وحدة الإحياءمفاهيم

آداب الإجراء العقابي.. في التشريع الجنائي الإسلامي

المقصود بآداب الإجراء العقابي: “مجموعة الأحكام القيمية والضوابط الأخلاقية” المصاحبة لتطبيق العقوبة في التشريع الجنائي الإسلامي.

وأخص بالذكر عقوبة الحدود، محاولة استئناف القراءة في نصوص القرآن والسنة المنظمة لهذه العقوبة؛ ذلك أن النظرة المعاصرة لنظام الحدود في الإسلام، لاسيما مع الاتجاهات الحديثة التي تلح على فكرة التجرد من الإيلام والتعذيب في العقاب الجنائي، وتستهدف تأهيل المحكوم عليهم، لا تخرج في موقفها من هذا النظام إما عن رفضه جملة وتفصيلا. أو الدعوة لتطبيقه من غير دراسة لفقه تنزيله، ومن غير موازنة بين مجال الحدود ومجال التعازير، ومن غير ملاحظة واعية للمساحة التي تشغلها الحدود في المنظومة الجنائية الإسلامية في مجملها؛ مما حصل معه خلط كثير. أو الوقوف موقف المعتذر النافي لكل تهمة تلصق به.

ولست أروم مناقشة هذا الرأي أو ذاك؛ ولكن أقصد استخراج الجانب القيمي في نظام العقوبة الحدية، ولفت الانتباه إليه بغية الوقوف على عمق مقصده؛ تاركة الشهادة للنصوص الصحيحة من غير مقاربة أو مقارنة. ومستشرفة لتعميق البحث في المجال الجنائي في الإسلام في إطار الوعي العميق بمقاصد النصوص، وكذا الفقه العميق بتنزيل النصوص. ومن ثم لا ألتزم بالتفصيل في المسائل الفقهية إلا بقدر ما تمس الحاجة إليه، ويحسن به التنبيه على مواطن تلك الآداب.

لقد نظرت في هذه الآداب فوجدتها تنتظم في محاور ثلاثة: الأول متعلق بإثبات العقوبة الموجبة للحد. والثاني متعلق بنفيها. والثالث متعلق بتطبيقها.

أولا: آداب متعلقة بإثبات العقوبة

أحاط التشريع الجنائي الإسلامي وسائل إثبات العقوبة الموجبة للحد بآداب هي بمثابة “تدابير احترازية”؛ لاسيما في الحقوق العامة التي تدرأ بالشبهات، فأوجب على الإمام أو نائبه التثبت والتحري تجنبا لحدوث الحيف أو التجني في الاتهام أو الزور في الشهادة أو التعرض للإكراه وغير ذلك مما يناقض أصل تحقيق العدالة.

ومن هنا نفهم اشتراط عدد من المذاهب الفقهية على الجاني تكرار الإقرار بجريمته، برغم أن الإنسان غير متهم في الإقرار على نفسه بالإضرار بها؛ ذلك أن الشريعة التزمت مبدأ الستر ومبدأ درء الحد بالشبهات. فذهب أبو يوسف والحنابلة والشيعة الزيدية، خلافا لأبي حنيفة ومالك والشافعي، إلى اشتراط تكرار الإقرار بالسرقة مرتين1 محتجين بما روي عن أبي أمية المخزومي أنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلص قد اعترف اعترافا ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما إخالك سرقت” قال: بلى، يا رسول الله. فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به فقطع. الحديث2.

كما ذهب أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق إلى أنه لا يجب الحد في جريمة الزنا، إن كان الإثبات بالإقرار، إلا بأقارير أربعة، مرة بعد مرة، وزاد أبو حنيفة وأصحابه: في مجالس متفرقة. وعمدتهم حديث ماعز الأسلمي الذي اعترف على نفسه بالزنا، فرده الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أقر أربع مرات. كما قاسوا الإقرار على الشهادة3. ثم إن الإقرار غير ملزم لشريك المقر ما لم يثبت الجرم بإقراره هو أو ببينة أو بقرائن أخرى4.

ومن الآداب المصاحبة لوسائل إثبات العقوبة الحدية كذلك، اشتراط ذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة، فيعتبر في صحة الإقرار بالزنا، مثلا، ذكر حقيقة الفعل، لأن الزنا يعبر عما ليس بموجب للحد. وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز الأسلمي حين أقر بجريمة الزنا: “لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟” قال: لا. الحديث5.

بل إن العلماء اعتدوا بالعدول عن الإقرار، فذهب الجمهور إلى أن الرجوع عن الإقرار في الحقوق العامة التي تدرأ بالشبهات، يعتبر شبهة يندرئ بها الحد، وفرق الإمام مالك بين رجوعه إلى شبهة فيقبل، وبين رجوعه إلى غير شبهة. وفي ذلك روايتان، المشهور أنه يقبل6.

قال مالك في الذي يعترف على نفسه بالزنا ثم يرجع عن ذلك ويقول: لم أفعل، وإنما كان ذلك مني على وجه كذا وكذا؛ لشيء يذكره: إن ذلك يقبل منه، ولا يقام عليه الحد. وذلك أن الحد هو لله لا يؤخذ إلا بأحد وجهين: إما ببينة عادلة تثبت على صاحبها، وإما باعتراف يقيم عليه حتى يقام عليه الحد، فإن قام على اعترافه أقيم عليه الحد7.

ومن بين الأمثلة المبينة لهذه الآداب أيضا عدم ثبوت الزنا إلا بأربعة شهود، ما لم يوجد اعتراف أو قرينة قضائية، وذلك بسبب ما تلحقه هذه الجريمة من مس بالأعراض والأنساب. ولا خلاف بين العلماء في هذا لقوله تعالى: “لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء. فإذ لم ياتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون” (النور:13) .

وروي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال لهلال بن أمية لما قذف بامرأته شريك بن شحماء: “البينة وإلا حد في ظهرك”8. وروي عنه أنه قال: “أربعة شهداء وإلا حد في ظهرك”9.

ويشترط في شهادة الزنا عند أبي حنيفة وأحمد والشافعي في الراجح والزيدية، الأصالة. ولم يشترطها مالك في شهادة الزنا. وشرط أن ينقل عن كل شاهد أصيل شاهدان10. ولا يستلزم أداء الشهود للشهادة أن يحد المتهم بالزنا ما لم يقتنع القاضي بصحة الشهادة؛ أو وقع اختلاف فيها كالاختلاف في الزمان والمكان11.

إن المتأمل في هذه الشواهد وغيرها، يلحظ بوضوح سعة المساحة التي يدعها الشارع للجاني قصد منحه فرصة التوبة ، كما سبين بعد، أو السعي للاعتراف التلقائي والإصرار عليه للتطهر والتكفير. ولذلك لا عجب أن نجد أغلب حالات تطبيق الحدود في عصر النبوة قد تمت بناء على اعتراف الجاني وإصراره على التطهر من درن جريرته.

ففي حديث ماعز الأسلمي في الموطأ من رواية يحيى، عن سعيد بن المسيب أنه؛ أي ماعزا12، جاء إلى أبي بكر الصديق فقال له: إن الأخر13 زنى. فقال له أبو بكر: هل ذكرت هذا لأحد غيري؟ فقال: لا، فقال له أبو بكر: فتب إلى الله واستتر بستر الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده. فلم تقرره نفسه حتى أتى عمر بن الخطاب، فقال له مثل ما قال لأبي بكر، فقال عمر مثل ما قال له أبو بكر. فلم تقرره نفسه حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إن الأخر زنى، فقال سعيد: فأعرض عنه رسول الله ثلاث مرات. كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا أكثر عليه بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى أهله فقال: “أيشتكي أم به جنة؟” فقالوا: يا رسول الله، والله إنه لصحيح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أبكر أم ثيب؟” فقالوا: بل ثيب يا رسول الله. فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم14.

إلا أنه في حال ضعف الوازع الديني وتفشي الجريمة، فثمة يفسح المجال للجزاء الجنائي مع مراعاة القواعد والضوابط الشرعية، ومراعاة الآداب المذكورة وتنزيلها من فقه الواقع المنزلة الصحيحة.

ثانيا: آداب متعلقة بدفع العقوبة

يندرج تحت هذا المبحث عدد من الآداب المقيدة لتطبيق العقوبة الحدية، بل والصارفة لها في كثير من الأحيان، فسحا لمجال العفو كما سبق بيانه.

فمن بين هذه الآداب صرف المقر كما مر في حديث ماعز. ومنه حديث أنس رضي الله عنه: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا فأقمه علي. ولم يسأله. قال: وحضرت الصلاة فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم. فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله، إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله، قال: “أليس قد صليت معنا؟” قال: نعم، قال: “فإن الله قد غفر لك ذنبك” أو قال: “حدك”15.

ومن أبرز الآداب الشاهدة لما ذكرناه، والتي تجلي سمو مقصد العقوبة في التشريع الإسلامي، مسألة تلقين الجاني أو المتهم الإنكار.

فمن ذلك حديث أبي أمية المخزومي في اللص الذي قال له النبي عليه الصلاة والسلام: “ما إخالك سرقت”. ومنه ما رواه مالك في الموطأ عن أبي واقد الليثي أن عمر بن الخطاب أتاه رجل وهو بالشام، فذكر له أنه وجد مع امرأته رجلا. فبعث عمر بن الخطاب أبا واقد الليثي إلى امرأته يسألها عن ذلك، فأتاها وعندها نسوة حولها، فذكر لها الذي قال زوجها لعمر بن الخطاب، وأخبرها أنها لا تؤخذ بقوله، وجعل يلقنها أشباه ذلك لتنزع، فأبت أن تنزع وتمت على الاعتراف. فأمر بها عمر فرجمت16.

وقد نص ابن حجر العسقلاني في فتح الباري على أن العلماء استحبوا تلقين من أقر بموجب الحد بالرجوع عنه إما بالتعريض، وإما بأوضح منه ليدرأ عنه الحد17.

ويدخل ضمن هذا المبحث أيضا الحث على الستر والاستتار؛ كما مر في حديث ماعز. وكما روى مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه قال: بلغني أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لرجل من أسلم، يقال له: هَزَّال: “يا هزّال، لو سترته بردائك لكان خيرا لك”. فقال يحيى بن سعيد: فحدثت بهذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي، فقال يزيد: هزال جدي، وهذا الحديث حق18.

وفي الموطأ كذلك برواية يحيى: حدثني مالك عن زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدعا له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: “فوق هذا”. فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: “دون هذا”. فأتي بسوط قد ركب به19 ولان. فأمر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فجلد. ثم قال: “أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا في حدود الله. من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله. فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله”20.

قال ابن حجر في فتح الباري نقلا عن ابن العربي: قيد بعضهم ترجيح الاستتار حيث لا يكون هناك ما يشعر بضده، وإن وجد فالرفع إلى الإمام ليقيم عليه الحد أفضل. قال ابن حجر: “والذي يظهر أن الستر مستحب والرفع لقصد المبالغة في التطهر أحب… وإن اتفق أنه يخبر أحدا فيستحب أن يأمره بالتوبة وستر ذلك عن الناس كما جرى لماعز مع أبي بكر وعمر”21.

من بين الآداب المعتبرة في دفع العقوبة كذلك، العفو في حد السرقة إذا ملك السارق الشيء المسروق بهبة، فقد ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف والحنابلة إلى سقوط الحد بذلك، لأن الطارئ من الشبهات على الحدود بمنزلة ما هو موجود في الحال. واستدلوا بالحديث المرفوع: “تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب”22. كما استدلوا بحديث صفوان ابن أمية أنه قدم المدينة، فنام في المسجد وتوسد رداءه، فجاء سارق فأخذه. فأخذ صفوان السارق، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أسرقت رداء هذا؟” قال: نعم. فأمر به رسول الله أن تقطع يده، فقال له صفوان: إني لم أرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فهلا قبل أن تأتيني به”23.

أما مالك24 والشافعي وأصحابهما فلم يجيزوا ذلك25. وهذا كله قبل الترافع إلى القضاء؛ أما بعد الترافع فلا خلاف بينهم في عدم جواز العفو26. ذلك أن الجريمة بعد الرفع للإمام أو من ينوب عنه كهيئة القضاء، تصبح مفسدة مجتمعية بعد أن كانت مفسدة فردية، ففي تفويت عقوبتها تفويت لمصلحة جماعية.

ثالثا: آداب متعلقة بتطبيق العقوبة

لا تهدف العقوبة الحدية إلى التنكيل بالجاني وامتهانه؛ بل هي وسيلة لحفظ الحقوق وإقرار العدل وتحقيق الأمن المجتمعي. ومن ثم نص التشريع الجنائي الإسلامي على مراعاة الآداب المحققة لهذا الغرض حتى في مرحلة تنفيذ العقوبة.

نصت الشريعة ابتداء على المساواة في العقوبة من غير محاباة ولا تفرقة بين شريف أو وضيع. فقد روت عائشة رض أن قريشا أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلمومن يجترئ عليه إلا أسامة حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أتشفع في حد من حدود الله؟” ثم قام فخطب فقال: “يا أيها الناس إنما ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها”27.

كما نصت الشريعة كذلك على علنية تطبيق العقوبة، لأن في إقامة الحد جهارا تأديبا واتعاظا. قال تعالى: “وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين” (النور: 2) قال الشيخ ابن عاشور في تفسير هذه الآية الكريمة: أمر أن تحضر جماعة من المسلمين إقامة حد الزنا تحقيقا لإقامة الحد وحذرا من التساهل فيه، فإن الإخفاء ذريعة للإنساء. فإذا لم يشهده المؤمنون فقد يتساءلون عن عدم إقامته، فإذا تبين لهم إهماله فلا يعدم بينهم من يقوم بتغيير المنكر من تعطيل الحدود. وفيه فائدة أخرى وهي أن من مقاصد الحدود مع عقوبة الجاني أن يرتدع غيره، وبحضور طائفة من المؤمنين يتعظ به الحاضرون ويزدجرون ويشيع الحديث فيه بنقل الحاضر إلى الغائب28 .

من بين الآداب التي راعت ما يمكن أن نصطلح عليه “بظروف التخفيف”، تنصيف العقوبة الحدية بالنسبة لفاقدي الحرية، قال تعالى: “فإذا أحصن فإن اتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب” (النساء:25) وجلد عمر وعثمان عبيدهم في الخمر نصف الحد29 وقد راعت الشريعة في هذا الجانب ظروف التنشئة الاجتماعية وآثارها التربوية.

ومن آداب تطبيق العقوبة الحدية في التشريع الجنائي الإسلامي، تأجيل العقوبة على الجاني إذا ارتبطت به مصلحة نفس بريئة. من ذلك عدم تطبيق عقوبة حد الزنا على المرأة الحامل حتى تلد وترضع وليدها وتضمن كفالته، لأن في إقامة الحد عليها في حال حملها إتلافا لمعصوم ولا سبيل إليه. كما في حديث الغامدية، فقد روى مالك في الموطأ عن زيد بن طلحة عن عبد الله بن أبي مليكة، أنه أخبره أن امرأة جاءت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أنها زنت، وهي حامل. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اذهبي حتى تضعي”. فلما وضعت جاءته، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اذهبي حتى ترضعيه”. فلما أرضعته جاءته فقال: “اذهبي فاستودعيه”. قال: فاستودعته، ثم جاءت فأمر بها فرجمت30.

وتطبيق العقوبة الحدية هو كفارة للجاني؛ فعن عبادة بن الصامت رض قال: كنا عند النبي، صلى الله عليه وسلم، في مجلس فقال: “بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا، وقرأ هذه الآية كلها31، فمن رضي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارته. ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه”32.

لأجل ذلك، فإن من جملة الآداب الواجب مراعاتها أثناء تطبيق عقوبة الحد، عدم إهانة المحدود أو مسه بالشتم والسب أو اللعن. وكذا ضمان حقوقه العبادية، كالصلاة على المرجوم عند جمهور الفقهاء33.

ففي رواية قاسم بن أصبغ لحديث الغامدية أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما أمر بها أن ترجم، وأمر الناس أن يرموا فأقبل خالد بن الوليد فرمى رأسها، فتنضخ الدم على وجهه فسبها، فسمع النبي، صلى الله عليه وسلم، سبه إياها فقال: “مهلا يا خالد. فو الذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر الله له”34. ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت.

وفي رواية عن عمران بن حصين، أخرجها أبو داود والترمذي: فأمر بها فرجمت ثم أمرهم صلى الله عليه وسلم فصلوا عليها فقال عمر: يا رسول الله، أنصلي عليها وقد زنت؟ فقال: “والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم. وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها”. وعن أبي هريرة رض قال: أتي النبي، صلى الله عليه وسلم، برجل قد شرب، قال: “اضربوه” قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه. فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله. قال: “لا تقولوا هكذا. لا تعينوا عليه الشيطان”35. وعن عمر بن الخطاب رض أن رجلا كان قد جلده النبي عليه السلام في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تلعنوه فو الله ما علمت إنه يحب الله ورسوله”36.

 الهوامش

  1. المقدمات الممهدات لابن رشد: 3-220، مغني المحتاج للشربيني: 4-175 الفقه على المذاهب

الأربعة للجزيري: 5-163-164، الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي: 6-125، التشريع الجنائي الإسلامي لعبد القادر عودة: 2-615.

  1. أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود، واللفظ له.
  2. بداية المجتهد لابن رشد: 2-328، المغني لابن قدامة: 8-193.
  3. الاستذكار لابن عبد البر: 24-58 المغني لابن قدامة: 8-193.
  4. أخرجه البخاري في الحدود.
  5. بداية المجتهد: 2-328، المغني لابن قدامة: 8-193.
  6. الموطأ برواية يحيى-كتاب الحدود- باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا.
  7. أخرجه الجماعة إلا مسلما والنسائي.
  8. أخرجه النسائي.
  9. بداية المجتهد: 2-329، المغني: 8-204.
  10. المرجع السابق.
  11. لم يسمه في الرواية المذكورة، وإنما ذكر: رجلا من أسلم. قال ابن عبد البر في الاستذكار: سماه يزيد بن هارون وغيره ممن روى عن يحيى: “ماعز بن مالك الأسلمي”. قال: لا خلاف بين العلماء في ذلك، وقد تكررت الآثار المروية في قصته بذلك “الاستذكار” ج: 24 –كتاب الحدود– باب ما جاء في الرجم، ص: 7.
  12. “الأخر” معناه: الرذل الدنيء، كأنه يدعو على نفسه ويعيبها بما نزل به من مواقعة الزنا، وقال الأخفش: كنى عن نفسه، وهذا إنما يكون لمن حدث عن نفسه بقبيح، فكره أن ينسب ذلك إلى نفسه. انظر المرجع السابق.
  13. الحديث مرسل باتفاق الرواة عن مالك، وهو موصول في الصحيحين عن أبي هريرة، فأخرجه البخاري ومسلم في الحدود والنسائي في سننه في الرجم.
  14. أخرجه البخاري في الحدود، باب إذا أقر بالحد ولم يبين، ومسلم وأحمد.
  15. الموطأ برواية يحيى “كتاب الحدود” باب ما جاء في الرجم. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في السنن وفي معرفة السنن والآثار.
  16. فتح الباري: 14-97.
  17. الموطأ برواية يحيى “كتاب الحدود” باب ما جاء في الرجم. ووصله أبو داود في الحدود من سننه، وأخرجه النسائي في سننه.
  18. أي ذهبت عقدة طرفه.
  19. الموطأ “كتاب الحدود” باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا. وأخرجه أيضا البيهقي في السنن وفي معرفة السنن والآثار.
  20. فتح الباري: 14-97.
  21. أخرجه أبو داود والنسائي. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. انظر: الاستذكار لابن عبد البر: 24-183، سبل السلام للصنعاني:4-21.
  22. أخرجه مالك في الموطإ “كتاب الحدود” باب ترك الشفاعة للسارق إذا بلغ السلطان. وأحمد في المسند من مسند صفوان بن أمية. وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم في المستدرك.
  23. هذا قول مالك فيما حكاه الباجي، وحكى ابن قدامة خلاف هذا عنه. وهذا ناتج عن اختلاف المالكية في ذلك. ومختار متونهم هو ما حكاه الباجي. انظر: أوجز المسالك للكاندهلوي: 13-299.
  24. انظر تفصيل هذه المذاهب في: الأم للشافعي: 6-148، البيان والتحصيل لابن رشد، 16-227، الاستذكار، 24-183، المغني لابن قدامة: 8-269، أوجز المسالك للكاندهلوي: 13-298-299.
  25. المرجع السابق.
  26. أخرجه البخاري في الحدود، باب: كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، وباب: إقامة الحدود على الشريف والوضيع.
  27. تفسير التحرير والتنوير: 18-151.
  28. التنصيف هو مذهب جمهور الفقهاء باستثناء أهل الظاهر. انظر: بداية المجتهد: 2-327، المغني لابن قدامة: 8-174، المحلى لابن حزم: 11-160.
  29. الموطأ برواية يحيى “كتاب الحدود” باب ما جاء في الرجم. ووصله مسلم من حديث بريدة، في الحدود. وأبو داود في الحدود والنسائي في الرجم والترمذي.
  30. الآية المشار إليها -كما ذكر ابن حجر العسقلاني- هي قوله تعالى: “يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا” إلى آخرها. ((الممتحنة:12)، فتح الباري: 14-35.
  31. أخرجه البخاري في الحدود، باب الحدود كفارة.
  32. المغني لابن قدامة: 8-166.
  33. سبق تخريجه.
  34. أخرجه البخاري في الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال.

36. أخرجه البخاري في الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج عن الملة.

Science
الوسوم

دة. نجوى التجكاني

باحثة في الفقه الإسلامي

عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق