مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

قيم الفتوة وبناء الانسان المعاصر

إن البناء والتنمية لمن الأمور التي تسعى كل أمة إلى تحقيقها في مجالها على جميع الأصعدة، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، ذلك أن هذه التنمية من بين الضمانات لبقاء الأمن والاستقرار، والشكر على ذلك، قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4].

ولا بد لهذا البناء والتنمية من أسس يقوم عليها فيكون بذلك بناءً أُسِّسَ على قواعد صلبة من التقوى والفتوة، ولا يبقى مجرد تخمينات وتنظيرات لا تلامس الواقع ومستجداته.

إن موضوع الفتوة وقيمها في بناء إنسان العصر، لمن المواضيع التي كثر فيها الكلام من جهات شتى سنية كانت أم شيعية، كل منها قدمها وألبسها مقاسه انطلاقا من قناعاته ومبادئه، والغالب على هذه المواضيع ربطها الفتوة بالمجال القيمي الأخلاقي في أسمى تجلياته. ذلك أن مصطلح الفتوة ارتبط عند العلماء بمجال مكارم الأخلاق، وما ينبغي أن يكون عليه سلوك الانسان المسلم خاصة.

إن أي تأسيس وأي بناء يريد أن يضمن لنفسه تجنب العثرات وبالتالي استمراريته ودوامه، لا بد وأن يستقي مادته من مشكاة الكتاب العزيز وهدي الحبيب صلى الله عليه وسلم، فهما الضامنان والكفيلان بتحقيق ذلك.

وبالتالي فما ماهية هذه الفتوة؟ وما هي المصطلحات التي يمكن أن تتقاطع وتتمايز معها؟ وهل لها أصل من الأصلين، لكي يُنسب إليها كل مليح ويُنزع عنها كل قبيح؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب، فكم فتوةً يمكن أن نستشفها منهما؟ وكيف ستسهم هذه الفتوة وقيمها في بناء إنسان هذا العصر المنشود؟ أسئلة من بين أخرى سأحاول تلمسها من خلال هذه الورقة البحثية.

المحور الأول: الدراسة المفهومية لمصطلح الفتوة.

جاء في معجم مقاييس اللغة أن الفتوة من الفعل المعتل الآخر “فتى” والفاء والتاء والحرف المعتل أصلان: أحدهما، يدل على طراوة وجدة. والآخر على تبيين حكم[1] أي من الفتيا.

والمعنى الأول – الجدة والطراوة – يرتبط ارتباطا وثيقا بالفتوة/الفتى ليس بالمعنى الظاهري فحسب أي بالشباب كما يدل على ذلك قول القتيبي: «ليس الفتى بمعنى الشاب والحدث، إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال لقول الشاعر:

إن الفتى حمال كل ملمة     ***    ليس الفتى بمنعم الشبان»

 بل بالمعنى الباطني كذلك.

فقد انتقل معنى الفتوة عند أهل الحقيقة إلى معاني روحية سامية، هي فتوة القلب والروح[2] ويصعب إعطاء تعريف اصطلاحي محدد لها، فقد حاول أهل التصوف تعريفها فازدحمت كتبهم بتعريفات كثيرة حتى أن الشيخ نفسه قد يعرفها أكثر من تعريف، منها قول جعفر الخلدي، «الفتوة احتقار النفس وتعظيم حرمة المسلمين»[3]، وقول أبو بكر الشَّبَهِي[4]: «الفتوة حسن الخلق وبذل المعروف»[5] ₍…₎، فقوام هذه الفتوة إذا يتجلى في خلق الإيثار[6] وبالتالي يمكن القول: إن الفتوة هي الإيثار.

إذا فالجانب الباطني الأخلاقي المرتبط بماهية الإنسان أو بالكائن البشري، هو الذي يحدد ويجلي لنا هذه الماهية، لأنه قد ترسخ منذ عهد اليونان أن هذا الكائن البشري امتلك هذه الصفة أي كونه بشرا وإنسانا، انطلاقا من امتلاكه لملكة العقل التي يميز بها الأشياء غثها من سمينها، وبالتالي فهل هذا معيار يستقيم للحكم على الانسان بأنه إنسان، في مقابل الفتوة وما تعنيه من أخلاق؟، «لقد تقوى اعتقاد الناس في هذا الذي قرره اليونان جيلا بعد جيل حتى بلغ النهاية في زمننا هذا، فأضحى الجميع يتنافسون على نسبة “العاقلية” و”المعقولية” و”العقلانية” لما يقولون ويفعلون لكي ينتزعوا المشروعية لأقوالهم والتزكية لأفعالهم، حتى اختلط العقل بالهوى واشتبه الحق بالباطل»[7].

المحور الثاني: المصطلحات ذات الصلة بالفتوة، تقاطع وتمايز.

لقد وضع الدكتور طه عبد الرحمن حدودا ومنارات يحدَّدُ بها كون الكائن البشري بشرا وإنسانا، ناقدا وناقضا للمسلمة السابقة، إذ إن معيار تحديد وتمييز الكائن البشري عن الحيواني لا يقف عند امتلاك العقل من عدمه، بل هناك محددات ثلاثة، وهي: الانسانية، والرجولية، والمروءة، وهي محددات مكملة لبعضها البعض، ففي مقام التدلي، تعتبر المروءة جملة الأخلاق التي يحصل بها للإنسان كمال رجوليته، والرجولية جملة الصفات الخلقية التي يحصل بها للكائن البشري كمال إنسانيته، والانسانية امتلاك الكائن البشري للقوة الخُلقية “فإذا فسد الانسان في قدرته على أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة وبها الاعتبار”[8]، وعليه تكون أخلاقية المروءة أكمل من أخلاقية الرجولة وأخلاقية الرجولة أكمل من الأخلاقية الانسانية.

فما موقع الفتوة من بين هذه المصطلحات الثلاثة هل تصنف في أسمى مقامات الترقي، أم بالعكس من ذلك، تدرج في أدنى مقامات التدلي؟ مع العلم أن الكل يكتسي صبغة أخلاقية كما تقدم إلا أنها تتمايز مع بعضها البعض.

لقد شهد مصطلح الفتوة عبر مر العصور تغيرات وتحولات في دلالته، تراوحت بين ما ينبغي أن تكون عليه الفتوة والفتيان من كريم الأخلاق، وبين من ادعى لنفسه صفة الفتوة لتحقيق أغراضه المنحطة.

فقبل الاسلام، كانت فتوة الأخلاق والشهامة والنجدة والكرامة الممتزجة بالنزعة القبلية العصبية، وفي عهد الرسالة الإسلامية شهدت الفتوة تغيرات عدة بين تدنٍّ وترقٍّ؛ فنجد الفتوة التي جاءت بعده صلى الله عليه وسلم في عصر الفتن وبعدها، بدءًا “بفتوة الخوارج الشاذة؛ من استغلال الشعر مطية للإثارة والدفع بالشباب إلى المهالك، واستغلال التغالي في العبادة لإشباع الأنانية المتضخمة، ولفت الأنظار واستقطاب المنبهرين من العامة، مرورا بفتوة القرامطة والزنج السائرين على خطى الخوارج بتأويلات باطنية بعيدة للقرآن الكريم، أباحت لهم الثورة والإفساد في الجزيرة، والهجوم على أقدس المقدسات بمكة، ثم فتوة الجماعات الباطنية أتباع الحسن ابن الصباح[9] بإعداد اغتيالات مدروسة قذرة بواسطة شباب متحمس مُعدّاً إعدادا إيديولوجيا، ثم فتوة العيارين والشطار واستعادة فتوة الصعاليك الجاهلية بما لها وما عليها، ثم فتوات الطرب والغناء والرماية والصيد جمعا بين الفتوة الجاهلية والفتوة الاسلامية في العصر الأموي، ثم فتوة الغلمان الأتراك في عصر المعتصم العباسي تخفيفا من سيطرة العنصر العربي على الجيش النظامي، فالفتوة الصوفية واستعادة الأدوار المضيئة من الفتوة المحمدية على صعيد الأخلاق، والجمع بين الظاهر والباطن، والتفاني في خدمة الجميع ونكران الذات، وحفظ الأمة من الهزائم النفسية والأخلاقية”[10].

إن الفتوة بمعناها الصوفي الراقي، هي التي تدور على تحصيلها والتحقق بها كل أمة أرادت أن تبني إنسانها، بناءً مؤسسا على قواعد ثابتة من القيم والأخلاق المحمدية، فهي تفضل بذلك الإنسانية والرجولة والمروءة جميعا، وأنها الأقدر على صنع هوية الإنسان، ₍…₎ وبيان ذلك أن الفتوة في مقارنتها مع الانسانية في باب كمال التدين، وفي مقارنتها مع الرجولة في باب كمال القوة، وفي مقارنتها مع المروءة في باب كمال العمل، تفضلهم جميعا من جهتين اثنتين على الأقل[11]؛

  • فضل الفتوة على الإنسانية في كمال التدين:

في الجهة الأولى، يعتبر التدين في الإنسانية ممارسة اختيارية؛ فالإنسان قد يتجاهل واقع الدين الإلهي من حوله ₍…₎ وذلك ما يعرف منذ مطلع القرن العشرين باسم «النزعة الإنسانية»، أما التدين في الفتوة فإنه ممارسة ضرورية؛ إذ إن الفتى يجد في ممارسة الدين الإلهي المصدر الأول الذي ينبغي أن يأخذ منه أخلاقه ₍…₎ فلا فتى من غير دين إلهي متبع ولا فتوة لمن لا إيمان له برب العالمين.

والجهة الثانية، يعتبر التدين فيها لدى الفتى ممارسة ذات أطوار، لاحقها أفضل من سابقها، كما يتجلى ذلك في تتابع الأديان السماوية – بل في الدين الإسلامي نفسه، إذ الفتى في ترقٍّ دائم لتحصيل مقامات متمايزة مع بعضها البعض، فالفتى ابن وقته – بينما هو عند الإنسان ممارسة متساوية لا فضل لبعضها على بعض.

  • فضل الفتوة على الرجولة في كمال القوة:

في الجهة الأولى تعتبر القوة في الفتى أصلية، بينما هي في الرجل صفة فرعية.

وفي الجهة الثانية تعتبر القوة في الفتى صفة مبسوطة، بخلاف القوة في الرجل فإنها محدودة بالمشيب والكهولة وهما علامتان على الضعف، فلا فتوة إلا مع وجود القوة التي لا تضاهى. وخير مثال على ذلك قوله تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60].

والقوة بخلاف القهر “فإن الفتيان لهم القوة وليس لهم القهر إلا على نفوسهم خاصة”[12].

  • فضل الفتوة على المروءة في كمال العمل

الجهة الأولى أن دائرة العمل لدى الفتى متعدية غير قاصرة، بينما هي لدى المرء قاصرة لا متعدية؛ فالمرء يسعى لتحصيل مصالح تخصه هو بعينه، فيعمل على تزكية نفسه لأجل نفسه، فأفعال المرء – على صلاحها – فيها شيء من الأثرة. بخلاف الفتى الذي يسعى إلى تحقيق كمال العمل في خلق الإيثار، فقد «سأل شقيق البلخي جعفر بن محمد عن الفتوة فقال: ما تقول أنت؟ قال شقيق: إن أُعطينا شكرنا، وإن مُنعنا صبرنا. قال جعفر: الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل. فقال شقيق: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما الفتوة عندكم؟ فقال: إن أُعطينا آثرنا، وإن مُنعنا شكرنا»[13]، فالفتوة هنا هي الإتيان بالأفعال على مقتضى الإيثار المناسب للمقام، بل على مقتضى إيثار الإيثار.

وفضل الفتوة على المروءة في الجهة الثانية أن وجهة العمل لدى الفتى مخلصة لا مغرضة، بينما هي لدى المرء مغرضة لا مخلصة؛ فأفعال المرء على صلاحها يبقى فيها شيء من الرياء. بخلاف الفتى الذي يطلب الإخلاص في أي فعل يأتيه، بل أن يبلغ الغاية في الإخلاص، بحيث تكون الفتوة في نهاية المطاف، إخلاص الإخلاص. وخير مثال على كمال العمل ما جاء في القرآن في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62].

المحور الثالث: الفتوة ومتعلقاتها من الكتاب والسنة الشريفة. 

لعل الناظر في رحاب القرآن الكريم والسنة النبوية ليجد مصطلح الفتوة تضمن عدة إشتقاقات تعددت تصريفاتها ومعانيها -وقد تكون بعيدة عن المطلوب- نستفيد منها ثمراتٍ دانية وقطوفًا جنية لا شك ستضيئ لنا جوانب مهمة من معالم بناء شخصية الإنسان المسلم وتكوينه الديني والثقافي، وبناء المسؤولية والإيجابية في حياته.

إذن فهي فتوات ناصعة صورها لنا الكتاب العزيز في لباس من النبوات والرسالات، فأين نحن من الفتوة الآدمية الساكنة في دار الحشمة، المؤيدة بالأنوار والعصمة والحالة بدار السلامة[14]، وأين نحن من الفتوة الهابيلية الطاردة عنها الأخلاق القابيلية {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28]، وأين نحن من الفتوة الشِّيتية الآخذة بزمام الدعوة الآدمية، المنزِّهة لها عن المستحدثات الدَّنية، وأين نحن من الفتوة الإدريسية المرفوعة القدر عند رب البرية {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نبياً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم: 56-57]، وأين نحن من الفتوة النُّوحية، والفتوة العادية، والفتوة الهودية، والفتوة الصالحية، والفتوة الإبراهيمية المكسرة للأوثان الشِّركية {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60] ، والفتوة الإسماعيلية الصابرة المضحية {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 106]، والفتوة اللُّوطية، والفتوة الإسحاقية، والفتوة اليعقوبية، والفتوة اليوسفية العفيفة {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33]، الصديقية {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36]، والفتوة الأيوبية، والفتوة الكِفلية، والفتوة الشُّعَيبية، والفتوة المُوسَوية اليوشَعية فتوة التفاني في الخدمة وكمال العمل {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62]، والفتوة الهارونية، والفتوة الكهفية الرقيمية المهدية، الملتجئة إلى رب البرية {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، والفتوة الداوُدية، والفتوة السُّليمانية، والفتوة اليونسية، وفتوة سيدنا زكرياء، والفتوة اليحيوية، والفتوة العِيسوية المسيحية، وأين نحن من الفتوة المحمدية الجامعة لكل ما سبق، التي بثها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه «وجعل عليها أخاه وابن عمه أمير المؤمنين عليا أمينا»[15]، ثم نقلوها بدورهم إلى من بعدهم من الأمم، فقد روي في ذلك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل فيه سيدنا علي قال: «يا علي، إن لفتيان أمتي عشر علامات» فقال: أوَ لأمتك فتيان؟ قال: «نعم، وأي فتوة أولى من فتوة أمتي؟» قال: ما هي؟ قال: «صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وترك الكذب، والرحمة لليتيم، وإعطاء السائل، وبذل النائل، وإكثار الصنائع، ورأسهن الحياء»[16].

كما لم يغفل القرآن الكريم صورة أخرى من تلك الفتوات التي تستحق التوقف والأناة. يتعلق الأمر بابنتي شعيب، حيث يقدم القرآن من خلالهما أخلاق الحياء والاستحياء والحشمة، ويقدم من خلالهما أيضا منهجا متميزًا لمشاركة الفتاة/المرأة/الإنسان، في إسداء النصح وخدمة الإسلام سعيًا إلى بناء الانسان، قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 25]، وقوله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين} [الـقـصـص: 26]، وقال سبحانه: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَـلَـى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَـصُّـنــًا} [الـنـور: 33].

المحور الرابع: إسهام قيم الفتوة في بناء الإنسان المعاصر.

يمكن أن نقول – بالنظر إلى ما تقدم – أن الفتوة هي الإسلام في كماله، فالإسلام «وإن كان مؤسسا على عقائد ثابتة، وحقائق خالدة، زاخرٌ بالحياة، حافلٌ بالنشاط، له من الحيوية معين لا ينضب، ومادة لا تنفذ، ومدد لا يقصر عن الحاجة ولا يتأخر عن الأوان»[17]، وهذه من مميزات الفتوة؛ فتوة الحيوية وفتوة المدد المتعدي إلى الغير.

ولنا أن نتساءل كيف ستسهم هذه الفتوة المتعدية إلى الغير في صناعة الهوية وتحقيق بناء إنسان هذا العصر والفتوة عبارة عن غيرية، كما لو قيل: كيف يمكن أن تصنع اللاهوية الهوية؟ وهذا إشكال.

لعل الجواب عن هذا الكيف يمكن تلمسه في ثلاثة أمور:

الأمر الأول يرتبط ارتباطا صريحا بالإشكال، إذ «ليس من شك أن «الغيرية» تعارض الهوية لو أن الباعث عليها كان هو جلب المصالح المادية العاجلة وحدها، لأنها تعرض الإنسان للاغتراب أو الاستلاب الذي يلقى فيه هلاكه؛ أما «الغيرية» التي يتحلى بها الفتى فالباعث عليها هو طلب كمال التخلق، والتخلق لا يمكن أن يضر الهوية البشرية بأي حال من الأحوال، فضلا عن بلوغ درجة الكمال فيه»[18].

والأمران المتبقيان يعتبران جوابا من الخارج على ذلك الإشكال فالأمر الثاني يكمن في «الحيوية الكامنة في وضع الإسلام نفسه، وصلاحيته للحياة والإرشاد في كل بيئة، وفي كل محيط، وفي كل عهد من عهود التاريخ»[19]. على اعتبار أن الفتوة هي الإسلام في كماله.

أما الأمر الثالث يمكن تلمسه في ما قاله ابن المعمار الحنبلي في كتابه “الفتوة”، والذي تكلم عن خرقة التصوف، وذكر أنه لا يوجد خلاف جوهري بينها وبين الفتوة، فقال: «وأما خرقة التصوف فإنها صحيحة وإنها أيضا عهد على المحافظة على الطريقة، فهي كالفتـوة ₍…₎»[20]، فأخـذ العـهـد -لبس الخرقة أو المصافحة أو الانتساب الصوفي- يعتبر منطلقا وأساسا لا مندوحة لطالب الترقي عن تحصيله، لأجل التحقق بكمال الإسلام وبمكارم الأخلاق التي تدور حولها الفتوة.

وعليه فالله تعالى قد تكفل بأن يمنح هذه الأمة التي قضى ببقائها وخلودها وُرَّاثاً رجالا أو لنقل فتيانا أحياء أقوياء، ينقلون هذه التعاليم الإسلامية إلى الحياة، ويعيدون إلى هذه الأمة الفتوة والنشاط، ليتخرج ويُبنى إنسان هذا العصر.

فإذا استقصينا جهود الإصلاح في التاريخ الإسلامي لنجدها تُجمع على اتخاذ القدوة سبيلا لبناء شخصية الانسان، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21]، وقال تعالى في معرض التبعية والاستمرار: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90].

فكان لهذه المعاهدات والبيعات[21] من الأثر في التزكية والإصلاح الفردي والجماعي أقوى شأن وأوفر نصيب.

[1] “معجم مقاييس اللغة” لابن فارس، مادة: “فتى”.

[2] “الفتوة والشباب” لمحمد البايك، ص:6، الطبعة 1/ 2013م، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش.

[3] “طبقات الصوفية” للسلمي، ص: 436، مكتبة الخانجي، ط 2/ 1997م.

[4] أَبُو بكر محمد بن أَحْمد بن جعفر الشبهي، أحد علماء أهل السنة والجماعة، صحب أبا عثمان الحِيرِي مات قبل 360 هـ، وأسند الحديث. أنظر ترجمته في: “طبقات الصوفية”، ص:505، وفي: “الطبقات الكبرى” للشعراني، ص:178.

[5] “طبقات الصوفية” ص: 506.

[6] “الفتوة” لابن المعمار الحنبلي البغدادي، ص:10، تحقيق: مصطفى جواد، مطبعة شفيق 1958.

[7] “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي” لطه عبد الرحمن ص:173. المركز الثقافي العربي، ط 2/ 2009.

[8] “فلسفة الإنسان عند ابن خلدون” للجيلاني بن التوهامي مفتاح، ص:114، دار الكتب العلمية. نقلا من مقدمة ابن خلدون.

[9] مؤسس طائفة “الحشاشين” ولد تقريبا 430هـ/1037م وتوفي 515هـ/1124، من غير أولاد، لقب بالسيد وبشيخ القبيلة. [أنظر الفتوة والشباب ص:49]

[10] كتاب “الفتوة والشباب” لمحمد البايك، بتصرف

[11] مضمن ما أورده الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي” 175-183. بتصرف.

[12] “الفتوحات المكية” لابن عربي الحاتمي، ج4/ 68، المكتبة العربية، ط 2/ 1992م.

[13] “الرسالة القشيرية” للقشيري، ص: 126، دار السلام، ط 3/ 2007م.

[14] أنظر الفتوة لمحمد ين الحسن السلمي، ص:3 وما بعدها، تحقيق: إحسان ذنون التامري ومحمد عبد الله القدحات، دار الرازي، ط 1/ 2002.

[15] “الفتوة” لمحمد بن الحسن السلمي، ص:4.

[16] “آداب الملوك بالعدل، وتبيين الصادق الكريم الرفيع بالعقل من المنافق اللئيم الوضيع بالجهل” للمبارك الموصلي الأرموي، ج2/ ص13، دار الكتب العلمية. لم أقف على تخريجه.

[17] “رجال الفكر والدعوة في الإسلام” للندوي، ج1/ ص:89، ط2، دار القلم 2010، دمشق.

[18] “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي”، ص: 183.

[19] “رجال الفكر والدعوة في الإسلام” 1/91.

[20] “الفتوة” لابن المعمار الحنبلي البغدادي، ص:150، تحقيق: مصطفى جواد، مطبعة شفيق 1958.

[21] أنظر نماذج ذلك في كتاب “رجال الفكر والدعوة في الإسلام” للندوي.

ثبت المصادر والمراجع:

القرآن الكريم

  • آداب الملوك بالعدل، وتبيين الصادق الكريم الرفيع بالعقل من المنافق اللئيم الوضيع بالجهل، للمبارك الموصلي الأرموي، دار الكتب العلمية.
  • الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، لطه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، ط2/ 2009.
  • الرسالة القشيرية، للقشيري، دار السلام، ط 3/ 2007م.
  • رجال الفكر والدعوة في الإسلام، للندوي، ط2، دار القلم 2010، دمشق.
  • طبقات الصوفية، للسلمي، ط 2/ 1997م، دار الخانجي، القاهرة.
  • الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار، الشعراني، تحقيق: عبد الغني محمد علي الفاسي، الطبعة الثانية 2006، دار الكتب العلمية – بيروت.
  • الفتوة والشباب، لمحمد البايك، الطبعة 1/ 2013م، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش.
  • فلسفة الإنسان عند ابن خلدون، للجيلاني بن التوهامي مفتاح، دار الكتب العلمية.
  • الفتوحات المكية، لابن عربي الحاتمي، المكتبة العربية، ط 2/ 1992م.
  • الفتوة، لمحمد ين الحسن السلمي، تحقيق: إحسان ذنون التامري ومحمد عبد الله القدحات، دار الرازي، ط 1/ 2002
  • الفتوة، لابن المعمار الحنبلي البغدادي، تحقيق: مصطفى جواد، مطبعة شفيق 1958.
Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق