ، العَارِفُ،  المَرِيِّيُّ، المُقْرِئُ، صاحب المَقاماتِ والإِشاراتِ.،”[1] وُلد سنة481ﮪ، (بألمرْيَة) “العاصمة الروحية لجميع صوفية الأندلس، ومركزا مهما من مراكز التصوف بها”،[2] وقد ذكر ابن الأبار في (معجم أصحاب الإمام الصدفي)، أنّ “أصل أبيه من طنجة…، نشأ وقد مسّته الحاجة فرفعه أبوه في صِغره إلى حائك يعلمه، وأبى هو إلا تَعلُّم القرآن والتعلق بالكتب، فكان ينهاه والده ويُخوَفه، ودار له معه ما كاد يُتلفه إلى أن تركه لقصده”،[3] والمعروف أن ابن العريف “دَرَس على مشاهير علماء طنجة، فبرز في الحديث واللغة والأدب”،[4] حيث عاصر كبار العلماء والشيوخ في عصره وصَحبهم، وأخذ عنهم مَصلَ العلوم ولُقاح الفُهوم، أمثال: “حُجة الإسلام أبو حامد الغزالي، -الذي تأثر بطريقته- والقاضي أبو بكر محمد بن العريف، ومحمود الزمخشري، والإمام المازري، وأبو بكر الطرطوشي وغيرهم”.[5]

   كما ذكر الذهبي في كتابه السير العديد من شيوخه في العلم”كأبي الحسن البَرجيَّ، ومحمد بن الحسن اللَّمغاني، وأبا الحسن بن شفيع المقرئ، وخَلَف بنَ محمد العُرَيبي، وأبى بكر بن الفصيح، واختص بِصُحبة أبي بكر عبد الباقي بن محمد بن بُريال”،[6] وغيرهم ممن أسهموا في سمو قدره، وثِقل سِجلّه المعرفي، ناهيك عن الشيوخ الكبار الذين أخذ عنهم علم التصوف “كالشيخ ابن برجان، عن أبي بكر بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري، عن أبي محمد أحمد بن محمد المعارفي عن أبي سعيد أحمد بن الأعرابي عن شيخ الطريقة أبي القاسم الجُنيد”.[7]

   وممن روى عنهم ابن العريف: “أبو خالد يزيد مولى المعتصم، وأبو بكر عمر بن أحمد بن رزق، وأبو بكر عمر بن أحمد رِزق، وأبو محمد عبد القادر بن محمد القرَوي…، وكانت عند ابن العريف مشاركة في العلم وعناية بالقراءات وجمع الروايات واهتمام بطرقها وحملتها…، وكان متناهيا في الفضل والدين، منقطعا إلى الخير، وكان العُبّاد وأهل الزهد في الدنيا يقصدونه ويألفونه فيحمدون صحبته”،[8] حتى أمسى عَلما عاليًا شامخًا، يتوارى عن الشهرة، لا يُحبذ الجاه، ولا كثرة المال، بل التواضع، ومجاهدة النفس، بالتقرب إلى الله والتّذلل إليه، والتحلي بالعلم والأخلاق.

   أخذ ابن العريف من صنوف العلوم من حديث، وتفسير، ورواية، وتجويد، وقراءة الشيء الكثير، فأبهر خاصة الناس وعامتهم ممن عاصروه وترجموا له، لما تَحمل جُعبته من العلوم والمعارف والفنون، ولما له من مكارم الأخلاق والصفات والمحاسن، يقول التنبكتي: “كان من المحدثين والقراء المجودين، ثم غلب عليه الورع والإيثار، فأصبح من أعلام التصوف ورجال الكمال”.[9]

   قرأ ابن العريف القرآن على يد “أبي الحسن البرجني بألمرية، وعلى أبي القاسم ابن النخاس، و أبي جعفر الخزرجي بقرطبة، وسمع الحديث عن أبي علي الصدفي، وروى كتاب (الفصوص) لصاعد عن أبي محمد الركلي عن أبي مروان عن ابن حيان عنه…، وتصدر بألمرية وقد قرأ بسرقسطة، وولى الحسبة”،[10] أما قراءته بالروايات، فكانت على يد أجلاء عصره من القُراء والرواة “… من أصحاب أبي عَمرو الداني…، وقد لبس الخرقة من أبي بكر عبد الباقي المذكور آخر أصحاب أبي عُمر الطَّلَمَنْكِيِّ”.[11]

أنشد له ابن عبد البر صاحب كتاب الإعلام أبيات يقول فيها:

أبا العباس قد حازت كمالا

تناهيت اكتساباً للمعــالي

وصَلت ابن العريف إلى مقام

مآثركم كُرمت بهـا فعالا

وأهل الفضل فُقتَهم كمالا

به حازت مآثركم جلالا.[12]

جمع ابن العريف رحمة الله عليه في تناسق فريد بين علوم الشريعة وعلوم الحقيقة، و واكب ركب الزهاد والأئمة الكبار، حتى لُقب بـ: “إمام الزهد”، واعتُبر أيضا “من أول المفسرين لتصوف الغزالي بالمغرب، وتسمية أصحابه بأتباع الطريقة الغزالية”،[13] يقول إبراهيم السملالي: “فقيه زاهد إمام في الزهد، عارف محقق”،[14] ويقول التنبكتي: “فقيه زاهد، عارف محقق…كان يكتب سبعة خطوط لا يشبه بعضها بعضا”.[15]

   لقد كان نَضم ابن العريف لقصائده الشعرية في الثناء ومدح خير البرية محمد عليه أزكى الصلاة والسلام، مُتنفسا وجدانيا، وفضاءً روحيا، فاض بشذى ذكره، وكثرة الصلاة عليه، مُعَبَّرا من خلاله عن حبه، وشوقه لنبيٍّهِ، وتعظيمه لرسالته، وواصفا لأخلاقه وشمائله.

     يقول في إحدى قصائده المدحية.

شَدّوا الرحال وقد نالوا المُنى

نسيمُ قبـر المصـطفى لهم

 وكـلهم بأليم الشـوق باحـا

روح إذا سَكروا من ذِكره فاحا

     ويقول أيضا:

وحقك يا محمد إن قلبــي
جَرت أمواج حبك في فؤادي

يحبك قُربة نحو الإلــــه
فهام القلب في طيب الميــاه

وعن قيمة العلم يقول:

من لم يُشافهْ عالما بأصُوله
الكتب تَذكرة لمن هوعالـم

فيقينه في المشكلات ظنون
وصوابها بمحالها معجون
[16]

   لقد عُرف رحمة الله عليه “بالكرامات المستطابة، والدعوات المستجابة، ولما كان ببلده ألمرية على أحواله الحسنة المرضية في الجد والاجتهاد، وملازمة الأذكار والأوراد، وصُحبة العُباد والزهاد، غار منه قاضي ألمرية المعروف بابن الأسود، وحَمَلَهُ مَقت الحسد على أن كتب للخليفة بمراكش علي يوسف ابن تاشفين، وكان أمْرُ الأندلس إليه، وخوّفه في الكتاب من حال ابن العريف، فكتب الخليفة لعامله بألمرية أن ابعث إلينا ابن العريف، فأمر به العامل فأُدخل في القارب ليخرج به في البحر إلى سبتة، فأشار القاضي على العامل بتكبيله فكبّله، فلقيَه العدو في البحر فحمله أسيرا، فلما وصل إلى سبتة وافاه رسول السلطان بالأمان، وأن تُحَل قيوده ويُسرّح، فوصل إلى مراكش وأقبل عليه السلطان وعظمه وأبان حقه وأكرمه وسأله عن حاجاته، فقال: ليس لي حاجة إلى أن تُخلي سبيلي وأذهب حيث شئت، فأذن له في ذلك، فلما خاب سعي ابن الأسود فيما أراده في فساد ابن العريف، تحيّل عليه أن جعل له سُمّا في الطعام فأكله ابن العريف فمات”،[17]  قال ابن إسحاق: “فلما عَلِم السلطان بما كان من القاضي ابن الأسود في جانب ابن العريف قال: لأعذبنّهُ ولأسمنّهُ كما فعل بابن العريف، فبعثه إلى سوس الأقصى وأمر أن يُسقى سُمّا هنالك، فامتثل ما أُمر به فمات هنالك”،[18] دفن رحمة الله عليه “في الجامع القديم بوسط مراكش في روض القاضي عياض موسى بن حماد الصنهاجي سنة 536ﮪ”.[19]

الهوامش:


[1]– سير أعلام النبلاء، تصنيف: الإمام الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، و محمد نعيم العرقسوسي، مؤسسة الرسالة، ط1/1401ﮪ-1981م، 20/112.

[2]– بحوث في التصوف المغربي، حسن جلاب، ط1/1995- المطبعة والوراقة الوطنية- مراكش، ص: 15.

[3]– الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، العباس بن إبراهيم السملالي، مراجعة، عبد الوهاب ابن منصور، ط2/1993م، المطبعة الملكية، الرباط، 2/6.

[4]– بحوث في التصوف المغربي، ص: 10.

[5]– المطرب بمشاهير أولياء المغرب، تأليف عبد الله بن عبد القادر التليدي، دار الأمان الرباط، ط4/2003م، ص: 32.

[6]– سير أعلام النبلاء، 20/111-112.

[7]– بحوث في التصوف المغربي، ص: 16.

[8]– كتاب الصلة، أبو القاسم خلف بن بشكوال، اعتنى به ووضع فهارسه: صلاح الدين الهواري، المكتبة العصرية-بيروت، ط1/2003م، ص: 81-82.

[9]– نيل الابتهاج، أحمد بابا التنبكتي، تحقيق: علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، ط1/2004م، 1/62.

[10]– الإعلام، ص: 2/6.

[11]– سير أعلام النبلاء، ص: 20/113.

[12]– الإعلام، ص: 2/13.

[13]– بحوث في التصوف المغربي، ص ص: 11-12.

[14]– الإعلام، ص: 2/6.   

[15]– بغية الملتمس، الضبي أحمد بن عميرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008، القاهرة، ط2، ص: 166.

[16] – الإعلام، ص: 2/17.

[17]– المصدر السابق، ص: 10.

[18]– التشوف إلى رجال التصوف، ابن الزيات يوسف ابن يحيى التادلي، تحقيق: عمر علي، مكتبة الثقافة الدينية، ط1/2007، ص ص: 99.

[19]– المصدر السابق، ص: 99.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق