مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةغير مصنف

أثر السيرة النبوية في فهم القرآن الكريم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

وبعد؛

 

بقلم الباحث: عبد الفتاح مغفور*

مما لا شك فيه  أنه لا غنى للقارئ  عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في فهم القرآن الكريم، وتفسيره، وبيان معانيه، وتجلية مراميه ومقاصده الكبرى، فالسيرة النبوية هي التطبيق العملي لما جاء في القرآن الكريم، ومن تم فلابد  لقارئه أن يتعَرف على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم  في كل أحواله، وفي مراحل الدعوة  والدولة، وفي البيت والمسجد وفي المجتمع .

وارتأيت الحديث عن هذا الموضوع من خلال نقطتين:

1 ـ أهمية قراءة السيرة النبوية  في فهم القرآن الكريم:

إن قراءة السيرة النبوية ودراستها تعين وتساعد على فهم قوي ودقيق لكتاب الله عز وجل، وتذوق روحه ومقاصده؛ إذ أن كثيراً من الآيات القرآنية إنما تفسرها وتجليها الأحداث والوقائع التي عاشها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وأصحابه.

وإن كثيرا من الآيات القرآنية نزلت إثر حوادث طرأت، أو مسائل وقعت أو أسئلة وجهت إليه صلى الله عليه وسلم.

وحتى تُفهم هذه الآيات القرآنية فهما صحيحا لا بد من دراسة السيرة النبوية، والتي يتبين من خلالها أسباب نزول الكثير منها .. ومما لا ريب فيه أن معرفة أسباب النزول ضروري لمن يتصدى لتفسير كلام الله تعالى ، لما هو معلوم من الارتباط بين السَبَب والمُسَّبِّب ..

قال الواحدي :  “لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها”[1]  

وقال ابن دقيق العيد : “بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن “[2]

وقال ابن تيمية: “معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب “[3].

2 ـ نماذج من أثر السيرة النبوية في فهم القرآن الكريم:

إن الدارس لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يجد فيها أمثلة كثيرة تند عن العد والحصر المعينة على فهم القرآن الكريم فهما صحيحا،  وهي شرط لا بد من استحضاره في فهمه، وتفسيره،  وبيان معانيه،  وتجلية مقاصده، نذكر منها الآتي:

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: “وقد أخرج الطبري من طريق عكرمة قال: خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة، وسيخلفنا إليها قوم آخرون ـ يعنون محمدا وأصحابه ـ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رؤوسهم:” بل أنتم خالدون مخلدون لا يخلفكم فيها أحد فأنزل الله تعالى:  (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) [4][5]

 وأورد الحافظ أيضا عند قوله تعالى: (وَلا تلقوا بأيديكم إِلى التهلكة)[6] حديث أبي أيوب من طريق أبي عمران قال “كنا بالقسطنطينية، فخرج صف عظيم من الروم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، ثم رجع مقبلا، فصاح الناس سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: أيها الناس إنكم تؤولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا: بيننا سرا إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله هذه الآية، فكانت التهلكة الإقامة التي أردناها.  وصح عن ابن عباس وجماعة من التابعين نحو ذلك في تأويل الآية”[7]

ومن الأمثلة أيضا ما أشكل على عروة بن الزبير رضى الله عنه  أن يفهم فرضية السعي بين الصفا والمروة مع قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) [8]

ففي الصحيح عن عروة قال: سألت عائشة رضي الله عنها، فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما)[9]، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كانت: لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلل، فكان من أهلَّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) [10]. قالت عائشة رضي الله عنها: “وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما”[11].

ومن ذلك ما تأوله قدامه بن مظعون رضي الله عنه، وأشكل عليه أنه لا حرج على كل من آمن واتقى وأحسن إذا ما شرب الخمر، وكان والي عمر بن الخطاب على البحرين، وبعد أن استقدمه عمر رضى الله عنه ليقيم عليه الحد لسكره، قال له: يا قدامه إني جالدك، فقال: يا أمير المؤمنين، لئن كان الأمر كما يقولون ما كان لك أن تجلدني، فقال: لم؟ قال: لأن الله تعالى يقول: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا) [12] فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأُحُدا والخندق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه قوله؟ فقال ابن عباس: إن هذه الآيات أنزلت عذرًا للماضين، وحجة على الباقين؛ لأن الله تعالى يقول: )يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) [13] قال عمر: صدقت[14].

ويلاحظ هنا أن الوقوف على سبب النزول هو الذي جلى وبين ووضح الموقف لابن عباس رضي الله عنهما، ورفع الإشكال عنها، وسبب نزولها على ما روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه  أنه قال: “مات رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تحرّم الخمر، فلما حرمت الخمر، قال رجال: كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر؟ فنزلت: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا) [15][16] فالآية ترفع الجناح عمن شربها قبل التحريم.

والحاصل أن دراسة السِّيرة النبوية لها أهمية بالغة وطريق قوي في فهم معاني القرآن الكريم، ومعرفة اتصالها وارتباطها به، تساعد العلماء على فهم الآيات واستنباط واستخراج أحكامها الشرعية، وأصول السياسة الشرعية، ويحصلون منها أيضا على المعارف الصحيحة في العلوم الإسلامية المختلفة، وبها يدركون معرفة الناسخ والمنسوخ وغير ذلك من العلوم، وبذلك يتذوقون روح الإسلام ومقاصده السامية.

**************************

 

 جريدة المصادر والمراجع: 

1-الإتقان في علوم القرآن لعبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (ت 911هـ).تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1394هـ ـ 1974م.

2-أسباب نزول القرآن لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري(ت 468هـ)تحقيق كمال بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية ـ بيروت ط2 1411 هـ.

3-فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (852هـ)دار المعرفة ـ بيروت، 1379 رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب،  عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز. 

4-مجموع الفتاوى،  لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (ت: 728هـ)، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، 1416هـ/1995م

5-المستدرك على الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (ت: 405هـ). تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية ـ بيروت ط1 1411 ـ 1990

6-المصنف لأبي بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري اليماني الصنعاني (ت 211هـ)، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المجلس العلمي- الهند ط2، 1403

 

هوامش المقال:

*************

[1]  أسباب النزول للواحدي(ص:10)

[2]  الإتقان في علوم القرآن(1 /108)

[3]  مجموع الفتاوى(13 /399)

[4]  البقرة: 80

[5]  فتح الباري(10 /246)

[6]  البقرة: 195

[7]  فتح الباري(8 /185)

[8]  البقرة: 158

[9]  البقرة: 158

[10]  البقرة: 158

[11]   أخرجه البخارى، كتاب الحج، باب وجوب الصفا والمروة، وجُعِلَ من شعائر الله. رقم 1643(2 /157)

[12]  المائدة:93

[13]  المائدة:90

[14]  أخرجه الحاكم فى المستدرك في كتاب الحدود  رقم ( 8132 )، (4 /417). وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وأخرجه عبد الرزاق فى مصنفه،  رقم:  (17076 )، (9 /240).

[15]  المائدة:93

[16] أخرجه الترمذي فى سننه، كتاب تفسير القرآن، باب سورة المائدة، رقم: (3050) (5 /254) وقال: حديث حسن صحيح.

*راجع المقال: الباحث محمد إليولو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق