وحدة الإحياءدراسات عامة

أهمية اعتبار أسباب النزول في الخطاب الشرعي من حيث الفهم والتطبيق

إن تدبر معاني النصوص الشرعية وإدراك مقاصدها ودلالاتها، وفهم أحكامها ومداركها، والاجتهاد في وسائل تنزيلها على الواقع وتقويم الواقع بها، أمر مطلوب وواجب على المكلف بحسب الموقع والكسب العلمي والمعرفي في كل عصر، وذلك وصولا إلى إيجاد رؤية إسلامية لمستجدات الحياة وإدراك المفاتيح التي تحل مشكلات العصر، وقد نص علماء الشريعة من السلف والخلف على القواعد والضوابط الواجب اعتبارها في فهم خطاب الشارع، أهمها وأجمعها لها دلالة السياق.

يعد مصطلح السياق من المصطلحات العصية على التحديد الدقيق، فقد اختلف علماء الإسلام في تعريفه وتفاوتوا في ضبط مفهومه، فقال ابن دقيق العيد: “أما السياق و القرائن، فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه”[1] وقال السرخسي: “القرينة التي تقترن باللفظ من المتكلم، وتكون فرقاً فيما بين النص والظاهر هي السياق، بمعنى الغرض الذي سيق لأجله الكلام”[2]، وقال البناني (ت 1198ﻫ): “السياق هو ما يدل على خصوص المقصود من سابق الكلام المسوق لذلك أو لاحقه”[3].

وقد حاول بعض المتأخرين صياغة تعريف جامع للسياق انطلاقا من العناصر التي نص المتقدمون على اعتبارها ضمن مفهوم السياق، قال الدكتور ردة الله الطلحي: “يمكن تلخيص القول في مفهوم السياق في التراث العربي في النقاط الثلاث التالية: الأولى: أن السياق هو الغرض؛ أي مقصود المتكلم في إيراد الكلام… الثانية: أن السياق هو الظروف والمواقف والأحداث التي ورد فيها النص أو نزل أو قيل بشأنها، الثالثة: أن السياق هو ما يعرف الآن بالسياق اللغوي الذي يمثله الكلام في موضع النظر والتحليل، ويشمل ما يسبق أو يلحق به من كلام”[4]، وقال الدكتور طه عبد الرحمن: “السياق يقتضي عناصر مختلفة، أولاً عنصر ذاتي وهو معتقدات المتكلم وأيضا مقاصد المتكلم، ثم العنصر الثاني أسميه عنصراً موضوعياً، وهو الوقائع الخارجية التي تم فيها القول يعني الظروف الزمانية والمكانية. ثم العنصر الذي أسميه العنصر الذواتي، وأقصد به المعرفة المشتركة بين المتخاطبين”[5]، وقال الدكتور نوح الشهري بعد أن ساق مجموعة من التعريفات للسياق:” هو مجموعة القرائن اللفظية والحالية الدالة على قصد المتكلم من خلال تتابع الكلام وانتظام سابقه ولاحقه به”[6]، وأراه تعريفا جامعا لكل العناصر التي ذكرها السابقون.

إن الحديث عن دلالة السياق عند علماء المسلمين، خاصة الأصوليين، هو حديث عن المنهج الضابط لصحة الفهم الديني للنص الشرعي، وقد تركز هذا المنهج على محورين أساسين داخلي وخارجي، فالداخلي لغوي يركز في النص على بنية اللفظ مفردا ومركبا ودلالاته مع اعتبار سابق الكلام ولاحقه، والخارجي يركز على الظروف الواقعية والملابسات المحيطة بالنص من مقام مقاله من حيث الزمان والمكان، إلى حال المخاطب والغرض الذي كان السياق لأجله، وغير ذلك مما يوصف بقرائن الحال.

وتعد أسباب النزول من أهم عناصر السياق وأجمعها خاصة في فهم النص القرآني، وهي على الصحيح أعم من أن تكون أثرا منقولا في دواوين السنة، فيدخل فيها كل ما يتصل بنزول الآيات وورود الأحاديث من القضايا والحوادث سواء في ذلك قضايا المكان أو حوادث الزمان التي صاحبت ورود النص الشرعي، قرآنا وسنة، يقول الشاطبي موضحا فائدة أسباب النزول بمعناها العام المرتبط بالسياق وتلازم الصلة بين السياق وأحوال التنزيل: “إن المساقات تختلف باختلاف الأحوال، والأوقات والنوازل، وهذا معلوم في علم المعاني والبيان”[7]، واعتبر معرفة أسباب النزول من الضوابط المعول عليها في الفهم، فقال: “معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:

 أحدهما؛ أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حاله، وبحسب مخاطبيه، وبحسب غير ذلك.. ومعرفة الأسباب رافعة كل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب ولا بد، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال.

وينشأ عن هذا الوجه: الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع..”[8] وقال السعدي: “النظر لسياق الآيات، مع العلم بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته مع أصحابه وأعدائه وقت نزوله من أعظم ما يعين على معرفته وفهم المراد منه”[9].

فالعلم بأسباب النزول بهذا المعنى طريق مهم من طرق الفهم السديد لنصوص الشرع قرآنا وسنة، على أساس أن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب كما قال ابن تيمية رحمه الله[10].

فبمعرفة الملابسات التي سيق فيها النص وجاء بيانا لها وعلاجا لظروفها ينضبط المراد من كلام الشرع، ولا يزل العقل في متاهات الظنون، ولا ينزلق وراء ظاهر غير مقصود… فلابد من التفرقة بين ما هو خاص وما هو عام، وما هو مؤقت وما هو مؤبد، وما هو جزئي وما هو كلي، فلكل منهما حكمه، والنظر إلى السياق والملابسات والأسباب تساعد على سداد الفهم واستقامته لمن وفقه الله تعالى، وقد أشكل على مروان بن الحكم قوله تعالى: ﴿لا يَحْسِبَنَّ الَذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم..﴾ (ءال عمران: 188) وقال: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً، لنعذبنَّ جميعا، فبين له ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية نزلت في أهل الكتاب حين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، وأَرَوْه أنهم أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه[11].

إن المتفق عليه أن النص القرآني تنزل متفرقاً على مدى ثلاثة وعشرين عاماً. حيث كانت كل آية أو مجموعة آيات تتعلق بواقعة بذاتها أو برد على سؤال أو بتحد واجه المسلمين. فالمنهج الصحيح لتفسير النصوص القرآنية هو بإعادة ربطها بأسباب التنزيل وفهمها على ضوء خلفية الواقعة التي تنزلت بشأنها. وقد قال من قبل عبد الله بن عباس: (إنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيما نزل. فيكون لهم فيه رأي. ثم يختلفون في الآراء. ثم يقتتلون فيما اختلفوا فيه). وهذا ما حدث في كثير من بلاد المسلمين في فترات زمانية من التاريخ، حيث أفرز تعدد الفهوم للنص الشرعي الواحد خللا في المشهد الإسلامي، متنوعا في أحسن الأحوال ومتشرذما في أسوئه، وهذا الأمر أوجد بدوره خللا آخر أصاب بنية التفكير الديني في قراءة النصوص الشرعية على مستوى الاستدلال والتأويل، بله الاستنباط والتنزيل، وهو مشكل لا يزال يلقي بظلاله القاتمة على واقع الأمة وربما أيضا على مستقبلها.

لقد ميز العلماء[12] منذ القدم بين مستويين في التعامل مع النص الشرعي: بين مستوى الفهم له ومستوى التنزيل له، فكم من حكم شرعي لم يتم تنزيله وتطبيقه لتخلف محله، ولذلك فإن لعملية الفهم الديني للنص الشرعي أسسا ينبغي أن تقوم عليها لضمان إصابة الحق في ضبط مراد الشرع، كما أن لتنزيل الأحكام أسسا ينبغي أن يقوم عليها لإصابة الحق في التطبيق، وأسباب النزول والورود هي من أسس الفهم والتطبيق معا، من حيث الفهم: فهي إيضاح للمشكل، وتعيين للمبهم، وبيان للمجمل، ودفع لتوهم الحصر، أو دفع لتوهم العموم، وغير ذلك من الفوائد التي بسط العلماء القول فيها.

أما من حيث التنزيل، فإن أسباب النزول والورود تمثل المنطلق لحركة النص الشرعي في الواقع، فهي عيّنات منهجية في كيفية التطبيق والتكييف للنّص الديني ومضمون الوحي مع الواقع الإنساني، فتكسبنا بصيرة نافذة في الفهم والتنزيل، وتبقى العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما نص على ذلك جمهور الأصوليين.

وقد وقع في هذا الزمان، لبعض الناس، خلط بين هذين المستويين في الفهم للنص الشرعي، حيث ظنوا أن الفهم الذي لا يمكن تنزيله على واقع الحياة في ظرف ما ولسبب ما، يجب حتما أن يعاد فيه النظر بالتأويل أو الإلغاء، وبذلك ربطوا صحة الفهم للنص الشرعي بإمكانية التطبيق، وبالتالي تغير ذلك الفهم بتغير أحوال الإنسان، وهذا الموقف يفضي حتما إلى نقض النصوص الشرعية وتعطيلها.

وقد يستدل بعض هؤلاء بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام المجاعة، حيث لم يقم حد القطع على السارق، إذ فهموا من ذلك تعطيله لنص شرعي ثابت قطعا، والحاصل أن عمر بن الخطاب لم يتغير فهمه للآية، ولكنه رأى عدم كفاية شروط التنزيل لهذا الفهم على واقع الناس عام المجاعة، فكان ذلك اجتهادا منه في التطبيق لا تغييرا في الفهم للنص الشرعي القطعي.

إن خلود الإسلام يعني قدرته على معالجة مشكلات الإنسان في كل زمان ومكان، وقد تعددت صور النفس الإنسانية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتعددت أحوالها واختلفت معها قضاياها، وكانت تلك، في رأيي، نماذج لكل الحالات التي أتت وتأتي بعد ذلك، والوحيان القرآن والسنة مفتاحا مشكلاتها كلها إلى قيام الساعة، فالاجتهاد في فهم النص الشرعي لإبراز أحكامه في المستجدات والمتغيرات والنوازل الحاضرة، وإنزالها منازلها أمر لامناص منه، وأسباب النزول والورود بوصفها قرائن أحوال -مع ما قرره علماء الإسلام من قواعد الفهم وضوابطه- مسلك آمن إلى السداد في الاجتهاد والدقة في الاستنباط.

وقد وردت كثير من التكاليف الشرعية في مناسبات معينة وفي أحداث خاصة، إلا أن تزامن تلك التكاليف مع تلك المناسبات والأحداث لم يكن إلا مناسبة للتكليف، ووسيلة تربوية غايتها تهيئة الظروف والأجواء للفهم والامتثال، وعدم مفاجأة المكلفين بما لا يعقلون سببه وجدواه، فلو نزلت الأحكام دفعة واحدة ليس بينها وبين الواقع الذي يراد حكمه بتلك الأحكام مناسبة معتبرة، ورابط منطقي وسبب مفهوم، لما امتثلها الناس، ولذلك اقتضت حكمة الخالق سبحانه أن يكون نزول القرآن منجما، في سياق تفاعلي مع حركة الواقع واختلاف الأحداث والأحوال، مصححا ومقوما، ومسددا ومرشدا، وضابط ومقننا لواقع الناس وقضاياهم بما يحقق صالحهم في الحال والمآل: ﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها..﴾ (المجادلة: 1) ﴿يسئلونك عن الخمر والميسر..﴾ (البقرة: 217) ﴿يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك..﴾ (التحريم: 1) ﴿ويوم حنين اِذ اَعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا﴾ (التوبة: 25) ﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين..﴾ (التوبة: 43) ﴿وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه..﴾ (الاَحزاب: 37)، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على متابعة لقضايا تتحرك في أرض الواقع، من أجل ذلك كان للسياق الخارجي والظروف الواقعية دور بالغ الأهمية في فهم معاني النص وأسراره بوصفها قرائن أحوال في مقابل وظيفة الألفاظ: قرائن المقال.

إلا أن نصوص الشرع خطاب للناس كافة لا تخص بالتكليف من تعلقت به ظروف نزولها دون غيره إلا في حالات معدودة ورد فيها تنصيص جلي على التخصيص، وهذا ما عناه جمهور الأصوليين بأن العبرة في خطاب الشرع بعمومه لا بخصوص السبب الذي كان السياق لأجله.

وهذه القاعدة الأصولية “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” تعتبر قاعدة في السياق من جهة أنه لا عبرة بخصوص السياق الذي نزلت فيه الآية، وإنما العبرة بسياقها العام، وهو ما دل عليه غرضها وحكمها العام، قال ابن تيمية: “والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب، هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين إن عموميات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنما تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه”[13]، فإذا كانت الآية نازلة في سبب معين فإن هذا يبين المعنى المراد لكنه لا يعني بحال قصر الحكم في الآية على خصوص سببها.

فخصوص السبب عمدة في فهم المعنى، وعموم اللفظ عمدة في حكم الآية، إلا أن ما نزلت الآية بخصوصه قطعية الدخول في معنى الآية إذ هي الأصل فيها، لكن الآية تشمل غيره من جهة القياس على وصفه.

قال السرخسي: “وقال بعضهم: النص يكون مختصاً بالسبب الذي كان السياق له، فلا يثبت به ما هو موجب الظاهر، وليس كذلك عندنا، فإن العبرة لعموم الخطاب لا لخصوص السبب، فيكون النص ظاهراً لصيغة الخطاب، نصاً باعتبار القرينة التي كان السياق لأجلها”[14]، وقال السيوطي: إن صورة السبب قطعية الدخول في العام، وقد تتنزل الآيات على الأسباب الخاصة، وتوضع مع ما يناسبها من الآيات العامة رعاية لنظم القرآن وحسن السياق”[15]، وضرب لذلك مثلاً بقوله تعالى: ﴿وسيجنبها الاتقى الذي يوتي مَالَهُ يتزكى﴾ (اليل: 17-18) فإنها نازلة في أبي بكر الصديق بالإجماع، ومع كونها فيه ثناء عليه إلا أن الصيغة العامة التي وردت فيها تفيد أن هذا الحكم ليس مقصوراً عليه.

ولهذا فإنه كثيراً ما تكون الآيات نازلة بحال معين أو حدث خاص أو شخص مقصود، إلا أنها تأتي بصيغة العموم فتعم غيره من جهة الوصف، لأن القرآن عام في حكمه، إلا أنه يجب اعتبار ما نزلت فيه الآية في بيان المعنى ابتداءً، لأنه المحدد للوصف وللغرض من الآية.

قال إمام الحرمين الجويني: “القول البالغ فيه أن قصد التخصيص بالسبب الخاص يعارضه قصد ابتداء تمهيد الشرع، فإن لم يظهر قصد تأسيس الشرع لم يترجح قصد التخصيص بالسبب، فإذا تعارضا لم يحكم أحدهما على الثاني، وتعين التمسك باللفظ ومقتضاه العموم، ولهذا اعتقد صحبه الأكرمون عدم اختصاص ألفاظه بالمكان والزمان والمخاطبين”[16].

وقال السعدي: “قاعدة: وتدبر هذه النكتة التي يكثر مرورها بكتاب الله تعالى؛ إذا كان السياق في قصة معينة، أو على شيء معين، وأراد الله أن يحكم على ذلك المعين بحكم لا يختص به، ذكر الحكم وعلقه على الوصف العام، ليكون أعم، وتندرج فيه الصورة التي سيق الكلام لأجلها، ليندفع الإيهام باختصاص الحكم بذلك المعين”[17].

وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: “ولا يشتبه عليك التخصيص بالقرائن بالتخصيص بالسبب كما اشتبه على كثير من الناس فإن التخصيص بالسبب غير مختار فإن السبب وإن كان خاصا فلا يمنع أن يورد لفظ عام يتناوله وغيره كما في ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما﴾ ولا ينتهض السبب بمجرده قرينة لرفع هذا، بخلاف السياق فإنه يقع به التبيين والتعيين أما التبيين ففي المجملات وأما التعيين ففي المحتملات وعليك باعتبار هذا في ألفاظ الكتاب والسنة والمحاورات تجد منه ما لا يمكنك حصره”[18] قال: “ويجب أن تتنبه للفرق بين دلالة السياق والقرائن الدالة على تخصيص العام، وعلى مراد المتكلم، وبين مجرد ورود العام على سبب، ولا تجريهما مجرى واحداً،فإن مجرد ورود العام على السبب، لا يقتضي التخصيص به كقوله: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما﴾ (المائدة: 40) بسبب سرقة رداء صفوان، وأنه لا يقتضي التخصيص به بالضرورة والإجماع، أما السياق والقرائن فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات، فاضبط هذه القاعدة، فإنها مفيدة في مواضع لا تحصى”[19].

ويتفرع عن هذه المسألة مسألة أخرى، وهي خطاب الشارع الخاص الوارد على سبب خاص هل يقصر حكمه على المخاطب فيه فحسب، أم يعم غيره من المكلفين ممن هو في حالة وصفته؟

والذي دلت عليه عبائر الراسخين وجرت به أقلام المحققين ونطقت به إشارات المدققين[20] أن الصيغة الخاصة لا تعم بمجردها، وإنما تعم بالشرع، قال إمام الحرمين في البرهان: “إن وقع النظر في مقتضى اللفظ، فلا شك أنه للتخصيص، وإن وقع النظر فيما استمر الشرع عليه، فلا شك أن خطاب رسول الله، وإن كان مختصا بآحاد الأمة، فإن الكافة يلزمون في مقتضاه ما يلتزمه المخاطب، وكذلك القول فيما خص به أهل عصره، وكون الناس شرعا في الشرع، واستبانة ذلك من عهد الصحابة ومن بعدهم لاشك فيه. وكون مقتضى اللفظ مختصا بالمخاطب من جهة اللسان لاشك فيه، فلا معنى لعد هذه المسألة من المختلفات والشقان جميعا متفق عليهما”[21].

وقال ابن السمعاني: “إذا نظرنا إلى مقتضى الصيغة، كان موجبا للتخصيص، ولكن إذا نظرنا إلى ما استمر الشرع عليه، فذلك يقتضي المشاركة والمساواة، ألا ترى أن اللفظ الذي يخص به أهل عصر يكون مسترسلا على الأعصار كلها، ولا يخص به أهل العصر الأول، كذلك هاهنا”[22].

وأخيرا أقول: إن البحث في عناصر السياق وضوابطه هو أولا من أجل إبراز أهميتها في إحكام الفهم الديني للنص الشرعي، ثم إحكام تنزيل هذا الفهم على واقع الناس ثانيا، مع الاسترشاد في كل ذلك بالوحي وبصائره ومقاصده.

فالقرآن ثابت كنص ولكن محاولة تنزيل المطلق (القرآن) على النسبي (الواقع بإطاريه الزماني والمكاني) ليس سهلا ولا بسيطا ويحتاج إلى همة وجهد عاليين بقدر علو وأهمية القرآن، لأن الذي يحكم هذا التنزيل هو تغير النسبي وتطوره، وهذا بالتالي يستدعي كيفية الفهم لنصوص القرآن والسنة ولأسباب النزول والورود.

الهوامش


1. إحكام الأحكام: 2/21.

2. أصول السرخسي: 1/164.

3. حاشية البناني على جمع الجوامع: 1/20.

4. دلالة السياق للدكتور ردة الله الطلحي: ص:51.

5. البحث اللساني للدكتور طه عبد الرحمن “منشورات كلية الآداب بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات” رقم: 6 ص:301.

6. أثر السياق في النظام النحوي على كتاب “البيان في غريب إعراب القرآن لابن الأنباري” للدكتور نوح الشهري ص: 79.

7. الموافقات: 4/266.

8. الموافقات: 4/146.

9. تيسير الكريم الرحمن: 1/4.

10. ينظر مجموع الفتاوى: 13/339.

11. والقصة رواها الإمام مسلم في صحيحه برقم: 4982.

12. لعل خير ما يستدل به هنا فعل الإمام مالك في كتابه الموطأ حيث أورد في الغالب بعد كل حديث مرفوع أثرا أو أكثر عن الصحابة ليبين كيف طبق ذلك النص في واقع الناس.

13. مجموع الفتاوى: 13/338.

14. أصول السرخسي: 1/164.

15. الإتقان في علوم القرآن: 1/65.

16. البرهان: 1/255.

17. تيسير الكريم الرحمن: 1/682.

18. نقل هذا القول لابن دقيق العيد الزركشي في البحر المحيط: 4/235.

19. العدة حاشية على إحكام الأحكام لابن دقيق العيد: 3/372.

20. كالجويني والزركشي وابن حزم وابن السمعاني والشوكاني انظرالبرهان: 1/252 والبحر المحيط 4/261 والإحكام لابن حزم المجلد 2/344-345 وإرشاد الفحول ص: 225.

21. البرهان: 1/252.

22. قواطع الأدلة: 1/ 228.

دة. ريحانة اليندوزي

كلية الشريعة، فاس

عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق