مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات وأبحاث

من لطائف الإسناد: الإسناد العالي وما يتعلق به

بسم الله الرحمن الرحيم

وبعد:

فإن الله – سبحانه وتعالى – شرف هذه الأمة بشرف الإسناد، ومنَّ عليها بسلسلة الإسناد واتصاله، فهو خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، لم يؤتها أحد من الأمم السابقة.

قال ابن حزم «نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي ﷺ مع الاتصال خص الله  به المسلمين دون سائر الملل»([1]) وقال أبو علي الجياني «خص الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها الإسناد والأنساب والإعراب»([2])  وقال الحافظ بن الصلاح : «أصل الإسناد خصيصة فاضلة من خصائص هذه الأمة، وسنة بالغة من السنن المؤكدة»([3])  فهو الدعامة التي حفظ بها الدين قرآناً وسنة.

ولما كان السند منه ما يكون عاليا، ومنه ما يكون نازلا، كانت الميزة للعالي منه؛ إذ هو أقرب إلى الصحة وقلة الخطأ، شريطة أن يكون جميع النقلة فيه من الموثوقين، فقد كان السلف يحرصون على علو السند فيرحلون لطلبه، وكانوا يعيبون على الراوي الذي يقتصر على السماع ببلده ولا يرحل. وقد كان أصحاب ابن مسعود يرحلون من الكوفة إلى المدينة فيتعلمون من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويسمعون منه، حتى قال الطوسي: « قرب الإسناد قربة إلى الله تعالى»([4])، وقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: «طلب علو الإسناد من الدين»([5])،  وروي عنه أيضا أنه قال:« طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف»([6])، وروي عن يحيى بن معين لما قيل له في مرضه الذي مات فيه: ما تشتهي؟ فقال: «بيت خال وإسناد عال»([7])؛ لأجل ذلك أجمع أئمة الحديث على طلب الرحلة في سبيل علو الإسناد ليتحقق المعنى المقصود من الرواية وهو: صحة المروي؛ ذلك أن علو الإسناد يبعد من الخلل قال ابن الصلاح: « والعلو يبعد الإسناد من الخلل؛ لأن كل واحد من رجاله يحتمل أن يقع الخلل من جهته سهوا أو عمدا، ففي قلتهم قلة جهات الخلل، وفي كثرتهم كثرة جهات الخلل، وهذا جلي واضح»([8]).

إن علو الإسناد عند المحدثين ينقسم إلى خمسة أقسام، واحد منها علو مطلق ، والباقي علو نسبي، وهي:

الأول: القرب من رسول الله ﷺ من حيث العدد بإسناد نظيف غير ضعيف، وهذا هو العلو المطلق، وهو أفضل أقسام العلو وأجلها.

الثاني: وهو الذي ذكره الحاكم النيسابوري([9]): القرب من إمام من أئمة الحديث، وإن كثر العدد، من ذلك الإمام إلى رسول الله ﷺ؛ مثل القرب من الأعمش، أو ابن جريج، أو مالك، مع الصحة ونظافة الإسناد.

الثالث: العلو بالنسبة إلى رواية الصحيحين، أو أحدهما، أو غيرهما من الكتب المعروفة المعتمدة، وهو ما كثر اعتناء المتأخرين به من الموافقة([10])، والإبدال([11])، والمساواة([12])، والمصافحة([13]).

الرابع: العلو المستفاد من تقدم وفاة الراوي؛ سواء كان سماعه مع متأخر الوفاة في آن واحد أو قبله

الخامس: العلو المستفاد من تقدم السماع من الشيخ، فمن سمع منه متقدما كان أعلى ممن سمع منه بعده([14]).

    وفي الختام أحمد الله  تعالى الذي وفقني لإتمام هذا المقال حول مبحث من أهم مباحث المصطلح وهو: « الإسناد العالي وما يتعلق به »، راجية منه سبحانه وتعالى أن ينفع به، ويدخر لي أجره يوم لقائه.  وصل الله على نبينا المجتبى، وعلى آله وأصحابه أولي النهى.

 والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

****************

هوامش المقال:

([1]) ينظر: الإحكام في أصول الأحكام (1 /127).

([2])  شرف أصحاب الحديث (1 /84).

([3]) مقدمة ابن الصلاح ص: (737).

([4]) الجامع لأخلاق الراوي (1 /123).

([5]) الرحلة في طلب الحديث (ص: 89).

([6]) الجامع لأخلاق الراوي: (1 /123).

([7]) الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث (2 /445).

([8]) مقدمة ابن الصلاح (ص: 440).

([9]) معرفة علوم الحديث (ص: 124).

([10]) الموافقة: هي الوصول إلى شيخ أحد المصنفين من غير طريقه بعدد أقل مما لو روى من طريقه عنه. ينظر: التقريب والتيسير (ص: 84)

([11]) البدل: هو الوصول إلى شيخ شيخ أحد المصنفين من غير طريق المصنف المعين بل من طريق آخر أقل عددا منه ينظر: التقريب والتيسير (ص: 84)

([12]) المساواة: هي استواء عدد الإسناد من الراوي إلى آخره مع إسناد أحد المصنفين. ينظر: التقريب والتيسير (ص: 84)

([13]) المصافحة: هي استواء عدد الإسناد من الراوي إلى آخره مع إسناد تلميذ أحد المصننفين . ينظر: التقريب والتيسير (ص: 84)

([14]) ينظر في ذلك: مقدمة ابن الصلاح (ص: 440 وما بعدها)، الاقتراح في بيان الاصطلاح (ص: 401 وما بعدها)،شرح التبصرة والتذكرة (2 /60 وما بعدها)، تدريب الراوي (2 /607 وما بعدها)، وغيرها.

********************

لائحة المراجع المعتمدة:

الإحكام في أصول الأحكام. أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي. دار الحديث – القاهرة. ط1/1404.

الاقتراح في بيان الاصطلاح وما أضيف إلى ذلك من الأحاديث المعدودة من الصحاح. تقي الدين محمد ابن دقيق العيد. دراسة وتحقيق: قحطان عبد الرحمن الدوري.دار العلوم عمان. ط1 /2006.

الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث. ابن كثير. شرح: أحمد محمد شاكر- تعليق: ناصر الدين الألباني. مكتبة المعارف الرياض. ط1 /1417-1996.

تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. جلال الدين السيوطي. تحقيق: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي. دار طيبة. الرياض. ط8/ 1427.

التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير. محيي الدين النووي. تقديم وتحقيق وتعليق: محمد عثمان الخشت. دار الكتاب العربي. ط 1/ 1405- 1985.

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع. الخطيب البغدادي. تحقيق: د/ محمود الطحان. مكتبة المعارف الرياض.ط 1403-1983.

الرحلة في طلب الحديث. الخطيب البغدادي. تحقيق وتعليق: نور الدين عتر. ط1/ 1395-1975.

شرح التبصرة والتذكرة. زين الدين عبد الرحيم العراقي. حقق نصوصه وخرج أحاديثه وعلق عليه. د- عبد اللطيف الهميم- الشيخ ماهر ياسين نحل. منشورات علي بيضون. دار الكتب العلمية بيروت. ط1 /1423-2002.

شرف أصحاب الحديث و معه  نصيحة أهل الحديث. الخطيب البغدادي. حققه وخرج أحاديثه وآثاره: عمرو عبد المنعم سليم. مكتبة ابن تيمية القاهرة. ط1/ 1417-1996.

معرفة علوم الحديث. الحاكم النيسابوري. شرح وتحقيق: أحمد بن فارس السلوم. دار ابن حزم بيروت لبنان. ط1 /1424-2003.

مقدمة ابن الصلاح ومعه: محاسن الاصطلاح. البلقيني. دة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ. دار المعارف القاهرة.

راجع المقال الباحث: يوسف أزهار

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق