وحدة الإحياءدراسات عامة

لماذا تأخرت العناية بالفكر المقاصدي في فكرنا الإسلامي؟

تعد مقاصد الشريعة من الموضوعات الأساسية التي لا يستغني طالب علم أَيُّ علم من علوم الشريعة أو علم الاجتماع، والأنسنة عنه وعن معرفته وعن آثاره، وكيفية توجيه العلوم وِجهة المقصد والغاية. إن الاتجاه القرآني الذي تعلمناه من كتاب الله أنه يرفض أي شيء بما في ذلك العلم الذي ليس للإنسان فيه فائدة في دنياه أو أخراه، بناء على المنطلقات التي حددها؛ منطلقات الخير والشر، العدل والظلم، الاستقامة والانحراف، الهداية والضلال..

 بناء على كل تلك المنطلقات والمؤشرات التي عُني القرآن المجيد ببيانها وتمييزها وذِكر علامات أصحابها والمنتمين إليها، جعل المقاصد أساسا في تحديد صفة العمل؛ فلا عمل بدون مقصد، ولا مقصد، لا يكون الخير والقسط والعدل والهدى والحق سداه ولحمته، فالأمور بمقاصدها، والأعمال بالنيات والمقاصد. إنها مبادئ وقواعد أرساها القرآن الكريم، واتبعها سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؛ فحين كان يتلو على الناس آيات ربه، كان يعلمهم الكتاب ويكشف لهم عن مقاصده وعن غاياته وأهدافه، وكيف يتعلمونه، وكيف يُعلمونه، وكيف يعيشونه واقعا في حياتهم، فكان صلوات الله وسلامه عليه، الهادي البشير النذير، الكاشف عن ذلك كله، والمبيِّن لكيفيته.

 ومنه فقد كانت بدايات المقاصد بدايات متينة قوية سليمة، فبثت أصولها في كتاب الله وقام رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ببيانها. بدأت بالتعليلات التي امتلأ القرآن الكريم بها: ﴿ليلا يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسل﴾ (النساء: 164)؛ ﴿كي لا يكون دولةً بين الاَغنياء منكم﴾ (الحشر: 7)؛ ﴿يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الاِنسان ضعيفًا﴾ (النساء: 28)، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي ربطت الأعمال بمقاصدها ونيات أصحابها، وربطت ثمارها وتأثيرها وحسنها وقبحها بذلك المقصد الذي يتغياه ويتبناه الإنسان بناء على توجيه الشارع الحكيم، وعلى ما جاء في كتاب الله وفي هدي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من ملاحظة المقاصد. ولذلك ألغيت قيمة أي عمل أو قَول لا مقصد له، ولا هدف له ولا غاية؛ فالمقاصد إنما تستمد قوتها وحسنها من كونها مقاصد سليمة حكيمة، والمقاصد السليمة الحكيمة لها شروطها ولها مواصفاتها، وجاءت توجيهات سيدنا رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، إلى قضايا المقاصد والأهداف، في غاية الوضوح، وكيف لا يكون ذلك والقرآن الكريم في كل أمر ينبه إلى المقاصد؛ ﴿وما خلقت الجن والاِنس إلا ليعبدون﴾ (الذاريات: 56) والتعبد والعبادة، بحد ذاتها، لا تقترب من قريب ولا من بعيد من فكرة التعبد الغامض الذي لا يحمل مقصدا ولا يشتمل على معنى؛ إذ أن الله تبارك وتعالى حين رحم البشرية بإرسال محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، إليها وأنزل عليه آيات بينات، ذلك كله من أجل أن ينهي عقودا سبقت لم يكن الإنسان فيها قد بلغ مستوى النضج والكمال الذي يؤهله لأن يكون بالمستوى الذي أراده رسل الله المُتَتَابعون المتتالون الذين جاؤوا البشرية كل منهم يضع لبنة في البناء، حتى اكتمل ولم يبق فيه إلا موضع لبنة واحدة، وهي اللبنة التي وضعها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، خاتم النبيئين وإمام المرسلين.

من هنا يستطيع الإنسان أن يستغرب كيف استطاعت أفكار اللامعقول الذي يُطلق البعض عليه في بعض الأحيان فكرة “التعبد” ويَعنون بالتعبد؛ أن يكون الأمر مرتبطا فقط بتنفيذ أوامر لله قد لا يعقلها الإنسان، ولا يدري معناها ولا يفهمها، ولكن عليه أن ينفذها، و”الله تبارك وتعالى أرحم وأكرم من أن يأمر الإنسان بأن يقوم بشيء لا معقول، ولا معنى له ولا يستطيع الإنسان أن يدرك أبعاده وأعماقه”.

هذه اللبنة التي وضعها خاتم النبيين، صلى الله عليه وآله وسلم، هي اللبنة الخاتمة الأخيرة، التي يراد لها أن تشمل كل الشؤون والشجون البشرية، ومن هنا كان القرآن تِبيانا لكل شيء وهدى ورحمة.

وليس عبثا أن تأتي الآية التالية لهذه الآية التي أعلن القرآن “تِبيان لكل شيء” تشتمل على مجموعة من الكليات التي اتفقت البشرية على أنها هامة، وأن ما من بشر إلا وعليه أن يتبناها، وأن يرفع لواءها: ﴿إن الله يامر بالعدل والاِحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون﴾ (النحل: 90). فكأن كون القرآن الكريم تِبيانا لكل شيء؛ إنما هو تبيان لجميع أنواع الكليات التي تندرج تحتها سائر الجزئيات التي تحتاجها البشرية إلى يوم الدين، ومن هنا يُعلن القرآن الكريم؛ ﴿اَوَلَمْ يكفهمُ أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم﴾(العنكبوت: 52).

 فالقرآن، إذن، أصبح مصدر غَناء، ومصدر كفاية للبشرية كلها، فلا تحتاج البشرية إلى شيء آخر غير رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يتلو عليها آياته ويعلمها الكتاب والحكمة ويزكيها به، ويبين لها مناهج التعامل معه، وتحويل الواقع المتحرك المتغير باتجاه هُداه ونوره وبينات آياته، ليكون مندرجا تحت الهدى، وتحت الحق والقيم، والمقاصد العليا التي أرسى الله دعائمها، ولذلك كانت مُستغَربةً تلك الأفكار المنبِّهة والمعلِنة بأن هناك في الدين أمورا غير معقولة من الصعب إدراك مقاصدها..

 أطلق البعض عليها اسم “التعبديات”؛ أي أمور نقوم بها دون أن نعقل معناها، لأنها مندرجة تحت العبادة التي قوامها أَمْرٌ وطاعة، وتجاهل هؤلاء أنه ما من أمر يصدر عن العليم الخبير الحكيم، جل شأنه، إلا وله مقصد وله غاية وعلة، وإلا فإنه قد يندرج تحت مفهوم السُّدى أو مفهوم العبث، وهي مفاهيم قد رفضها القرآن الكريم وشجبها وحذر منها، ومن هنا كانت المقاصد قضية أصيلة تمثلت بالنيات، تمثلت بأن العمل لا يُعتد به ما لم يقم على مقصد وغاية ونية تدرجه تحت التصنيف القرآني للأعمال؛ ﴿فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره﴾؛ فالأعمال فيها الخيِّر وفيها الشرير، وفيها المقبول وفيها المرفوض، ولا يُقبل عمل بدون مقصد ولا يُقبل عمل بدون نية، ولا يرتفع إلى الله، سبحانه وتعالى، شيء من أعمال الخلق لا ترفعه النية ولا يرفعه المقصد، فكان غريبا أن تأتي غفلة في مرحلة من مراحل تاريخنا عن هذا الأمر الأساس، ونجد أن فقهاء متقدمين وغير متقدمين يتجاهلون هذا الأمر البيِّن الظاهر، وينصرفون نحو أفكار أخرى منافية لهذا التوجه، غير مرتبطة به الارتباط الوثيق الذي كان ينبغي أن يتم. فآيات الكتاب الكريم كلها توجيه إلىه وهدي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يُنبّه إليه ويقود الناس لالتزامه ومعرفته، ويحصر كل أوجه الاعتراف بالعمل بالنية وغير النية، والمقصد لا يكون العمل عملا ولا يكون عملا فاعلا أو مؤثرا في الحياة كلها.

كنا نتوقع أن تختفي تلك الأفكار التي شاعت بين أهل الكتب التي سبقتنا؛ أفكار التعبد واللامعقول، وأن الارتباط بالدين إنما هو ارتباط بأمر لا يعلمه إلا الله، جل شأنه، ولا يعلمه إلا من كلف به وأنزله، وبالتالي يكون حكرا على أولئك العباقرة، أو الذين يزعمون أنهم أحبار وربانيون وما إلى ذلك يحتكرون المعرفة؛ أي معرفة المقاصد ومعرفة الغايات الإلهية، وبمقتضى ذلك كانوا يجهِّلون كل من عداهم ويَصمونه بالقصور، وبأنه لا حق له أن ينظر في النصوص.

 وإلى وقت قريب كانت الأديان الأخرى ومنها أديان كتابية تأمر أتباعها بأن لا يقرأوا كتبها أو مصادرها الأصلية؛ لأنهم أقل من أن يفهموها، وأقل من أن يدركوا مقاصدها، وأنهم قد يضلون بقراءتها والعناية بها، تلك هي بعض أمراض أهل الكتاب، دخلت إلينا بأشكال مخففة أو غير مخففة ليشيع بيننا ذلك النوع من التفكير الذي تَجَنَّبَ المقاصد والكشف عنها، وحتى القرن الرابع الهجري بدأت هناك بوادر، وخاصة حين اختلطت الأمة الإسلامية بأمم أخرى، وبدأت ثقافات وأفكار تأتي إلى ساحة الفكر الإسلامي من أمم لها ماض ولها تاريخ ولها وفلسفات وضعية أو جاهلية أو إنسانية، انبثقت من أفكار البشر لتظهر فكرة اتهام بعض العبادات، اتهام بعض الأحكام الشرعية بنوع من التهم.. وإذا بشخصية هامة متفلسفة مثل شخصية “الجاحظ”، وقبله “النَّظام”، تنتقد القول بالقياس بطريقة غير الطريقة التي اتبعها بعض الذين انتقدوا القياس لأسباب وجيهة. أما “النَّظام” فقد انتقد القياس زاعما أن “الإسلام كله، وشريعته بصفة خاصة، إنما بُنيت على الجمع بين المختلفات والتفريق بين المتماثلات”، فكيف يمكن أن يقال لشريعة كهذه إن فيها حكما، وإن فيها مقاصد وإن فيها عللا، ويمكن أن يقال بأن القياس يمكن أن يكون مصدرا من مصادر فقهه، وذكر “النَّظام” في بعض من كتبه، حوالي سبعين قضية من تلك القضايا التي زعم فيها أن هذه الشريعة الإسلامية تُفرِّق بين المتماثلات، وتقبل وتتقبّل فكرة المختلفات، ومن ذلك زعم أن قطع يد السارق يتم بسرقة نصاب هو ربع دينار، ولكن حينما نأتي إلى دِية اليد فَدِيتها خمسمائة دينار، كيف نجمع بين أن تُقطع هذه اليد بسرقة ربع دينار ثم تودى بخمسمائة دينار؟ وقد لخص أحدهم مقولة النّظام هذه؛ بقوله:

يد بخمسمئين عسجد فُديت     فما بالها قطعت في ربع دينار

قال بعضهم مجيبا على تساؤل هذا:

عز الأمانة أغلاها وأرخصها      ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

   قد يكون هذا جوابا مناسبا، وقد نحتاج إلى جواب آخر، ولكن في سائر الأحوال شاعت هذه الفكرة أن هذه الشريعة تعبدية كغيرها من شرائع أهل الكتب السابقة في محاولة لإيجاد فصل كامل بين التعقل وبين فقه التدين، وجعل فقه التدين فقها يقوم على اللامعقول، وفقه التعقل، إن صح التعبير، يقوم على المعقولات. ومن هنا فرطوا بين الحكمة وبين الشريعة.

وجاء ابن رشد ليكتب كتابه المعروف “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال” كأنه أراد الرد على أمثال هؤلاء. هذه بعض الأفكار التي أدت على تأخر إبراز المقاصد باعتبارها لباب الشريعة، ولباب حكمها وحكمتها الذي كان ينبغي أن يبرز في جيل التابعين أو كبار الصحابة بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن رأينا جذوره وأسسه في التعليلات التي جاء القرآن بها والتي علّمنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إياها وهو يتلو علينا آيات الكتاب الكريم، ويعلمنا الحكمة، ويزكينا بذلك الكتاب.

هذه الأفكار عرقلت كثيرا ظهور هذا الأمر. ووجهت في بداية الأمر، بالتنبيه إلى وجود مقاصد ولكن المقاصد التي ذكرت على لسان إمام الحرمين الجويني، ثم على لسان الإمام الغزالي ثم تتابعت الكتابات المنبّهة على ذلك وإن كانت قليلة وتقارب الأمر دون كبير تفصيل اللهم إلا إذا كان من الحكيم الترمذي الذي كتب كتابه محاولا أن يبيّن الحكم في التشريع. ونحن نعلم أن الأصوليين قاسوا على ما يمكن أن تُستنبط منه العلة، ورفضوا القياس على ما تُستنبط منه الحكمة؛ باعتبار أن الحكمة أمر غير منضبط وإن كان هو لباب العلة؛ ولكن رغم ذلك فلا يعللون بالحكمة لعدم انضباطها ويعللون بالعلة التي هي منضبطة أكثر ويمكن أن يُبنى عليها القياس. في حين لا يستطيعون على حدّ ما ذكروا أن يبنوه على الحكمة وإن كانت الحكمة هي لباب العلة وهي الهدف الأساس منها.

فإذن، هذه مؤشرات تاريخية أردت أن أبين من خلالها كيف تتم الغفلة أحيانا عن أمور شديدة الظهور، لا يمكن أن تخفى على ذي بصر وبصيرة، ولكن قد يكون الخفاء بناء على تقدير، العزيز العليم، الذي قدّر في الأرض أقواتها، وقدّر فيها المعارف التي يصل إليها ويبلغها إنسانها؛ فنجد في كل عصر من العصور أنواعا من المعارف قد لا نجدها في عصور سابقة ﴿ذلك تقدير العزيز العليم﴾ (الأنعام: 97)، الذي يختار، جل شأنه، أوقاتا وبيئات معينة لتتجلى فيها المعرفة التي يريد الله، تبارك وتعالى، إيصالها إلى الناس سواء أكانت معرفة تأتي عن طريق الأنبياء، أو معرفة تأتي عن طريق إلهام وتوجيه البشر العاديين، أو عن طريق التماس أولئك البشر لها في سنن الله، وفي النظر والتفكر في الأنفس وفي الآيات وفي الآفاق ليصلوا إلى ذلك ويبلغوه.

ثم بعد ذلك بدأ أهل العلم يتداولون فكرة المقاصدية بأشكال مختلفة سواء أكانت بوصفها عللا وأسباب كما حدث عند القائلين بالقياس، أو كانت حكما ومقصد كما هي عند المعنيين بالمقاصد. ثم جاء من عمل على البحث المقاصدي محاولا أن تصنيفه على مستويات، ففعلوا ذلك بعض أهل العلم منذ القرن الخامس الهجري وتتابع البحث في ذلك إلى أن وصل الإمام الشاطبي الذي عُرف بالمقاصد، ولكن نظر الإمام الشاطبي يكاد يَنحصر بمقتضى تلك التصنيفات بمقاصد المكلفين التي صنفها إلى: مقاصد ضرورية، وحاجية، وتحسينية، وأن هذه المقاصد قد تعود على المكلِّف الشارع، سبحانه وتعالى، إذا لاحظنا فيها أن الشارع إنما شرع هذا التشريع؛ كالجهاد، الزكاة، حد القذف، شرب الخمر لحفظ الضروريات الخمس؛ (المال، النفس، العرض، الدين، العقل..).

 الأحكام الشرعية، خاصة المتعلقة منها صنفت لتكون متصلة بهذه الضروريات التي هي مقاصد المكلفين ومقاصد الشارع، سبحانه وتعالى، من إرساء دعائم تلك الأحكام لحماية ضروريات وحاجيات وتحسينيات تتعلق بحياة المكلفين الذين استخلفهم الله، جل شأنه، في هذه الأرض ليعمروها وليقيموا الحق والعدل فيها، فبدأ الفكر المقاصدي يأخذ موقعه الملائم أو القريب من أن يكون ملائما في البحث المعرفي والفقهي والأصولي في الساحة الإسلامية، وينتشر على استحياء.

  إلى جانب هذا؛ كانت هناك عقبة أخرى أمام الفكري المقاصدي؛ وهي أن الأشاعرة حينما وصفوا الله، جل شأنه، بالصفات العلا التي يستحقها، جل شأنه في ذاته العلية، والتي لابد أن تنسب إليه؛ من قدرة وإرادة وعلم وحياة إلى ما غير ذلك، جاءوا إلى قضية الغائية والمقاصدية، فقالوا إن الله، سبحانه وتعالى، غني عن أن يقصد شيئا أو يكلف بشيء بناء على مقصد وغاية، فهو مُنزه على الغرض؛ لأنهم افترضوا أن المقصد يتصل بالغرض والمنفعة والفائدة، وأن الله، تبارك وتعالى، منزه عن الغرض، منزه طلب الفائدة.

 وبالتالي فإن جميع التشريعات، وسائر الأوامر والنواهي التي وردت في كتاب الله، وبَيَّنَها واتبعها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وعلمنا مناهج العمل بها باعتبارها أمور تعبدية لا غرض للشارع فيها؛ الشارع مُنزه عن الغرض، ومُنزه عن الغاية، ومُنزه عن طلب المقصد، وتجاهلوا كل تلك الأمور، بناء على ذلك الجدل الفلسفي المريض الذي ثار في مرحلة متقدمة من تاريخنا الفكري ليصل بعض المعنيين بذلك الجدل إلى فكرة عدم وجود مقاصد في الأحكام، وأن المقاصد تنافي التنزيه لله، جل شأنه، عن الغرض والهدف والغاية..

 ولقد أوجدت تلك الفكرة المصابة كثيرا من الأفكار المرهِقَة والمرهَقة في الساحة الإسلامية، فنجد العالِم في علم الكلام يُنزه الله، جل شأنه، عن الغرض والغاية وينفي أن يكون لأي شيء يفعله، جل شأنه، أو يأمر به أو ينهى عنه، أن يكون فيه غرض؛ لأن صاحب الغرض إنما لديه نقص يريد استكماله بتحقيق ذلك الغرض أو تحقيق ذلك الهدف، ومادام الله منزها تمام التنزه عن ذلك، فذلك يعني أن عليهم أن ينفوا عنه المقاصدية؛ لأنها مساوية في نظرهم للغرض وللغاية، والله تبارك وتعالى مستغن عن كل ما عداه ولا يحتاج شيئا يستكمله بتلك الأغراض أو بتلك المقاصد والأهداف، وقد كَلفت هذه الأفكار المريضة ساحتنا الفكرية كثيرا من الأوقات والجهود، وضاعت فيها أوقات ثمينة كانت الأمة أحوج ما تكون إليها لتعميق فكرها وإعادة بناء علاقتها بالقرآن المجيد. ومن المؤسف أن الأمة استُدرجت إلى تلك المسائل واستسلمت لها، ودخلت في هذا الموضوع فقط؛ لأن هناك توجها كان يريد أن يطلق العقل في غير ساحاته ويمنحه من الصلاحيات ما لا يستطيع أن يتحمله، وآخر يريد أن يُقيّده ويشلّه ويسجنه، وكانت نتيجة تلك المعركة المفتعلة التي لم يكن لها مسوغ على الإطلاق، وأن الساحة الفكرية الإسلامية إنما استُدرجت لها بناء على ذلك التداخل الذي حدث بين ثقافات وأديان وأفكار ومذاهب، أدت إلى هذه الحالة التي عادت على التفكير المقاصدي بكثير من الأضرار.

كنا نجد أئمةً أعلام، أمثال إمام الحرمين، أمثال الغزالي، أمثال الرازي، حينما يكتبون كتبهم في علم الكلام يؤكدون على نفي الغاية والمقاصدية بناء على تلك الفكرة الأشعرية التي ما وُجدت إلا كرد فعل على الفكرة الاعتزالية التي أعطت للعقل أكثر مما يحتمل، وفتحت أمامه ساحات لا يستطيع ارتيادها مثل قضية شكر المنعم الذي يجب بالعقل، والحسن والقبح العقليان يمكن أن يُوَصِّلا إلى مثل ما يوصل الشرع إليه من استحسان واستقباح بعض الأفعال والتصرفات الإنسانية وما إلى ذلك، نتيجة لذلك وُجد الأشاعرة ليُقَيِّدُوا العقل أو يُلغوه في بعض الأحيان، ففي علوم الكلام كانوا يصرون على أنه لا مقاصدية في شيء؛ لأن المقاصدية تعني الغائية  والفائدة، والله مستغن بذاته عن كل من عداه وكل من سواه، وبالتالي فالغرض إنما يطلبه ويسعى إليه المفتقر، والله غني عن العالمين وغني عن كل شيء.

هذه الأفكار كلها حالت دون بروز الفكر المقاصدي، نجد العالِم في أصول الفقه يؤصل للقياس، وللحكمة، وللسبب، وللغاية، ويدافع عنها؛ لأنه قد أخذ بالقياس كدليل، لكنه حينما يأتي إلى علم الكلام وينهج النهج الأشعري يُصر على أنه لا يمكن أن تكون هناك غاية أو أغراض أو مقاصد.

نستطيع أن نقول إن طلبة العلم قد اتضحت أمامهم وبين أيديهم السبل، وصاروا يعرفون أن كل ما شرعه الله، سبحانه وتعالى، وأن مبنى الشريعة وأساسها على تحقيق مصالح الخلق ومساعدتهم على الوفاء بالعهد الإلهي، والقيام بحث الاستخلاف، وأداء الأمانة التي أؤتمنوا عليها، والنجاح في اختبار الابتلاء، وهذا قد دفع بالبحث المقاصدي إلى مساحات واسعة عليه أن يرتادها، ولكن لابد لنا من تفعيل المقاصد لأنه أمر، للأسف الشديد، مازال يعد قاصرا وإذا لم يَتم تفعيل المقاصد والعناية بها، وبناء اجتهادات معاصرة تغطي الحاجات التشريعية للمشكلات وللأزمات والنوازل والوقائع المعاصرة، فإن المقاصد لا يمكن أن تخرج من دائرة فضائل الشريعة إلى أحكامها.

فكيف نُفعِّل المقاصد؟ هذا السؤال بقي معلقا ومازال يحتاج إلى جواب، وكان الجواب ما وفقنا الله، جل وشأنه، إليه من أن مقاصد القرآن الكريم العليا إنما هي ثلاثة؛ التوحيد والتزكية والعمران، فكل فعل إنساني في هذا الكون إنما هو حاصل نوع من التفاعل بين الغيب وبين عالم أمر الله، جل شأنه، وهو غيب منه ما هو مطلق ومنه ما هو نسبي وبين الإنسان والقدرات التي منَّ الله عليه بها ليكون فاعلا ومُستخلَفا وقادرا على ممارسة مهام الاستخلاف، والعمران الذي هو حق التسخير الإلهي لهذا لكون الذي خلق لنا ما في الأرض جميعا، هذا الخلق وهذا التسخير يحتاج منا إلى استثمار، وما استثمار ذلك بممكن إلا في حالة إعمار الأرض وعمرانها؛ فالتوحيد والتزكية والعمران هي المقاصد القرآنية العليا الحاكمة التي يمكن أن تفعِّل جميع المقاصد التي تنسب إلى الشارع المكلِّف، سبحانه وتعالى، وإلى المكلَّف المرحوم وهو الإنسان المؤمن الذي يلتمس الهدى ودين الحق.

Science
الوسوم

الدكتور طه جابر العلواني

• رئيس المجلس الفقهي بالولايات المتحدة الأمريكية سابقا
• رئيس جامعة قرطبة الإسلامية بوشنطن سابقا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق