مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

إمام المحققين سيدي محمد بن محمد الحراق (الحلقة الأولى)

يعد الشيخ الحراق أحد أبرز أعلام الفكر الصوفي المغربي، وأحد أعمدة المدرسة الصوفية الشاذلية، كان بحرا زاخرا في العلم، وجبلا راسخا في المعرفة.

وضمن سلسلة التعريف بأعلام شعراء الصوفية سأقدم نبذة عن الشيخ سيدي محمد الحراق معرجة في ذلك على نماذج من أشعاره ونثره وبعض مضامين شعره.  

اسمه ونسبه:

هو الشيخ محمد بن محمد بن عبد الواحد بن يحيى العلمي الشاذلي الدرقاوي الشهير بالحراق شاعر صوفي من فقهاء المغرب.[1]. والحراق أسرة شريفة عَلَمِية من ذرية موسى بن مشيش أخي الشيخ عبد السلام بن مشيش الولي الشهير، مسقط رأسها الأول قبيلة بني عروس (من إقليم العرائش الآن) ثم انتقل أفرادها إلى مدينة شفشاون ومنها إلى تطوان وغيرها. ومن الجدير بالذكر أن هناك عائلتين تحملان هذا الاسم وليستا منها، إحداهما من قبيلة أهل سريف قرب مدينة القصر الكبير استوطنت تطوان مؤخرا، والأخرى بقبيلة بني حزمار قرب تطوان استوطنت تطوان قديما تنتسب إلى الشرف ولكنها توزعت فيه.[2].

مولده ونشأته:

انتقل أجداده من قبيلة بني عروس إلى شفشاون، وبها ولد عام  1186هـ/1772م وأخذ مبادئ العلوم فيها، وبهذه المدينة نشأ وحفظ القرآن الكريم، ثم اشتغل ببعض الحرف إلى أن جاوز العشرين من عمره فانكب على قراءة العلم ببلده، ثم شد الرحلة لمدينة فاس ليلتحق بجامعة القرويين [3] فأخذ عن علمائها ورجع منها إلى تطوان فاستوطنها وتعاطى بها الإمامة والخطابة والفتوى والتدريس. لكن بعض منافسيه من أقرانه حسدوه فدبروا له مكيدة مستعينين ببعض سكان حي العيون حيث المسجد الذي كان يخطب به، انتهت بعزله عن جميع الوظائف، فتغير مزاجه، وفسد دمه، ومرض مرضا أشرف منه على الهلاك، أنشأ فيه قصيدته الهمزية يتوسل فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم مستشفيا، وبعد شفائه من المرض تصوف، وذهب إلى الشيخ العربي الدرقاوي بقبيلة بني زروال وأخذ عنه سنة 1228، فرضيه الشيخ وأذن له في إعطاء الورد والدعوة إلى الطريق.[4].

عاد الشيخ الحراق إلى تطوان، وتصدر للتلقين والتربية، فأقبل الناس عليه بالرغم من عداء الفقهاء له، كان رقيق الطبع شاعرا متفننا زجالا، عازفا على العود، حافظا لأزجال الموسيقى الأندلسية وصنائعها، يأخذ بعض ما يروقه من مقطعاتها وتواشيحها فيعارضه بمثله في نفس صوفي ويستعملها بالعزف، كما نظم أزجالا رقيقة مازالت تستعمل في طرب الآلة إلى الآن.[5]

شيوخه وتلامذته:

أخذ العلم عن جماعة من الشيوخ، وطريقة التصوف عن الشيخ مولاي العربي الدرقاوي، وكان أخذه عنه سنة ثمان وعشرين ومائتين وألف، وهو إذ ذاك ابن أربعين سنة أو نحوها [6]، وعن تلامذته قال الفضيلي في الدرر البهية: وله أتباع في سائر الجهات والبقاع، وانتفع به خلق كثير، وجمع كبير، تلمذ له فحول العلماء وأهل النباهة والشأن العظماء كالفقيه العلامة، خاتمة المحققين وعمدة المتأخرين أبي عيسى السيد المهدي بن الطالب ابن سودة المري ثم الغرناطي النجار الفاسي الدار والمنشأ والقرار، وأخيه الفقيه العلامة الخير الصالح أبي حفص السيد عمر بن الطالب، وأخيهما الفقيه المحدث المتقن سيدي محمد بن الطالب، وكالشيخ المربي الخير السيد الخضر الشجعي وغيرهم، وظهرت عليهم بركته وسره، توفي بتطوان وقبره هناك شهير، وله زاوية بفاس ودار لسكنى الفقراء وهي التي دفن بها السيد الخضر المذكور بحومة المخفية، ومنهم ولده البركة السيد الحسين الكفيف، كان رحمه الله آية كبرى، توفي بتطوان وأقبر بإزاء أبيه، ومنهم بفاس الشريف البركة الزاهد العابد القانت الذاكر السيد الحاج أحمد بن الطيب كان رحمه الله من الملازمين للأذكار العابدين بالأسحار، لازم ضريح القطب مولانا ادريس الأزهر مدة مديدة وأعواما عديدة، إلى أن توفي سنة عشر وثلاثمائة وألف. [7]

ومنهم أخوه المسن البركة الخير العابد الذاكر أبو محمد السيد عبد السلام، توفي بفاس كأخيه، [8] ومنهم الشريف البركة السيد عبد السلام بن الحسن، كان خيرا فاضلا توفي بفاس، ومنهم الشريفان الأجلان الأفضلان السيد الحسن وسيدي محمد ابنا الشريف البركة السيد أحمد، وسكنى الأول بحومة القلقليين حوز سيدي عبد القادر الفاسي، والثاني بجزاء برقوقة عدوة الأندلس، ولهؤلاء الحراقيين شهرة كافية بتلك الجبال خصوصا قبيلة سريف.[9].

تصوفه:

كان من رجال التصوف، قبل أن يكون من رجال العلم والأدب [10]، فبعد اتصاله بشيخه الدرقاوي، أقبل عليه بقلبه وقالبه، وصاحبه بظاهره وباطنه، وتخلى عن سائر أقواله وأفعاله، وتجرد عن كل أشغاله في عامة أحواله، فوجد الشيخ منه عالما مطهر السريرة، قابلا لكل ما يلقى إليه في لحظات يسيرة، إذ كانت نفسه مهذبة لانطباع الأنوار، وصدره متسعا مستشرفا لتلقي تلك الأسرار، فألقى إليه بمكنون ودائعه، ونظر إليه نظرة ملأت بحقائقها جميع عوالمه، وحصل الشيخ الحراق على مراده وملأ حقيبته من حينه بما لقنه الشيخ من أوراده. [11]

ولما غار منه بعض أصحاب الشيخ الدرقاوي وعرضوا له باللوم في هذا الفتح السريع الذي منحه الله للشيخ الحراق، أجابهم الشيخ بما هو ذائع على ألسنة الفقراء، إن الشيخ الحراق وجد فتيلة مزيتة، فلم نزد على إيقادها؛ أي إن الشيخ الدرقاوي لم يحتج مع الشيخ الحراق إلى تأديب وتهذيب وتربية.[12].

وهكذا استقر الشيخ الجليل بمدينة تطوان وقد أسبغ الله عليه من جديد نعمة العافية في الظاهر والباطن، وعاد إليه نشاطه الجسمي والروحي بما امتلأ به قلبه من حب لله، وإعراض عن زخارف الحياة الدنيا ووظائفها الصورية ومظاهرها الفارغة، فالتف حوله أنصاره الذين كان لهم من الثقة فيه والإعجاب بعلمه وأدبه ونزاهته، فأخذ يعلمهم ويرشدهم ويربيهم التربية الصوفية الصحيحة الحقيقية، التي تطهر القلوب وتصفيها من العيوب، وتجعل صاحبها عبدا مخلصا لله، محبا صادقا لرسول الله، مستحضرا في جميع أوقاته أن هذه الدنيا الفانية إنما هي قنطرة للآخرة الباقية، وأن أفضل ما يعمله المرء في هذه الحياة المؤقتة إنما هو تخصيص الله سبحانه بالعبادة واعتقاد أن النافع والضار والمحيي والمميت إنما هو الله وحده لا شريك له، وأن الخلق كلهم عيال وأن أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله وذلك كله هو لب الشريعة الإسلامية، وبهذه الحياة الجديدة للحراق أصبح من شيوخ التربية وإماما من أئمة الصوفية.[13]

ثم صارت طريقته الدرقاوية الحراقية تنتشر في مختلف مدن المغرب وقبائله، وفي مقدمة المدن مدينة فاس، إذ كان الشيخ الحراق يتردد عليها بكثرة فيتصل بالمنصفين من علمائها، ويلقي في زاويته بها من دروس التفسير لكلام الله العزيز، ما جعل كثيرا من العلماء يتلمذون له ويستفيدون من علومه.[14]

مصنفاته:

وله مؤلفات منها: ديوان سلك فيه طريقة ابن الفارض، وفيه تواشيح وأزجال  [15]، تعليقه على المشيشية وحكم ابن عطاء الله وغيرها، ورسائل كثيرة كتبها لمريديه على عادة الشيوخ، جمعها تلميذه الشيخ محمد بن العربي الدلائي الرباطي في كتابه  النور اللامع البراق في التعريف بالشيخ الحراق، توجد نسخه المخطوطة بتطوان: رقم44، وخزانة الرباط، رقم:960. وللشيخ عبد القادر الورديغي الشفشاوني تلميذ الدلائي كتاب بغية المشتاق، طبع بمصر، نقل فيه كثيرا من رسائله وأشعاره، وللشيخ تائية طويلة أودعها أفكاره وأذواقه وأشار إلى مقامه في السلوك الصوفي اشتهرت بالمغرب وغيره، شرحها تلميذه الشيخ المكي ابن سودة الفاسي، وشرحه مطبوع على الحجر بفاس، وشرحها أيضا تلميذ تلميذه هذا ابن القاضي العباسي شرحا أطول وأوفى سماه مجلي الآماق وإثمد الأحداق، يوجد مخطوطا بالخزانة الحسنية 11478. كما جمع ابن القاضي هذا نوازل وفتاوي الشيخ الحراق في جزء وتتبع تعاليقه وطرره على شرح الحطاب لمختصر خليل في جزء، يوجدان بخزانة تطوان ضمن مجموع، وتحدث التهامي الوزاني التطواني في مذكراته الصوفية المسماة: الزاوية ، عن تقاليد الزاوية الحراقية بتطوان وأخبار الطريقة وشيخها ومريديه بما لا يوجد في غيرها.[16]

وفاته:

توفي في الحادي والعشرين من شعبان سنة إحدى وستين ومائتين وألف، وكتبت في الحين الرسائل إلى جميع الجهات، فطفقت الوفود تتوارد وبقي الشيخ مسجى في كفنه يومين كاملين، واتبع الفقراء خطة أن كل مقدم من مقدمي الطريقة يدخل الغرفة ويدخل مع المقدم الفقراء الذين يترأس عليهم فيذكرون الاسم المفرد على الطريقة الحراقية وهي: لا إله إلا الله مائتي مرة وبعدها سيدنا محمد رسول الله عليه سلام الله مولانا محمد رسول الله عليه سلام الله حبيبنا محمد رسول الله ثم اسم الجلالة: الله ثلاثمائة مرة بعدها سيدنا محمد رسول الله.[17]، ودفن بتطوان بزاويته الحراقية الشهيرة به، وضريحه بها مشهور معروف مزار. [18]

أدبــه:

عندما نتحدث عن أدبه يتبادر إلى الذهن ما خلفه الرجل من آثار علمية وأدبية وإرشادات ربانية من قبيل الشعر والرسائل والحكم؛ ذلك أن أشعاره الرائعة تطرب وترقص، ويتغنى بها الناس من مختلف الطبقات، في مختلف الجهات، لأنها تعبر تعبيرا صادقا عما يحس به ذوو الشعور الحي والذوق السليم في مختلف العصور، من حب للجمال وسمو في الخيال. ورسائله التوجيهية يسترشد بها المهتدون، ويهتدي بها الضالون، ويتنبه بها الغافلون. وحكمه وكلماته تنير السبيل أمام من يريد سعادة الدنيا والآخرة.[19]. وفي هذا الصدد سنذكر نماذج من شعره.

نماذج من شعره:

وعن شعر الشيخ الحراق يقول العلامة الجليل محمد داود: «وشعر الشيخ الحراق قد سارت بذكره الركبان شرقا وغربا، ما بين عربي فصيح منه ودارج ملحون، وقد جمع في ديوان يعد من مفاخر الشعر الصوفي الراقي في بلاد المغرب» [20]، ويهمنا من أدبه شعره الصوفي في الدرجة الأولى، خصوصا منه الخمريات والغزليات، فمن ذلك القصيدة التائية الشهيرة المشتملة على نيف وخمسين ومائة بيت ومطلعها: [21]

أَتَطْلُبُ لَيْلَى وَهْيَ فِيكَ تَجَلَّتِ *** وَتَحْسِبُهَا غَيْرًا وَغَيْرَكَ لَيْسَتِ

ومن أبياتها قوله: [22]

بَدِيعَةُ حُسْنٍ لَوْ بَدَا نُورُ وَجْهِهَا*** إِلَى أَكْمَهٍ أَضْحَى يَرَى كُلَّ ذَرَّةِ

فَدَعْ عَاذِلِي فِيهَا المَلَامَ فَإِنَّمَا*** عَذَابِي بِهَا عَذْبٌ وَنَارِيَ جَنَّتِي

أَبَاحَ لِيَ الخَمَّارُ مِنْهُ تَفَضُّلًا*** جَنَاهَا، فَصَارَ الشُّرْبُ دِينِي وَمِلَّتِي

فَإِنْ شِئْتُهُاَ صِرْفاً شَرِبْتُ، وَإِنْ أَشَا*** مَزَجْتُ، لِأَنَّ الكُلَّ فِي طَيِّ قَبْضَتِي

شَرِبْتُ صَفَاءً فِي صَفَاءٍ فَمَنْ يُرِدْ*** مِنَ القَوْمِ شُرْبًا لَمْ يَجِدْ غَيْرَ فَضْلَتِي

تَقَدَّمَ لِي عِنْدَ المُهَيْمِنِ سَابِقٌ*** مِنَ الفَضْلِ وَاسْتَدْعَاهُ حُكْمُ المَشِيئَةِ

فَلِي عِزَّةُ المُلْكِ القَدِيمِ لِأَنَّنِي*** بِعِزَّةِ رَبِّي فِي العَوَالِمِ عِزَّتِي

وَخَمْرِي أَثَارَتْ فِي الجَمِيعِ ضِيَاءَهَا*** وَحَقًّا بِأَنْوَاعِ الوُجُودِ اسْتَبَدَّتِ

مُدَامٌ تُزِيلُ الهَمَّ وَهْيَ بِدَنِّهَا*** وَيَنْشَطُ كُلُّ الكَوْنِ مِنْهَا بِنَفْحَةِ

إلى أن يقول: [23]

إِذَا شِئْتَ أَنْ تَلْقَى السَّعَادَةَ وَالمُنَى*** وَتَبْلُغَ مَا عَنْهُ الرِّجَالُ تَوَلَّتِ

فَطَهِّرْ بِمَاءِ الذِّكْرِ قَلْبَكَ جَاهِدًا*** بِصِدْقِ اللَّجَا وَاغْسِلْهُ مِنْ كُلِّ عِلَّةِ

وَمَكِّنْ بِكَفِّ الشَّرْعِ أَمْرَكَ كُلَّهُ***فَدُونَكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلِ البَابُ سُدَّتِ

وَدَعْ مَا مَضَى إِنْ تُبْتَ لَا تَكْتَرِثْ بِهِ*** وَلَا تَلْتَفِتْ فِي طَاعَةٍ لِمَثُوبَةِ

فَسِرْ فِي أَمَانِ اللهِ لِلْحَقِّ مُسْرِعًا*** وَكُنْ مُعْرِضًا عَنْ ذِي الأُمُورِ الشَّنِيعَةِ

كَحِرْصٍ عَلَى مَالٍ وَحُبِّ وِلَايَةٍ*** وَكَثْرَةِ أَصْحَابٍ وَنَيْلِ المَزِيَّةِ

إلى أن يقول: [24]

فَمَنْ حَفَّهُ نُورُ الرَّسُولِ يَخُوضُ مِنْ*** بِحَارِ شُهُودِ الذَّاتِ فِي كُلِّ لُجَّةِ

وَتُنْهَى إِلَيْهِ فِي الآنَامِ رِيَاسَةٌ*** قَدِ اسْتَسْفَلَتْ فِي عِزِّهَا كُلَّ رُتْبَةِ

وَمَنْ قَدْ أَتَى مِنْ غَيْرِ نُورِ مُحَمَّدٍ*** فَأَقْدَامُهُ في مَهْوَةِ الغَيِّ زَلَّتِ

يَرُومُ دُخُولَ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ بَابِهَا*** وَيَطْلُبُ هَدْيًا بِالأُمُورِ المُضِلَّةِ

ويقول الحراق في الخمرة الأزلية: [25]

تَرَاهَا بِحَشْوِ الكَأسِ، وَهْيَ زُجَاجَةٌ*** وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِيِه لَذَابَ بِسُرْعَةِ

بِهَا هُوَ مَمْسُوكٌ، وَقَدْ مُسِكَتْ بِهِ*** تَلَوُّنُ كَأسِي مِنْ تَلَوُّنِ خَمْرَتِي

تَلَطَّفَ مِنْهَا إِذْ سَرَى مِنْهُ نُورُهَا*** فَتَحْسِبُهَا شَمْسًا عَلَى البَدْرِ دَرَّتِ

وَمِنْ عَجَبٍ كَأسٌ هُوَ الخَمْرُ عَيْنُهَا*** وَلَكِنَّهُ يَبْدُو عَلَى شَكْلِ دُرَّةِ

فَيَحْسِبُهُ الرَّاءُونَ غَيْرَ مُدَامَةٍ*** لِشِدَّةِ آفَاتٍ بِعَيْنِ البَصِيرَةِ

وفي وصف الخمر ذكر محمد داود أن للشيخ الحراق قصيدة يصف الخمر وآنيتها وشاربها، خمرة الصوفية بأوصاف بديعة [26] يقول: [27]

تَلُومُ بِالنَّوْكِ فِي الصَّهْبَاءِ مَنْ نُسِخَتْ*** مِنْهُ الحَقِيقَةُ فَهْوَ الآنَ صَهْبَاءُ

أَنَا السَّفِيهُ إِذَا تَرَكْتُهَا أَبَدًا*** لِأَنَّهَا الرُّوحُ وَالكِيزَانُ أَعْضَاءُ

بِهَا انْبَسَطْنَا مَعَ الأَحْبَابِ إِذْ نُشِرَتْ*** مِنْهَا عَلَى عَالَمِ الأَكْدَارِ سَرَّاءُ

مَا ضَيَّعَ الحَزْمَ مَنْ أَضْحَى بِهَا ثَمِلًا*** قَدْ أَمْطَرَتْهُ بِمَاءِ البَسْطِ أَنْوَاءُ

يَهُزُّ بِالرَّقْصِ مِنْ أَعْطَافِهِ فَرِحًا*** أَيَّامُهُ أَبَدًا بِالرَّاحِ خَضْرَاءُ

شَمْسٌ مَتَى سَطَعَتْ فِي عَقْلِ شَارِبِهَا*** يَصِيرُ ذَاتًا لَهَا الأَكْوَانُ أَسْمَاءُ

إِذْ تَذَهَّبَ مِنْهَا الكَأْسُ نَضَّدَهُ*** دُرُّ الحَبَابِ فَلَوْنُ الكُلِّ لَأْلَاءُ

بِالعَرْفِ قَدْ عَرَّفَ الحُدَّاقُ حِدَّتَهَا*** مِنْ دَاخِلِ الدَّنِّ ذَوْقًا وَهْيَ عَذْرَاءُ

وقال في التغزل في الحضرة وهي أبيات يتغنى بها الصوفية كثيرا وخصوصا في حالة العمارة:[28]

أَمَاطَتْ عَنْ مَحَاسِنِهَا الخِمَارَا*** فَغَادَرَتِ العُقُولَ بِهَا حَيَارَى

وَبَثَّتْ فِي صَمِيمِ القَلْبِ شَوْقًا*** تَوَقَدَّ مِنْهُ كُلُّ الجِسْمِ نَارَا

وَأَلْقَتْ فِيهِ سِرًّا ثُمَّ قَالَتْ*** أَرَى الإِفْشَاءَ مِنْكَ اليَوْمَ عَارَا

وَهَلْ يَسْطِيعُ كَتْمَ السِّرِّ صَبٌّ*** إِذَا ذُكِرَ الحَبِيبُ لَدَيْهِ طَارَا

بِهِ لَعِبَ الهَوَى شَيْئًا فَشَيْئًا*** فَلَمْ يَشْعُرْ وَقَدْ خَلَعَ العذَارَا

إِذَا يَبْدُو امْرُؤ مِنْ حَيِّ لَيْلَى*** يَذِلُّ لَهُ وَيَنْكَسِرُ انْكِسَارَا

وَلَوْلَاهَا لَمَا أَضْحَى ذَلِيلًا*** يُقَبِّلُ ذَا الجِدَارَ وَذَا الجِدَارَا

أَبَاحَتْ وَصْلَهَا لَكِنْ إِذَا مَا*** غَدَوْنَا مِنْ مُدَامَتِهَا سُكَارَى

شَرِبْنَاهَا فَلَمَّا أَنْ تَجَلَّتْ*** نَسِينَا مِنْ مَلَاحَتِهَا العُقَارَا

وَكَسَّرْنَا الكُؤُوسَ بِهَا افْتِتَانًا*** وَهِمْنَا في المُدِيرِ فَلَا مُدَارَا

وَصَارَ السُّكْرُ بَعْدَ الوَصْلِ صَحْوًا*** وَأَيْنَ السُّكْرُ مِنْ حُسْنِ العَذَارَى

وقال أيضا في أدب الخدمة: [29]

لَازِمْ هَوَاكَ وَلَا تَجْزَعْ مِنَ التِّيهِ*** فَالوَصْلُ وَالهَجْرُ كُلٌّ مِنْ مَعَانِيهِ

وَاصْبِرْ إِذَا أَظْهَرَ المَحْبُوبُ عِزَّتَهُ*** فَالحُبُّ لِلْحِبِّ حَقًّا مَنْ يُوَاتِيهِ

فَسِيمَةُ الصِّدْقِ مِنْكَ أَنْ تُرَى فَرِحًا*** بِكُلِّ حَالٍ لَكَ المَحْبُوبُ يُبْدِيهِ

وقال رحمه الله:[30]

مَا لِلْعَذُولِ غَدَا بِاللَّوْمِ يُوذِينِي*** أَلَيْسَ يَعْلَمُ فِي نَهْجِ الهَوَى دِينِي

إِنِّي عَلَى مَذْهَبٍ فِي الحُبِّ لَوْ عَدَلَتْ*** فِيهِ البَرِيَّةُ لَمْ تَكُنْ لِتَلْوِينِي

صُبِغْتُ فيِهِ بِأَلْوَانٍ بَلَغْنَ إِلَى*** عَقْلِي فَمَا يُرْتَجَى كَشْفٌ لِتَلْوِينِي

لَقَدْ رَضِيتُ بِذُلِّي فِي مَحَبَّتِهِمْ*** وَإِنْ دُعِيتُ بِهِ مِنَ المَجَانِينِ

وقال في الوقوف بين يدي المولى الكريم: [31]

وَأَحْسَنُ أَحْوَالِي وُثُوقِي بِفَضْلِكُمْ*** وَأَنِّي عَلَى أَبْوَابِكُمْ أَتَمَلَّقُ

فَلِلَّهِ مَا أَحْلَى السُّؤَالَ لِفَاضِلٍ*** عَظِيمِ النَّدَا مِنْهُ العَطَاءُ مُحَقَّقُ

فَلَا عَفْوُهُ عَنْ زَلَّتِي مُتَقَاصِرٌ*** وَلَا فَضْلُهُ عَنْ فُسْحَةِ القَصْدِ ضَيِّقُ

لَهُ خُلُقٌ أَنْ لَا يُخَيِّبَ سَائِلًا*** وَجُودٌ بِهِ كُلُّ العَوَالِمِ يَغْرَقُ

فَلُذْ بِالَّذِي يَبْغِي المُلِحَّ لِفَضْلِهِ*** وَيَغْضَبُ إِنْ عَنْهُ العُفَاتُ تَفَرَّقُوا

وَعُذْ بِالَّذِي يَسْتَحْقِرُ الكَوْنَ كُلَّهُ*** عَطَاءً إِذَا القُصَّادُ بِالبَابِ حَلَّقُوا

وَكُنْ سَاكِنًا يَا صَاحِ إِنْ كُنْتَ كَيِّسًا*** إِلَيْهِ وَدَعْ مَنْ بِالسِّوَى يَتَعَلَّقُ

فَذُو فَاقَةٍ وَاللهِ لَيْسَ بِنَافِعٍ*** لِذِي فَاقَةٍ إِذْ فَقْرُهُ بِهِ مُحْدِقُ

وَدَاوِمْ عَلَى ذِكْرِ الغَنِيِّ حَقِيقَة*** تَكُنْ ذَا غِنًى فَالطَّبْعُ للطَّبْعِ يَسْرِقُ

وَلَا تَعْدُ عَنْهُ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا*** فَمَنْ يَعْدُ عَنْهُ فَهْوَ وَاللهِ أَحْمَقُ

وقال أيضا: [32]

يَا مَالِكًا قَدْ عَزَّ فِي سُلْطَانِهِ*** وَتَقَاصَرَ الكُرَمَاءُ عَنْ إِحْسَانِهِ

عَفْوًا عَلَى عَاصٍ أَتَى  مُتَفَرِّدًا*** عَنْ أَهْلِهِ طُرًّا وَعَنْ إِخْوَانِهِ

كُلٌّ قَدْ اَسْلَمَهُ وَلَمْ يَبْقَ الرَّجَا*** لِلْعَبْدِ إِلَّا فِيكَ لَا أَعْوَانِهِ

وقال في ذكر الله والذاكرين: [33]

ذِكْرُ الإِلَهِ بِهِ يُنَالُ رِضَاهُ*** وَيَزُولُ عَنْ بَصَرِ الفُؤَادِ عَمَاهُ

كَمْ قَدْ سَمَا بِدَوَامِهِ مِنْ مُخْلِصٍ*** فِيهِ فَأَشْرَقَ فِي الوُجُودِ سَنَاهُ

عَلِقَتْ بِهِ الأَكْوَانُ لَمَّا أَنْ غَدَا*** هُوَ نَاظِرًا مِنْهَا إِلَى مَوْلَاهُ

أَضْحَى غَنِيًّا بِالإِلَهِ عَن الوَرَى*** يَا سَعْدَ مَنْ أَغْنَاهُ مَا أَغْنَاهُ

وله من التوشيحات والأزجال ما يعجب ويطرب أهل الفن، فمن ذلك قوله: [34]

قَبْلَ خَمْرِ الدِّنَان*** وَالكُرُومْ وَالعَصْرِ

أَشْرَقَتْ فِي الجِنَانْ*** شَمْسُ هَذَا الخَمْر

كَمْ لِهَذِي الشُّمُوسْ*** فِي القُلُوبِ مِنْ أَسْرَارْ

لَوْنُهَا فِي الكُؤُوسْ*** يَحْكِي ضَوْءَ النَّهَارْ

لَوْ رَأَتْهَا المَجُوسْ*** مَا اصْطلَتْ قَطُّ نَارْ

وَرْدَةٌ كَالدِّهَانْ*** لِلْعَلِيل تُبْرِي

شُرْبُهَا لِي أَمَانْ*** مِنْ شُهُود غيرِي

وقوله في الشهود وفي ربط الحس بالمعنى، واندراج الكون في الكائن: [35]

بَخَّرْتُ بِالطِّيبِ عِنْدَ ذِكْرِيَ ايَّاهُ*** مِنْ شِدَّةِ الحُبِّ تَعْظِيمًا لِعَلْيَاهُ

فَهَبَّ مِنْهُ نَسِيمٌ قَدْ عَرَفْتُ بِهِ*** أَنَّ الّذِي فَاحَ مِنْهُ الطِّيبُ مَعْنَاهُ

فَصِرْتُ إِذْ ذَاكَ فِي عَيْنِ اليَقِينِ أَرَى*** أَنْ لَيْسَ فِي الكَوْنِ بِالتَّحْقِيقِ إِلَّا هُو

وقوله في لذة المعرفة: [36]

مِنْ شِدَّةِ الأَشْوَاقْ* لِبَهْجَةِ الأَوْطَانْ*** أَمُرُّ فِي الأَسْوَاقْ*وَأَنَّنِي نَشْوَانْ

بِخَمْرَةٍ لِلْكَأس*** تُقَرَّبُ الأَفْرَاحْ

حَتَّى يَغِرَ الآسْ*** مِنْ رَوْضِهَا بِالرَّاحْ

وَهَلْ يُدَاوِي الآسْ*** كَمَا تُدَاوِي الرَّاحْ

تُهَذِّبُ الأَخْلَاقْ* وَتُصْلِحُ الأَبْدَانْ* وَلَوْنُهَا بَرَّاقْ* فِي سَائِرِ الأَكْوَانْ

قدمت في هذه الحلقة نبذة عن حياة الشيخ سيدي محمد الحراق رحمه الله، وسأتطرق في الحلقة اللاحقة إلى بيان مضامين شعره وبعض السمات الأسلوبية والبلاغية فيه، ورسائله في التصوف.

ــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

 [1] الأعلام، الزركلي، 7/73] [2] معلمة المغرب، قاموس مرتب على حروف الهجاء يحيط بالمعارف المتعلقة بمختلف الجوانب التاريخية والجغرافية والبشرية والحضارية للمغرب الأقصى، 10/3363.

[3] المطرب بمشاهير أولياء المغرب، عبد الله بن عبد القادر التليدي، ص: 229

[4] معلمة المغرب، 1/3363

[5] نفسه، 10/3364

 [6] سلوة الأنفاس 1/389

[7] الدرر البهية والجواهر النبوية، إدريس الفضيلي 2/97.

[8] نفسه، 2/97

[9] نفسه، 2/97-98

[10] الوافي بالأدب العربي في المغرب الأقصى، محمد بن تاويت، 3/883

[11] تاريخ تطوان، محمد داود 6/306

[12] نفسه، 6/306.

[13] نفسه، 6/306-307

[14] نفسه،6/307.

[15] الأعلام، 7/73

[16] معلمة المغرب، 10/3364

[17] تاريخ تطوان، 6/376

[18] سلوة الأنفاس، 1/389

[19] تاريخ تطوان،6/338

[20] نفسه، 6/339

[21] ديوان الحراق، ص:7

[22] ديوان الحراق، ص: 7-8-9

[23] نفسه، ص:10

[24] نفسه، ص: 12

[25] نفسه، ص: 9

[26] تاريخ تطوان، 6/340

[27] ديوان الحراق، ص: 16-17

[28] نفسه، ص: 32-33، تاريخ تطوان، 6/341

[29] نفسه، ص: 20

[30] نفسه، ص: 17

[31] نفسه، ص: 14

[32] نفسه، ص: 27

[33] نفسه، ص: 22

[34] نفسه، ص: 38

[35]  نفسه، ص: 19،  تاريخ تطوان، 6/346

[36] نفسه، ص: 37

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق