مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

من معاني حضور التصوف عند علماء المدارس العتيقة والمحضرات بالجنوب المغربي

 د. محمد الهاطي

باحث بمركز الإمام الجنيد

    تجمع جل الدراسات التي أنجزت حول التاريخ الديني والفكري للجنوب المغربي على أن معظم أولئك الذين أسسوا المدارس والمحضرات بهذه الربوع ينتمون إلى دائرة أهل الصلاح والولاية، بل إن السواد الأعظم منهم له مشرب صوفي صافي واضح، أضف إلى ذلك أن جل هذه المدارس والمحضرات كانت في الأصل عبارة عن رباطات وزوايا امتزج فيها التربوي بالتعليمي والديني بالجهادي؛ فمن رحم “رباط ماسة” و”رباط أكلو” و”رباط أسا”، ومن أعماق زاوية تيمكِيدشت (تنطق أيضا: تِمْكلْجْتْ) والزاوية الأوزالية وزاوية ألما و”محضرة تجكانت” و”محضرة القبلة” و”محضرة أهل الشيخ ماء العينين”… خرجت العديد من مؤسسات التعليم العتيق بالجنوب المغربي.

    قبل الاسترسال في رصد الحضور الصوفي في سلوك علماء هذه المدارس والمحضرات أو المحاضر أرى لزاما تقديم إضاءة تعريفية لكل من المدرسة العلمية العتيقة والمحضرة مع الإشارة إلى بعض وظائفهما.

إضاءة وجيزة حول المحضرة والمدرسة العتيقة ووظائفهما

    المحضرة باعتبارها مصطلح متداول في كل من جهة الصحراء المغربية (أي مناطق وادي نون والساقية الحمراء ووادي الذهب) وبلاد شنقيط (أي موريتانيا حاليا)، له دلالة توحي مباشرة على تلك الممارسة التعليمية والتربوية التي تحتضنها فضاءات بدوية مكسوة بالرمال متنقلة في الغالب، يتم فيها تلقين البدو من أبناء الصحراء مجموعة من المعارف الدينية واللغوية؛ كتعليم الحروف الأبجدية وتحفيظ القرآن والمتون والمنظومات الفقهية … غير أن ارتباط هذه المحاضر أو المحضرات بالحياة البدوية المتسمة بكثرة التنقل والترحال وعدم الاستقرار، لا يعني أن بعض الحواضر في الصحراء لم تشهد هذه المدارس، بل بالعكس، فهناك محضرات انتعشت بشكل كبير في المدن الصحراوية الكبرى، بل لا تزال بعض هذه المحاضر تمارس أنشطتها التعليمية والتربوية والدينية  إلى يوم الناس هذا[1].  

    ويمكن تصنيف المحاضر إلى صنفين[2]: محاضر متخصصة وأخرى عامة؛ فالمتخصصة منها هي التي تشتهر بتدريس صنف واحد من أصناف العلوم الشرعية أو اللغوية، كمحاضر “تجكانت” المختصصة في علوم القرآن، ومحاضر”مدلش” و”لعصَّابه” المتخصصة في الدراسات الفقهية، وأخرى تخصصت في اللغة والنحو؛ كمحضرة “الحسن بن الزين”، أما المحاضر العامة فهي التي يَدرس فيها الطلاب مختلف العلوم والمعارف الدينية واللغوية والأدبية والتجريبية؛ كمحضرة أهل الشيخ ماء العينين ومحضرة “تيشيت” ومحضرة “تاكانت”…  

    أما عن مفهوم المدرسة العلمية العتيقة فيقصد به ذلك الفضاء التعليمي والتربوي والديني الذي يُشَيد غالبا في البوادي والقرى النائية بسوس وفي غيرها من المناطق المغربية، بمبادرة من السكان أنفسهم، وخاصة شيوخ الزوايا الصوفية أو العلماء أو أعيان القبائل. يلتحق الطالب بإحدى هذه المدارس بعد أن يستكمل تعليمه الأولي في المسيد أو “تِمْزكِيدا”، وهناك بعض المدارس التي لا تقبل إلا المتمكن من القرآن حفظا ورسما.

    تنقسم المدارس العلمية العتيقة في سوس إلى نوعين: مدارس يطغى عليها التوجه الفقهي وتشكل السواد الأعظم، وأخرى تطغى عليها النزعة الأدبية كالمدرسة “الإلغية” و”المدرسة الجشتيمية” و”البونعمانية” و”مدرسة بومروان” وغيرها.

إرهاصات تشكل الوعي الصوفي عند علماء هذه المؤسسات

    كان لعلماء المدارس العلمية العتيقة والمحضرات بالجنوب المغربي دور كبير  في انتقال أغلب التنظيمات الصوفية بهذه الربوع من مرحلة التبعية الكلية للمدارس الصوفية المغربية الكبرى إلى مرحلة تأسيس التنظيم الهيكلي المحلي الذي يحرص رواده على إبقاء الروابط الروحية مع الزاوية الأم قائمة، مع سعيهم الحثيث نحو تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتي على المستوى التأطير والتنظيم. فلو تتبعا امتدادات الطريقة الجزولية مثلا باعتبارها التنظيم الصوفي المغربي الأول الذي انتشر انتشارا واسعا في جل مناطق الجنوب وخاصة في الفترة السعدية[3]، سنجد أن من بين نتائج هذه الامتدادات بالمجال السوسي تَشَكُل تنظيمات صوفية جزولية محلية خرجت من رحمها مجموعة من المدارس العلمية أشهرها: مدرس “إيدوا زداغ” التي خرجت من رحم زاوية تافيلالت المنانية الحاحية[4]، والمدرس السكتانية التي انبثقت عن الزاوية الويسعدانية[5] التي أسسها الشيخ محمد بن ويسعدان السكتاني (تـ987هـ)، وهناك مدارس أخرى انبثقت عن زاوية تازروالت السملالية نسبة إلى مؤسسها الشيخ أحمد أو موسى السملالي التازرولتي (تـ971هـ)[6]، ومدرسة تمنارت التي خرجت من رحم الزاوية التمنارتية التي أسسها محمد بن إبراهيم التمنارتي المشهور بالشيخ (تـ971هـ)[7].

    أما المجال الصحروي فقد ظل يشكو من ضعف في النزوع الديني، وبطء التطور التعليمي جراء قساوة البيئة الصحراوية وانتشار البداوة بهذا المجال، إلى أن ظهرت فئة الزوايا المكونة من شيوخ وعلماء ممن لهم اتصال مباشر بالمراكز العلمية والدينية في شمال المملكة؛ كفاس ومراكش وسبتة…، فاكتسبوا بذلك سلطة دينية وروحية مكنتهم من قيادة حركة تصحيحية إصلاحية في الصحراء اتخذت الزوايا والمحاضر[8] معاقل لنشر العلم والصلاح، «فلا يوجد بينهم [أي من المنتسبين إلى هذه الزوايا] ذكر ولا أنثى إلا ويقرأ ويكتب، وإن وجد في قبيلة غير ذلك فإنه نادر»[9]. ومما رفع من مكانة هذه الفئة داخل مجتمع “البيظان”[10]، اضطلاعها بأدوار دينية واجتماعية واقتصادية ذات أهمية بالغة في الصحراء؛ كتأسيس المحاضر لتعليم الصبيان وحفر الآبار وتسيير القوافل وفض النزعات بين القبائل وإصلاح ذات البين وإطعام الطعام…[11]

    كما أسهمت العديد من الأسر العلمية الصوفية وشيوخ الزوايا بالصحراء المغربية في إنشاء طائفة من المدارس والمحاضر في قلب الصحراء وفي أطرافها؛ وهنا لابد من الإشارة إلى دور الأسرة المعينية بشيوخها ومريدها الذين يرجع لهم الفضل في نشر العلم والمعرفة والصلاح بهذه الربوع، والأسرة السباعية التي أسس أحد شيوخها مدرسة علمية بناحية شيشاوة، وهو الشيخ محمد بن عبد الله السباعي، وأسرة آل البصير العلمية التي نزلت بمنطقة لاخصاص، والتي يرجع لها لفضل في تأسيس مدرسة “سيدي علي أسعيد” بأيت بويسن[12]، والأسرة البلعماشية التي يصل نسبها إلى الشيخ محمد المختار المعروف “بابن الأعمش” مؤسس مدينة “تندوف” التي بنى بها مسجدا كبيرا، لتنتقل بعد ذلك هذه الأسرة البلعماشية من تندوف بجنوب المغربي إلى أقا بمدينة طاطا[13].

مستقبل التعليم العتيق بالجنوب المغربي.. وسؤال الرهانات الجديدة 

    يبقى مستقبل التعليم العتيق بالجنوب المغربي في ظل التحولات الآنية وما تشهده منطقة الساحل والصحراء من اضطرابات، رهين بتكاتف جهود جميع المغاربة وخاصة أبناء المناطق الجنوبية، لاستئناف ذلك التواصل العلمي والروحي المستمر بين علماء هذه المؤسسات ورجالات الولاية والصلاح من أهل التصوف، لربط الماضي بالحاضر في أفق ترسيخ هوية دينية وثقافية وعلمية تتأسس على وحدة المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني وإمارة المؤمنين،  تنبذ منطق التطرف والغلو، وترسخ منهج الوسطية والاعتدال، ترفض منطق الفوضى والتعصب وتشع قيم التسامح والتساكن.

    وإذا كان ماضي وحاضر التعليم العتيق بالجنوب المغربي المبني على وحدة الهوية الدينية والوطنية واللغوية، لابد أن يؤثر في مستقبله القريب والبعيد، فإن هذا لا يجب أن يثنينا عن  تسجيل مجموعة من الاحترازات والاقتراحات التي لابد منها:

– الاحتراز من بعض أشكال الدعم المادي المقدم للقائمين على تسيير شؤون هذه المؤسسات من جهات مشبوهة تعادي الثوابت الدينية لبلادنا.

– الاحتراز من تسلل بعض الطلاب المنتمون إلى تيارات لها موقف مسبقة من ثوابتنا الدينية -وخاصة التصوف- مما يدفع إلى زرع الفتنة والتشويش بين صفوف باقي طلاب المدرسة، وتزداد الأمور سواء إذا تحالف بعض الأساتذة المنتمون إلى نفس التوجه مع هذا الانحراف.

– الاحتراز من استغلال بعض المواسم العملية والروحية السنوية التي تقام بهذه المدارس من طرف الدخلاء وأدعياء العلم والصلاح ممن انحرف بهم الطريق في متاهات حب الرئاسة وطلب السياسة والتهافت وراء تحقيق الانتفاع المادي والحظوظي.

لذلك نقترح تشكيلَ “هيئة من الحكماء” تتكون من علماء من مختلف المدارس العتيقة ورجالات من مختلف الطرق الصوفية ممن يشهد لهم بالنسبةِ والنزاهةِ والكفاءةِ الخُلقية والعِلمية، مهمتهم تتبع طرق تدريس العلوم والمعارف بهذه المدارس والحرص على مراعاتها للخصوصيات المغربية في التدريس، وكذا العمل على المحافظة على بعض التقاليد العلمية الأصيلة المورثة بهذه المؤسسات؛ من قبيل تلاوة الحزب الراتب جماعة وإنشاد قصيدتي البردة والهمزية بالطريقة المحلية، كما يوكل لهذه الهيئة الإشراف على بعض المواسم الثقافية والروحية التي تقام بهذه المدارس لتبقى محافظة على تمييزها. وهنا لزم أن ننوه بالمجهودات التي يبدله علماء المدارس العتيقة ورجالات الطرق الصوفية بسوس للحفاظ على استمرارية موسم “لالة تاعلات” السنوي وغيرها من المواسم العلمية والروحية التي تجمع حملة كتاب الله بالذاكرين على صعيد واحد.  

 

الهوامش:

[1] ينظر النحوي (خليل)، بلاد شنقيط: المنارة والرباط، المنظمة العربية للتربية والعلوم، تونس، 1987، ص 55. و حميتو (عبد الهادي)، حياة الكتاب وأدبيات المحضرة: صور من عناية المغاربة بالكتاتيب والمدارس القرآنية، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، 2006. Richet Etienne: “En  Mauritanie” Bulletin de la société d’économie sociale et des unions de la pais sociale, huitieme sere, tome  V II, Num. 73-74, Janvier 1919, P. 418. 

[2] ينظر بخصوص أصناف المحاضر بالصحراء: سبي (محمد)، التعليم العتيق في الصحراء: محضرة أهل أبا حازم نموذجا، مقال بمجلة دعوة الحق، العدد 400، يونيو 2011م، ص 97.

[3] للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع ينظر: أحمد الوارث، الطريقة الجزولية التصوف والشرف والسلطة في المغرب الحديث، ص 125.

[4] محمد حجي، الحركة الفكرية في عهد السعديين، ج  1 ص 559.

[5] الحركة الفكرية في عهد السعديين، ج 1 ص 565. والمعسول ج 19 ص 230- 240.

[6] للمزيد من التفاصيل عن تاريخ هذه الزاوية ينظر: خديجة الراجي، مساهمة في دراسة تاريخ الزاوية السملالية في مرحلة التأسيس: 853 – 971هـ ، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ، مرقونة بخزانة الآداب بالرباط، 1992- 1993م.

[7] خلال جزولة ج 3 ص 4- 14 . والمعسول ج 7 ص10- 46.

[8] ساهمت هذه المحاضر بشكل كبير في تقوية وترسيخ الإحساس “بتزويت” أي الانزواء للعلم والعبادة.

[9] الشنقطي (أحمد بن الأمين)، الوسيط في تراجم أهل شنقيط، دار الخانجي، القاهرة، 1958، ص 517.

[10] للمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع ينظر: بوبريك (رحال)، دراسات صحراوية: المجتمع و السلطة و الدين، دار النشر أبي رقراق، الرباط، 2005 ،الطبعة الثانية 2008، وله أيضا: “مجتمع الصحراء في الكتابات الاستعمارية”، المطبعة السريعة، القنيطرة، 2010. 

[11] Douls¸ Camille : “Voyage d’exploration à  Travers le Sahara Occidental et le sud Marocaine” , Bulletin de la Société de la géographie (Paris). 1888, P 459  

[12] السوسي (محمد المختار) العتيقة، ص 98. الإكراري (محمد)، روضة الأفنان في وفيات الاعيان، تحقيق حمدي أنواش، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية (أكادير، 1998، ص 339.

[13] السوسي (محمد المختار)، المعسول، 8/ 158-165

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق