مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

«معجم الهيآت والإشارات والرموز في القرآن الكريم من خلال تفسير «التحرير والتنوير» للإمام الطاهر ابن عاشور» (الحلقة السابعة)

التاء

[11] ترك السجود:

ومن دلالات هذه الهيئة في القرآن الكريم:

1- العصيان: ومنه قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) [الأعراف: 11]، قال الطاهر بن عاشور: «فَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي نَفْسِ إِبْلِيسَ جِبِلَّةً تَدْفَعُهُ إِلَى الْعِصْيَان عِنْد مَا لَا يُوَافِقُ الْأَمْرُ هَوَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ هَوًى وَرَأْيًا، فَكَانَتْ جِبِلَّتُهُ مُخَالِفَةً لِجِبِلَّةِ الْمَلَائِكَةِ. وَإِنَّمَا اسْتَمَرَّ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ مِنَ الْأَمْرِ مَا يُخَالِفُ هَوَاهُ، فَلَمَّا حَدَثَ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ ظَهَرَ خُلُقُ الْعِصْيَانِ الْكَامِنُ فِيهِ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الطَّائِفَةِ السَّاجِدِينَ، أَيِ انْتَفَى سُجُوده انْتِفَاء لَا رَجَاء فِي حُصُولِهِ بَعْدُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ أَبَى السُّجُودَ إِبَاءً»(1).

ومنه قوله تعالى: (فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ) [الانشقاق: 20- 21]، قال الطاهر بن عاشور: «أَي إِذا قرىء عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَخْضَعُونَ لِلَّهِ وَلِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَحُجَّتِهِ، وَلَا يُؤمنُونَ بحقيته»(2).

لما كان السجود كما سوف يأتي لاحقا –إن شاء الله تعالى- دالا على الخضوع فإن تركه قطعا يدل على العصيان، فمن لم يخضع لعظمة الله تعالى فهو عاص لا محالة، ولما كان السجود ركنا من أركان الصلاة يخضع فيه المصلي لله تعالى بين يديه فإن تارك الصلاة عاصٍ لله تعالى.

 [12] التثاقل:

ومن دلالات هذه الهيئة في القرآن الكريم:

1- الكسل والتباطؤ: قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة: 38]، قال الطاهر ابن عاشور: «(وَالتَّثَاقُلُ) تَكَلُّفُ الثِّقَلِ، أَيْ إِظْهَارُ أَنَّهُ ثَقِيلٌ لَا يَسْتَطِيعُ النُّهُوضَ. وَالثِّقَلُ حَالَةٌ فِي الْجِسْمِ تَقْتَضِي شِدَّةَ تَطَلُّبِهِ لِلنُّزُولِ إِلَى أَسْفَلَ، وَعُسْرَ انْتِقَالِهِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الْبُطْءِ مَجَازًا مُرْسَلًا، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ بُطْأَهُمْ لَيْسَ عَنْ عَجْزٍ، وَلَكِنَّهُ عَنْ تَعَلُّقٍ بِالْإِقَامَةِ فِي بِلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَعُدِّيَ التَّثَاقُلُ بِـ «إِلَى» لِأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الْمَيْلِ وَالْإِخْلَادِ، كَأَنَّهُ تَثَاقُلٌ يَطْلُبُ فَاعِلُهُ الْوُصُولَ إِلَى الْأَرْضِ لِلْقُعُودِ وَالسُّكُونِ بِهَا. وَالْأَرْضُ مَا يَمْشِي عَلَيْهِ النَّاسُ. وَمَجْمُوعُ قَوْلِهِ: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْكَارِهِينَ لِلْغَزْوِ الْمُتَطَلِّبِينَ لِلْعُذْرِ عَنِ الْجِهَادِ كَسَلًا وَجُبْنًا بِحَالِ مَنْ يُطْلَبُ مِنْهُ النُّهُوضُ وَالْخُرُوجُ، فَيُقَابِلُ ذَلِكَ الطَّلَبَ بِالِالْتِصَاقِ بِالْأَرْضِ، وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْقُعُودِ، فَيَأْبَى النُّهُوضَ فَضْلًا عَنِ السَّيْرِ. وَقَوْلُهُ: إِلَى الْأَرْضِ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ بَدِيعٌ: لِأَنَّ تَبَاطُؤَهُمْ عَنِ الْغَزْوِ، وَتَطَلُّبَهُمُ الْعُذْرَ، كَانَ أَعْظَمُ بَوَاعِثِهِ رَغْبَتَهُمُ الْبَقَاءَ فِي حَوَائِطِهِمْ وَثِمَارِهِمْ»(3).

وهذا التكاسل شبيه بكسل المنافقين الذين وصفهم الله تعالى في قوله: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 141]، وقوله أيضا: (وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى) [التوبة: 54]، فالتثاقل عن الصلاة صفة المنافقين.

[13] الاتكاء:

ومن دلالات هذه الهيئة في القرآن الكريم:

1- الراحة والترف: قال الله تعالى: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) [يوسف: 31]، قال الطاهر ابن عاشور: «وَالْمُتَّكَأُ: مَحَلُّ الِاتِّكَاءِ. وَالِاتِّكَاءُ: جَلْسَةٌ قَرِيبَةٌ مِنَ الِاضْطِجَاعِ عَلَى الْجَنْبِ مَعَ انْتِصَابٍ قَلِيل فِي النصب الْأَعْلَى. وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاتِّكَاءُ إِذَا أُرِيدَ إِطَالَةُ الْمُكْثِ وَالِاسْتِرَاحَةِ، أَيْ أَحْضَرَتْ لَهُنَّ نَمَارِقَ يَتَّكِئْنَ عَلَيْهَا لِتَنَاوُلِ طَعَامٍ. وَكَانَ أَهْلُ التَّرَفِ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ كَمَا كَانَتْ عَادَةً لِلرُّومَانِ، وَلَمْ تَزَلْ أَسِرَّةُ اتِّكَائِهِمْ مَوْجُودَةً فِي دِيَارِ الْآثَار»(4).

2- هيئة جلوس أهل الجنة: قال الله تعالى: (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا) [الكهف:31]، قال الطاهر ابن عاشور: «وَالِاتِّكَاءُ: جِلْسَةُ الرَّاحَةِ وَالتَّرَفِ»(5).

ومنه قوله تعالى: (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) [الرحمن: 54]، قال الطاهر ابن عاشور: «وَالْاِتِّكَاءُ: جِلْسَةُ أَهْلِ التَّرَفِ الْمَخْدُومِينَ لِأَنَّهَا جِلْسَةُ رَاحَةٍ وَعَدَمِ احْتِيَاجٍ إِلَى النُّهُوضِ لِلتَّنَاوُلِ»(6).

قال الله تعالى: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) [يس: 55- 56].

ومنه قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) [النجم: 17-20]، قال الطاهر ابن عاشور: «حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ كُلُوا وَاشْرَبُوا [الطّور: 19]، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَّكِئِينَ، أَيْ وَهُمْ فِي حَالِ إِكْلَةِ أَهْلِ التَّرَفِ الْمَعْهُودِ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ كَانَ أَهْلُ الرَّفَاهِيَةِ يَأْكُلُونَ مُتَّكِئِينَ»(7).

ومنه قوله تعالى: (مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ) [الواقعة: 16- 17].

ومنه قوله تعالى: (وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا) [الإنسان: 12- 13]، قال الطاهر ابن عاشور: «وَهِيَ جِلْسَةُ ارْتِيَاحٍ، وَكَانَتْ مِنْ شِعَارِ الْمُلُوكِ وَأَهْلِ الْبَذَخِ»(8).

لما كان الاتكاء هيئة أهل الترف والملوك في الدنيا، جزى الله سبحانه وتعالى المؤمنين في الجنة بأن جعلهم على تلك الهيئة كأنهم الملوك، مترفين مرتاحين منعمين، جزاء بما عملوا في الدنيا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- التحرير والتنوير 8 ب/39.

2- التحرير والتنوير 30/232.

3- التحرير والتنوير 10/197- 198.

4- التحرير والتنوير 12/262.

5- التحرير والتنوير 15/314.

6- التحرير والتنوير 27/368.

7- التحرير والتنوير 27/47.

8- التحرير والتنوير 29/388.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق