وحدة الإحياءمفاهيم

خصائص لسان القرآن الكريم

 القرآن المجيد هو كتاب استخلاف، وكتابٌ كونيٌّ معادلٌ للوجود وحركته، نعمل على إعادة اكتشافه وتلاوته “حق التلاوة” وقراءته بوعي قادر على استيعاب شروط الوعي العالميّ المعاصر بمناهجه المعرفيَّة الفاعلة؛ لأنّ هذا المنهج هو ما سوف يساعدنا، بإذن الله، على أن نثبت لعالم اليوم أن القرآن المجيد المكنون الكريم قادر على مخاطبة عالم اليوم في أعلى درجات تقدُّمه، وفي مستوى سقفه المعرفيّ، وقادر على الأخذ بيد الإنسان المعاصر لإخراجه من أزماته، وتجاوز مشكلاته؛ وذلك إذا تمكن حملة القرآن المجيد من أن يكتشفوا خصائص القرآن، ويكشفوا عنها للعالم، ومنها خصائص “لسان القرآن“؛ وهي خصائص كثيرة متعددة تناولها العلماء قديمًا وحديثًا، فهناك خصائصه البلاغيَّة والأدبيَّة واللغويّة والنحويّة والصرفيَّة والبيانيَّة والنظميَّة، وخصائص الأسلوب وغيرها من الخصائص التي جعلت من هذا القرآن أعظم آية آتاها الله، تبارك وتعالى، هذه البشريَّة، وأنزلها على خاتم أنبيائه ورسله الذي جاء البشريَّة على فترة من الرسل الذين شاء الله تعالى أن يجعله، صلى الله عليه وسلم، خاتمهم وآخرهم، فبه كمل نصيب البشريَّة من النبيِّين، كما جعل في القرآن كفاية الإنسانيّة من نور الهداية الإلهيَّة: (اَوَ لَمْ يَكْفِهِمُ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُومِنُونَ) (العنكبوت: 51).

وهذه الخصائص تتنوع وتتعدد بتعدد وتنوع زوايا النظر، وتنوع المتدبرين، وهي غير قابلة للحصر؛ لأنّ القرآن مطلق والإنسان نسبيٌّ وليس من شأن النسبيّ أن يحيط بالمطلق، أو يحصر صفاته وخصائصه المطلقة، ولكل متدبّر لآيات هذا الكتاب الكريم نصيب، فكل متدبِّر يأخذ بالخصائص التي يقارب القرآن المجيد من زاوية النظر إليها.

إن “لسان القرآن” قد حمَّله منّزل القرآن، عز وجل، “وحيًا كاملاً كافيًا” للبشريَّة، قادرًا على الاستجابة لكل ظرف تاريخي مهما كانت خصائصه، أو سقفه المعرفيّ، فيستوعبه، ويستمر في تجاوزه باتجاه المستقبل بعد أن يقوم بتلبية احتياجاته من الهداية والحقائق والنور. والقارئ، التالي المتدبِّر بعد التحاق المتلقي الأول، صلى الله عليه وسلم، له هو بالرفيق الأعلى هو الإنسان الباحث عن الحق، الطالب للهداية.

وليس هناك لسان آخر غير لسان القرآن يحمل مثل هذه الخصائص أو يستطيع أن يقاربها. ومنه “لغة العرب وألسنتها”.

وهنا يمكن للقارئ أن يطرح السؤال التالي:

الأول؛ أنّ القرآن المجيد قد نزل في بيئة أمِّيَّة تنتمي إلى الشعوب الأمِّيَّة، وعلى قلب رسول من الأميَِّين فاستجاب لحاجات تلك المرحلة، فهل يستطيع القرآن أن يعطي البشريّة جديدًا في هذه المرحلة العالميّة الشاملة، وخصائص هذا الواقع المغاير في إشكاليّاته وفكره؟ وهل ما قد يقدمه القرآن لعالم اليوم جديد لم يقدّمه لعالم الأمس ونحن نعلم أن القرآن يرتبط بلسان مهما تميَّز ومهما قيل فيه فإنّه يرتبط بذات اللُّغة العربيَّة ومفرداتها وتراكيبها التي استوعبتها التفاسير ومعارف المسلمين الفقهيَّة والأصوليَّة وسواها؟ مع التسليم بسائر المزايا الِّلسانيَّة “لسان القرآن“؟!

والجواب: إنّه بمقدور القرآن الكريم وهو الكريم في عطائه، المجيد في ديمومته، المكنون في معانيه أن يتكشَّف عن مفاهيم جديدة تقابل إشكاليّات الواقع المتغيِّر ومفاهيمه. يقول الله جلّت قدرته: (وَالذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر: 31–32). فنص الكتاب الكريم على مبدأ “التوريث” ينبّه إلى هذه الخاصِّيَّة، فالأجيال التي تتوارث القرآن المجيد لكل منها فيه نصيب. وهذه الحالة شبيهة بتوارث أجيال الأرض وكل جيل قد يكتشف في الأرض كشوفًا جديدة، ونظريات جديدة بحكم تطور واختلاف مناهج وسبل معارفنا. وتطور مناهج النظر والتدبُّر في القرآن نحو التحوّل من التفسير لمفردات القرآن إلى التحليل، والتعامل معه في إطار “الجمع بين القراءتين” و”وحدته البنائيَّة” كل ذلك يمكن أن يقدم للبشريَّة رؤى متجدّدة، فالقرآن مثل الكون كلَّما تطورت مناهج البحث فيه، والتدبُّر لآياته تكشف عن مكنونات جديدة.

وهنا نود أن نثير تساؤلاً آخر، وهو: هل ما يتكشَّف القرآن عنه عبر العصور وفق تطوُّرات المناهج المعرفيَّة والبحثيَّة سوف يكون مناقضًا للتفسير وعلوم القرآن، وما استفاده أسلافنا منه من معايير وفقًا لسقوفهم المعرفيَّة؟! أو هل أنّه يحتِّم استبدال ما أنتجوا؟! بما أنتجنا. وهنا أود أن أؤكد أن ما يتكشّف عنه القرآن عبر العصور يؤدي إلى تواصل الأجيال، وتراكم معرفيّ يمكن الاستفادة به والبناء عليه. فما يتكشف القرآن المكنون عبر العصور عنه ما هو إلا جزء من مكنونه، وقبس من فضائه، ووجه من وجوهه المكنونة فلا يمكن أن يقع تعارض بين ثبات وتنوع وتعدد المعاني التي يتكشف عنها عبر العصور. والمعاني… والوجوه المكتشفة بمناهج ووسائل معرفيَّة مغايرة يمكنها أن تتعايش، وتشكل رصيدًا مفاهيميًّا للبشريّة يستجيب لاحتياجاتها بحسب تنوع الظروف والحاجات ووفقًا لمنهج أسسه، القرآن ذاته يستطيع أن يستجيب لحاجات مختلف الأنساق الثقافية والحضارية.

وهنا تبدو جهالة أولئك الذين يرددون أن “لسان القرآن” عربيٌّ ولسان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عربيٌّ كذلك، وما دام الأمر كذلك فإن جهلهم قد أوحى لهم، ومعه شياطينهم، بأن هذا القرآن خطاب منحصر في عصر النبي وبيئته، خاص بذلك العصر لا يتجاوزه إلى سواه أو أنه خطابٌ عربيٌ محض لا يجوز أن يتجاوز العرب بحال.

إن هذه المدارسة تحاول أن تزيل كثيرًا من اللبس الذي أحاط البعض به “لسان القرآن” سائلين الله تعالى أن يوفقنا لجلاء هذا الأمر، ويشرفنا بخدمة القرآن، ويشفّعه فينا ويحشرنا تحت لوائه. إنه سميع مجيب.

لماذا نتناول “لسان القرآن”؟

قد يبدو تناولنا لـ “لسان القرآن” في هذه الحلقة الرابعة من سلسلة دراساتنا في “علوم القرآن” أمراً مستغرباً فـ”لسان القرآن وعربيَّته” بدهيَّة من البديهيّات، ومسلَّمة من المسلَّمات، لكنَّنا نبادر إلى القول بأنّ هذه القضيَّة تبدو بدهيَّة عند النظر العام العاجل لها، أمَّا حين ندخل في التفاصيل فإنّنا سوف نلحظ أن هذه البدهيَّة قد شاب تفاصيلها وجزئّياتها كثير من الغموض- الذي يمكن ردُّه إلى مجادلات علماء العربيَّة وعلوم القرآن في قضايا “المعرَّب والدخيل” و”الأحرف السبعة” و”الاشتراك اللفظيّ” و”الحقيقة والمجاز” وغيرها من القضايا اللغويَّة الدقيقة؛ ولذلك فإنّ تناول هذا الموضوع ووضعه في إطاره الصحيح سوف يكون منطلقاً أساساً لوضع تلك الجزئيّات في إطارها وسياقها في لسان القرآن لتفهم في سياق إن لم يُزِل الجدل الدائر حولها فلعلَّه يقلّل منه، وينبٍّه إلى ما دعا إلى إثارته، ولعله يغري بعض الباحثين الجادِّين بتناول هذا الموضوع اللِّساني الخطير من سائر جوانبه وبمنهجٍ لعله يحسم الجدل في هذا الموضوع جملةً وتفصيلاً، أو يوضح ويفسّر أسبابه بطريقة مقنعة إن شاء الله تعالى.

لقد شهد القرنان الماضيان كثيراً من الجهود المعادية “للسان القرآن“، في محاولة لتهميش اللُّغة العربيَّة، والدعوة إلى هجرها وتجاوزها، واعتبارها “لغواً وحشواً” ولغة عاطلة خالية من سائر المضامين المعرفيَّة والحضاريَّة. جعلت من الناطقين بها، في نظر خصومهم، مجرّد “ظاهرة صوتيّة”. وقد كثر الحديث في عصرنا هذا -عصر- الرغبة في الإجهاز على بقايا حضارتنا وثقافتنا عن كون “لسان القرآن” لساناً قوميّاً، لا حاجة لمن لا ينتمي إثنيًّا وعرقيًّا إلى العرب أن يتعلَّمها خاصَّة وأنّها لا تعد من بين اللغات الحيَّة. وأنَّها تعبير عن “عقل بيانيّ، لا برهانيّ” فلا تصلح أن تكون “لغة علميَّة” في عصر قائم على العلم مستند في كل جوانبه إليه.

والعربيّ، نفسه، لا يحتاجها باعتبارها لغة حيَّة، بل لكونها جزءًا من تراثه، له أن يتجاوزه، ويتجاوزها معه، وله أن يحتفظ به وبها إن شاء، على أن لا يفارقه اليقين بأنّه لن ينتفع بها في حياته، وإذا كان لابد له من الاحتفاظ بشيء منها؛ فاللَّهجات العاميَّة الهجين يمكن أن تغنيه عن مكابدة تعلُّم نحوها وصرفها وبلاغتها وبيانها وبديعها وما إلى ذلك ممّا عدُّوه تزيُّداً لا معنى له، ولا حاجة إليه.

وأوًّل المتضرّرين بتهميش “لسان القرآن” الإسلامُ والمسلمون ومنهم العرب؛ ذلك أن تهميش “لسان القرآن” قد أحدث قطيعة غير معلنة بين المسلمين وتراثهم، وقد أدّى ذلك إلى انعدام “الإبداع”، وتراجع القدرات الفكريَّة والاجتهاديَّة، وسلوك سبيل التدهور الحضاريّ، والدخول في دوَّامة الأزمات الثقافيَّة. وقد طرحت مشاريع كثيرة لتجاوز تلك الأزمات لم يكن من دعائم الكثير منها -إن لم نقل كلّها- إحياء “لسان القرآن” واللُّغة العربيَّة لعدم إدراكهم لضرورة ذلك لمشاريع النهوض.

وقد تعرضت الشعوب المسلمة غير العربيَّة[1] إلى كثير من الضغوط لإحياء لغاتها الأصليَّة، وإنعاشها، وتجاوز “لسان القرآن” واللغة العربيَّة التي هي ينبوع الثقافة الإسلامية، وذلك لعلمهم أن الوسيلة الأساس التي تربط هذه الشعوب بالإسلام هي “لسان القرآن“، فإذا سادت العُجْمة واختفى “لسان القرآن” أمكن، آنذاك، أن يقال: إن رسولَ الله، صلى الله عليه وسلم، والقرآنَ الذي أنزل عليه كل منهما كان خاصًّا بالعرب. فالرسول عربيّ أُرسل للعرب، والقرآنُ عربيٌّ أُنزل بلغة العرب؛ فرسالة الإسلام، إذن، رسالة عربيَّة قوميَّة وليست رسالة عالميّة، وجهت خطابها إلى البشر كافة. ومادامت رسالة حصريَّة فلا يحتاج أن يعتنقها الهنديّ والكرديّ والتركيّ والفارسيّ والملايا وغيرهم من شعوب الأرض؛ لأن خطابها موجَّه إلى العرب وخاصٌّ بهم. أمّا “النصرانيّة” الموجَّهة نصًّا إلى “الخراف الضالَّة من بني إسرائيل”[2] وذلك نصٌّ في قوميتَّها وحصريَّتها فقد منحها هؤلاء صفة “العالميّة” و”الكونيَّة” من غير دليل معتبر.

إنّ “العربيَّة لسان” كما في الأثر[3]. وأن اللِّسان هو “لسان القرآن“، وأنّه لا يمكن لهذه الأمّة أن تعي ذاتها، وترمم بنيانها، وتعيد بناء وحدتها، وتستردّ فاعليّتها الفكريّة والإبداعيَّة، وتشق طريقها نحو النهوض بدون إحياء روابطها بـ”لسان القرآن“، وربط سائر لغاتها به سواء أكانت لغة كتابة، أو لغة تشريع وفقه وقانون أو لغة فلسفة أو اقتصاد أو اجتماع أو سياسة، أو طب أو هندسة؛ فالأمَّة التي لا تفكر بلغتها، ولا تتعامل مع العلم بلسانها لا يمكنها أن تعالج أزماتها الفكريّة والمعرفيّة والحضاريّة. أو تتبنَّى لنفسها مشروعًا حضاريًا، أو تشق طريقها إلى النهوض.

شيء من خصائص لسان القرآن ومفرداته

إنّ “لسان القرآن” يخرج اللفظ عن كونه مجرّد لفظ؛ لأنّه يحمِّل اللفظ طاقات دلاليَّة لم يعهدها أحد في تلك الألفاظ قبل نطق القرآن بها، فهو يفرّغها ويملؤها، ويمنحها معاني، ودلالات ما كان لشاعرٍ أو ناثرٍ أو مجموعة كبيرة أو صغيرة من أساطين العربيَّة أن تمنحها تلك الدلالات.

ومن هنا احتار اللِّسانيوّن المحدَثون فيها، فهي ليست أصواتاً مقطَّعة، كما يقول ابن جنيّ (ت 392ﻫ)[4]، وهي ليست مجرد “اختلاف تركيبات المقاطع الصوتيّة”[5] التي تفضي إلى دلائل كلاميَّة، وعبارات لغويَّة[6] كما عبّر عن ذلك الآمدي (ت: 613ﻫ).

فـ”لسان القرآن” أمر آخر فوق ذلك كلِّه، فلا يمسُّه اللسانيُّون، ولا يستطيعون العروج إلى عليائه لا بالتحليل ولا بالتفكيك، ولا بمناهج اللِّسانيّات، ولا بمناهج السيمائيّات؛ لأن هناك شيئًا قد غفل عنه هؤلاء كلُّهم، وهو الفرق بين الخطاب حين يكون إلهيّاً وبين الخطاب البشريّ؛ فسوّوا بذلك بين خطاب ربِّ الأرباب وخطاب ابن التراب؛ فضلُّوا وأضلُّوا كثيراً.

و”لسان القرآن“، بما يحمله من خصائص، قادر على منح العربيَّة طاقات الحياة والخلود، واستيعاب معطيات “العمران والشهود الحضاريّ والاستخلاف”. والتراجع الذي يبدو، اليوم، عليها هو انعكاس لتراجع وتخلّف حملتها، والناطقين بها، الذين صاروا بعد مرحلة التراجع الحضاريّ يعانون من مركب نقص، وجراحات نفسيَّة عميقة؛ أفقدتهم الثقة بأنفسهم وتراثهم ولغتهم وثقافتهم وحضارتهم فتحولوا إلى متسولين يقفون على أبواب “الأنساق الثقافيّة” الأخرى موقف تبعَّة ذليلة مقلّدة!

تفعيل العربية وحمايتها بلسان القرآن

اللُّغة أمر شديد الأهميَّة كبير الخطر، بالغ الأثر في حياة الإنسان، لا يجهل أهميتَّه ولا يقلِّل منها إلا إنسان فاقد للمعرفة، جاهل بحقيقتها، متجاهل لماهيَّة الإنسان وحقيقته، غير مدرك أن الله، تبارك وتعالى، يسَّر للإنسان لكُنْهِ ذاته، فضلاً منه ورحمةً، ما جعله “ناطقاً”، وهذه “الناطقيّة” تُمثِّل الحقيقة الإنسانيّة فيه. وقد امتن الله عليه بأن علَّمه أولَ ما علّمه “الأسماء” كلّها[7]، وبعلمه بها تميَّز على الملائكة، وصار الأجدر بالخلافة في الأرض، والأحقَّ بأن يستخلف فيها، ويقوم على عمرانها، واستثمار ما فيها، واستخراج كنوزها ثم (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن: 2) للإفصاح عما يريد، وللتفاهم مع بني جنسه.

وعلاقة اللّغة بإنسانيّة الإنسان وبعقله وفكره ومعرفته وعلمه وحياته وهُويتَّه وإنسانيَّته علاقة عضويّة فطرية لا يمكن تصور حقيقة الإنسانيَّة بدونها.

“… ولقد شغلت المسألة اللُّغويّة المفكرين والفلاسفة منذ القدم فانشغل بذلك سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس وأرسطو وغيرهم…”[8]. ولم يكن انشغال فلاسفة المسلمين بأقل من ذلك، أمثال الكندي (ت: 252) والفارابي (ت: 339) وابن سينا (ت: 428) فضلاً عن أئمة الأصول والفقه والتفسير واللُّغات، ولم يتوقف الاهتمام بها، أو بجوانب ذات صلة بها منذ القدم حتى يومنا هذا. وكُتب الطبقات والتراجم حافلة بأسماء العلماء الذين شُغلوا بهذه المسألة أو بجوانب منها – مثل “بغية الوعاة في طبقات النحاة” و”طبقات النحوييّن واللغويّين” و”طبقات المفسِّرين” وما إليها، ولم يتوقف الاهتمام بها في أي عصر من العصور.

وقد كان للعرب، مثل غيرهم من الأمم، لسان، وكانت لهم لغات نابعة من ذلك اللِّسان، واختار البارئ، جل شأنه، أن يكون للقرآن لسانه الخاصُّ ليتصل باللِّسان العربيّ كما يشاء، وينفصل عنه عندما يريد، ويهيمن عليه في سائر الأحوال. وما التحدي والإعجاز، خاصّة، بالنظم والأسلوب والبلاغة والفصاحة إلا بعض مظاهر الانفصال عن لسان العرب انفصال “المسك عن دم الغزال”[9].

وإذا لم يكتشف اللسانيوّن الفرق بين اللّغة واللّسان إلا في القرن الميلادي التاسع عشر فإنّ القرآن المجيد قد نبَّه إلى ذلك الفرق الدقيق في تنزيله، وفهم العرب ذلك عنه، فصاروا يقولون:

اللسان العربي ولسان القرآن ولغة هذيل ولغة قريش ولغة الشافعي (ت: 204)… الخ[10].

القرآن واللسان

لقد عُرف القرآن الكريم بثراء معانيه وغزارتها، وانفتاح خطابه على التاريخ الماضي، والحاضر الراهن، والمستقبل المنتظر. وهو حين ينفتح على كل تلك المعاني فإنه يتسع لبعضها بألفاظه الظاهرة، وأحياناً بمعانيه الكامنة، ثم بسياقه وبنَظْمه وأساليبه وبلاغته وفصاحته ووحدته البنائيَّة. لذلك فإن التالي المتدبِّر للقرآن المجيد يبحث عن تلك الجوانب المفتوحة في النصّ على مختلف الآفاق، موظِّفاً بيانَ النصّ وبلاغته وفصاحته للغوص على اللُّباب، وستكون هذه المعاني –كلها– مصادر إثراء وإغناء للثقافة المشتركة الموحدة.

ولقد أفاض الأصوليّون في بيان الأدوات التي لابد أن يحملها، أو يتزود بها المتدبِّر في رحلته الشاقة وراء البحث عن المعنى أو المغزى، فتكلموا عن مراتب الدلالات، وعن أحوال اللفظ العربي المختلفة من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وإجمال وبيان، وتغير الدلالات بتغير تلك الأحوال، بالإضافة إلى أحوال الخطاب ذاته ومن هذه الأحوال أسباب النزول، والمناسبات والإعجاز والأساليب والقوانين التي وضعوها، والقواعد التي أصَّلوها، ومتى يتم تبنّي معنى من المعاني التي دلَّ النصُّ عليها ولماذا؟ ومتى يتم تبني سواه؟ ولماذا؟ وما هي الأدلة التي يستدلّ بها عندما يراد صرف اللفظ عن ظاهره؟ وما هي القرائن التي ينبغي نصبها للدلالة على أن في الكلام تغييراً إذا حدث التغيير[11].

 لسان القرآن

وصف القرآن نفسه بأنه عربيٌّ[12]، وأكد هذا الوصف مرات عديدة في مواقع كثيرة من آياته وسوره ونجومه. وعروبة القرآن إحدى أهم أوصافه، وكونه عربيًّا؛ لأن العربية لسان الرسول الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم فهو عربيٌّ اللسان والأصل والأرومة والنشأة والولادة والمكان؛ ولأن المخاطبين الأولين به عند نزوله في أمِّ القرى وما حولها كانوا عربًا؛ ولأن العرب كانوا أحوج الشعوب الأمّية، التي لم يأتها قبل خاتم النبيين رسول، إلى تلقي الرسالة، وأقدر هذه الشعوب على تبنّيها والانفعال بها ونقلها –بأمانة– إلى الآخرين، إضافةً إلى أن العربيَّة لم تحمل قبل القرآن رسالة دينيَّة، كما لم ُتحمَّل بمعانٍ فلسفية أو معرفية قد تزاحم المعاني التي أراد القرآن إيصالها للناس؛ وبالتالي فإنها ستكون خالصة لمفاهيمه ومعانيه من دون سائر المعاني والمفاهيم، فهي لسان محايد استطاع القرآن تطويعها لمضامينه. ومن هنا نستطيع أن نلاحظ الفرق بين العربية وغيرها من ألسن الرسل؛ فنـزول رسالات سائر الرسل بلغات أقوامهم غرُضه الأساس هو الإفهام، أما نـزول القرآن بالعربية فغرضه مع الإفهام بالبيان والوضوح التحدي والإعجاز. وهذا لا يعني أن خطاب القرآن ورسالة النبيّ الأميّ لم تكن عالميّة وللعالمين كافة. فالقرآن نفسه يؤكد عالميَّته وعالميّة الرسالة التي جاء بها النبيّ الأمّي حتى جعل منها ضرورة دينيّة لا مراء فيها ولا جدال، وقد أكَّد القرآن على عالميَّته بالقدر الذي أكد فيه على “عربيَّة اللسان” الذي نزل به؛ وذلك في آيات عديدة منها: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان: 1)، (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (التكوير: 27)[13].

معنى العربي

و”عربّي” تأتي بمعنى “اللسان العربي” المنسوب إلى القوم المعروفين، وبمعنى الكلام الفصيح الواضح – الذي لفصاحته وبلاغته يكاد يفهمه مَنْ لا يعرف لغته فضلاً عَمَّن يعرفها، فالانتساب إلى العرب أحد معانيه لا كلَّها. والعرب قسمان: القسم الأول، عرب عرباء وعُربة؛ أي: الصرحاء أو الخُلّص في عروبتهم، وهم تسع قبائل هي: عاد، وثمود، وأميم، وعبيل، وطسم، وجديس، وعمليق، وجرهم، ووبار. ويقال: هم الذين تعلّم إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام، العربية منهم. والقسم الثاني، هم الذين عرفوا بالعرب المتعرّبة، وهم بنو إسماعيل ولد معد بن عدنان بن آدم. والقبائل المذكورة انقطعت منذ فترة طويلة وتفرقت بقاياهم في قبائل أخرى نشأت بعد ذلك، ولم يعد التفريق بين العاربة والمتعربة وارداً فيها، أو مما يُلتفت إليه.

وينقسم العرب من حيث مساكنهم قسمين كذلك: الأول؛ هم “العرب؛ فإذا أطلقت كلمة “العرب” قُصِد بها أهل المدن والقرى مثل أولئك الذين سكنوا مكة والحيرة واليمن والمدينة ونحوها، وهم الذين يعرفون” بأهل المدر أو الحضر”. والقسم الثاني؛ هم “الأعراب” أو “أهل الوبر” الذين سكنوا البادية ويقال لهم: البدو، وهم معرفون بأنَّهم أصحاب نجعة وانتواء وارتياد للكلأ، وتتبع لمساقط الغيث. وتستعمل المادة (ع، ر، ب) للدلالة على معانٍ عديدة منها: الوضوح والصراحة والإبانة؛ لذلك يقولون: “فلان أعرب عمَّا في ضميره”. وقيل لعلم النحو: “علم الإعراب”؛ لأن فيه الإبانة عن المعاني بالألفاظ، ويقال للخيل الأصيلة السالمة من الهجنة: “خيل عربية أو عِرَاب”. و”يوم عروبة” أو يوم العروبة هو يوم الجمعة باعتباره يوماً معظّمًا يظهر الناس فيه لبعضهم، ويجتمعون فيه[14].

وقد اختلف في سبب تسمية العرب باسمهم هذا؛ فقيل: لإعراب لسانهم بمعنى إيضاحه ووضوحه وبيانه؛ ولذلك عُدَّ اللسانُ العربي أشرفَ الألسن وأوضحها وأعربها عن المراد بوجوه من البيان والبديع والمعاني والاختصار والإيجاز والإطناب والكناية والمجاز والحقيقة والمساواة. وقيل: لأن أولاد إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، نشأوا في عربة، وهي من تهامة، وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “خمسة أنبياء من العرب؛ هم محمد وإسماعيل وشعيب وصالح وهود”، وكل من سكن بلاد العرب وجزيرتها بحدودها المعروفة، ونطق بلسان أهلها فهم “عرب”[15].

وقد ذكر ابن تيمية[16] أن اسم “العرب” في الأصل كان اسماً لمن جمعوا ثلاثة أوصاف: أحدها؛ أن لسانهم كان باللغة العربية، الثاني؛ أنهم كانوا من أولاد العرب، والثالث؛ أن مساكنهم كانت أرض العرب، وهي جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم إلى بحر البصرة، ومن أقصى حِجْر باليمن إلى أوائل الشام، بحيث كانت تدخل اليمن في دارهم، ولا تدخل فيها الشام، وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث النبويّ وقبله. فلما جاء الإسلام وفتحت الأمصار سكنوا سائر البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وإلى سواحل الشام وأرمينية، وهذه كانت مساكن فارس والروم والبربر وغيرهم، ثم انقسمت هذه البلاد قسمين؛ منها: ما غلب على أهله لسان العرب، حتى لا تعرف عامّتهم غيره، أو يعرفونه وغيره، مع ما دخل على لسان العرب من اللّحن، وهذه غالب مساكن الشام والعراق ومصر والأندلس، ونحو ذلك، وأظنّ أرض فارس وخراسان كانت هكذا قديمًا.

ومنها: ما العُجْمة كثيرة فيهم أو غالبة عليهم، كبلاد الترك وخراسان وأرمينية وأذربيجان ونحو ذلك، فهذه البقاع انقسمت إلى ما هو “عربيّ” ابتداء، وما هو عربي انتقالاً، وإلى ما هو عجميّ، وكذلك الأنساب صارت ثلاثة أقسام: قوم هم نسل العرب، وهم باقون على العربية لسانًا ودارًا، أو لسانًا لا دارًا. أو دارًا لا لسانًا[17]. وقوم من نسل العرب، بل من نسل هاشم، ثم صارت العربيّة لسانهم ودارهم، أو أحدهما، وقوم مجهولو الأصل لا يدرون: أمن نسل العرب هم، أم من نسل العجم؟ وهم أكثر الناس اليوم، سواء كانوا عرب الدار واللسان، أو عجماً في أحدهما. وكذلك انقسموا في اللسان ثلاثة أقسام: قوم يتكلمون بالعربية لفظاً ونغمة، وقوم يتكلمون بها لفظاً لا نغمة وهم المتعرّبون الذين ما تعلموا اللغة من العرب، وإنما اعتادوا غيرها ثم تعلموها كغالب أهل العلم ممن تعلم العربية، وقوم لا يتكلمون بها إلا قليلاً.

وهذان القسمان: منهم من تغلِبُ عليه العربية، ومنهم من تغلب عليه العُجْمة، ومنهم من يتكافأ في حقه الأمران: إما قدرة، وإما عادة. فإذا كانت العربية قد انقسمت نسباً ولساناً وداراً فإن الأحكام تختلف باختلاف هذا الانقسام خصوصاً النسب واللسان.

مستجدات الكلمة في القرآن

إننا حين نأخذ أية كلمة من مفردات القرآن الكريم، ونَتَتبَّع معانيها ومسيرتها وصيرورتها ودلالاتها عبر العصور بدءًا من عصر التنزيل، فسيتضح لنا أن هذه المفردات تنفتح في كل عصر على مستجدَّاته وإشكاليَّاته لتستوعب تلك المستجدات وتقوم بترقيتها لتنفتح على معانٍ أخرى في وقت لاحق. ولذلك فإن التعامل مع “مفردات القرآن” لا يمكن أن يتم بطُرق التحليل اللًّسانيًّة البشريًّة المعاصرة، بل يحتاج الباحث إلى تتبُّع “تاريخ المفردة قبل عصر التنزيل“، ثم دراسة معناها في “الاستعمال القرآنيّ في عصر التنزيل“، ثم تتبع مسيرتها بعد ذلك؛ ليتضح ما ذكرنا بأجلى أشكاله. وسنقدم في هذه العُجالة نموذجًا يمكن القياسُ عليها. وبذلك سيتضح للباحث المتتبّع حيويّة “مفردات القرآن” وفاعليّتها، وكونها مفاهيم كاملة، وليست مفردات لفظيّة كما ذهبتْ إلى ذلك بعض أوهام المتقدّمين، وبعض المتأخرين ولعل مَنْ أوائل من التفت إلى هذا الجانب من علمائنا “الراغب الأصفهاني” حيث بنى على ذلك كتابه “المفردات أو مفردات القرآن” لكنّ الراغب عني بتتبٌّع المفردات في آيات القرآن لتحديد المعاني التي اشتملت عليها استنادًا إلى السياق الذي وردت فيه، أما “التتبّع التاريخي” الذي نعنيه فإنَّه يشتمل على جهد الراغب ويضيف إليه. وهو في الوقت ذاته يحاول أن لا يُجري على معاني مفردات القرآن المجيد أحكام ومعاني “التطوّر الدلاليّ” للمفردات اللَّغويَّة لئلا نقع في نسبة “مفردات القرآن المطلق” إلى النسبيَّة والتغيُّر، وهو أمر لا نقرُّه ولا نقبله. ولعل من الأمثلة لما ذكرنا:

“رجا” 

كانت هذه الكلمة قبل عصر التنزيل وأثناءه شائعة لدى الحجازيّين بمعنى “الخوف“، وكانوا يستعملونها منفيَّة، وبصيغة المضارعة في الأعمّ الأغلب، وبمعنى “اللامبالاة” عند هذيل وخزاعة ومضر. ويغلب استعمالها عندهم بصيغة المضارع للمتكلم منفيَّة كذلك، نحو “لم أرجُ” ويقال أيضاً: “لم يرجُ” للغائب بمعنى: لم يبالِ ولم يحفل. وفي لغة تهامة كانت تفيد “الخوف“، قال الزمخشري: على سبيل المجاز!! 

وقد استوعب القرآن الكريم ذلك، كلّه، وانفتح عليه، واستعملها في الحسيّ والمعنويّ، فجاء فيه: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا) (الحاقة: 16)؛ أي جوانبها أخذاً من “رجا البئر” أو السماء أو الأرض أو الشيء؛ أي جانبه.

وفي المعنويّات: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) (نوح :13) وقوله: (وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ) (النساء: 104)، (وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ) (التوبة: 107)، وقوله: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا) (يونس: 7) وقوله في السورة نفسها: (… فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (يونس: 11)  (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ…) (الفرقان: 21)

فالقرآن المجيد قد استوعب في هذه الآيات لغات العرب، وأساليبهم فجاءت منفيّة ومثبتة: (وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ)، وجاءت بصيغة اسم المفعول: “مرجون” وفي صيغة الاسميَّة: “أرجاء”.

أما على مستوى المعنى فقد ذهب المتقدمون إلى أن المراد بها “الخوف” كما أشرنا؛ فقوله: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ…)؛ أي لا تخافون، لكنّهم ربطوا هذا المعنى بصيغة المضارع المنفي، واستشهدوا عليه بأبيات من الرجز والشعر الجاهلي. ولم يجوزوا أن يكون المراد بها “الخوف” مطلقاً، فمنعوا أن يقال: “رجوتك” وإرادة “خفتك”، ولا “خفتك وإرادة رجوتك” ومن الرجز الذي أورده، قول الراجز:

لا ترتجي حين تلاقي الذائدا             أسبعة لاقت -معاً- أم واحداً

وقول الهذلي:

إذا لسعته النحل لم يرجُ لسعَها          وخالفها في بيت نوب عواسل[18]

ثم يأتي الطبري (ت: 310) في القرن الثالث الهجري فينقل في سائر المواضع التي وردت مادة “الرجاء” فيها لتتقيّد بالمعاني التي وردت فيها لدى قبائل العرب، ويحمل الآيات عليها، ويمكن تتبع ذلك في أجزاء التفسير التي وردت المادة فيها. لكنّه تردد في توكيد كونها مجازًا في “الخوف“، ونبّه إلى أنّها مستعملة على سبيل الحقيقة ولو في لغة الحجازييّن.

فإذا انتقلنا إلى أواخر القرن الرابع الهجري نجد عالمْين من أبرز علماء تلك الفترة، هما: الزمخشري (ت: 538) والراغب الأصفهاني (ت: 503هـ). أما الزمخشري فقد ذكر في تفسيره للآية السابعة من سورة يونس: (لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا) لا يتوقعونه أصلًا ولا يخطِرونَه ببالهم لغفلتهم المذهلة بالّلذات وحبّ العاجل، عن التفطُّن للحقائق، أو لا يأملون حُسْن لقائنا كما بأمله السعداء، أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يُخافْ[19].

أما الراغب الأصفهاني (ت: 503هـ) في مفرداته فقد صاغ للرجاء تعريفاً فقال: “… ظنٌّ يقتضي حصولَ ما فيه مرّة”، وذكر معنى “الخوف” بصيغة التضعيف والتمريض في بيان المراد بالآية في “سورة نوح”، فقال: “قيل: ما لكم لا تخافون”، ثم وجّه ذلك بأن الرجاء والخوف يتلازمان. وحاول أن يعزّز تعريفه للرجاء بقول العرب: “أرجت الناقة”؛ أي جعلت لصاحبها رجاءً في نفسها بقُرب نتاجها.

فإذا انتقلنا إلى القرن الخامس نجد الإمام الطوسي (ت: 460هـ) إمام مفسري الإماميَّة، الذي لم يختلف كثيرًا عن معاصريه من السُّنة وسواهم إلا بأنه جعل أصل الباب (يعني المادة اللغويّة) الأمل، وهو ضد اليأس على ما في التبيان له: (314/3-315) وفي ما عدا ذلك فقد نقل أقوال سابقيه؛ ثم نقل عن الكسائيّ أنّ أهل تهامة يستعملونها بمعنى: “ما أبالي وما أحفل على ما في” (7/434 و8/167 و10/136) وقال في “الوقار”: “أصل الوقار: ثبوت ما به يكون الشيء عظيماً من الحكم والعلم…” ثم قال: “… فالرجاء التوقٌّع لوقوع أمر يُخاف أن لا يكون…”.

أما في القرن السادس فنختار الإمام الرازي نموذجاً. فالفخر الرازي حين بلغ تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا…) (يونس: 7) قال: “وفيه مسائل: المسألة الأولى، في تفسير هذا الرجاء قولان: الأول، وهو قول ابن عباس ومقاتل والكلبي؛ معناه: لا يخافون البعث…”، واسترسل في الاستشهاد لذلك، ثم قال: “والقول الثاني، تفسير الرجاء بالطمع”. ولأن الإمام الرازي قد ضم ما كان سائداً في عصره من معاني “الرجاء والخوف” إلى ما قرّره المتقدمون منذ القرن الهجري الأول فإنّنا نفضل أن ننقل ما قاله كما هو لمزيد الفائدة ولنتيح للباحث أن يلمس بنفسه كثيرًا من القضايا التي نودّ التنبيه إليها فراجع: (التفسير:4/545).

وأضف إليه قوله: “واعلم أن حمل الرجاء على الخوف بعيد؛ لأن تفسير الضد بالضد غير جائز”؛ (تفسير 328:6)، “قال الفراء: قوله، تعالى: “وقال الذين لا يرجون لقاءنا”، معناه: لا يخافون لقاءنا، ووضع الرجاء في موضع الخوف لغة تهاميَّة؛ إذا كان معه جَحْد. ومثله قوله، تعالى: “ما لكم لا ترجون لله وقاراً”؛ أي: لا تخافون له عظمة. وقال القاضي: وجْهٌ لذلك؛ لأن الكلام متى أمكن حمله على الحقيقة لم يجُزْ حمله على المجاز. ومعلوم أن من حال عُبَّاد الأصنام أنَّهم كانوا لا يخافون العقاب لتكذيبهم بالمعاد؛ فلذلك لا يرجون لقاءنا ووعدنا على الطاعة، من الجنة والثواب، ومعلوم أن من لا يرجو ذلك لا يخاف العقاب، أيضاً، فالخوف تابع لهذا الرجاء”. ويقول، في تفسير: “ما لكم لا ترجون لله وقارا” (216:8): “فيه قولان، الأول: أن الرجا، هاهنا، بمعنى الخوف، ومنه قول الهذلي: “إذا لسعته النحل لم يرجُ لسعها: والوقار: العظمة والتوقير: التعظيم. ومنه قوله تعالى: “وتوقروه”: ما بالكم لا تخافون لله عظمة. وهذا القول، عندي، غير جائز؛ لأن الرجاء ضد الخوف في اللُّغة المتواترة الظاهرة. فلو قلنا: إن لفظة الرجاء -في اللغة- موضوعة في اللغة بمعنى الخوف لكان ذلك ترجيحاً للرواية الثابتة بالآحاد على الرواية المنقولة بالتواتر، وهذا يفضي إلى القْدح في القرآن؛ فإنه لا لفظ فيه إلا ويمكن جعل نفيه إثباتاً وإثباته نفياً بهذا الطريق. والوجه الثاني، ما ذكره صاحب الكشّاف (يعني: الزمخشري) ما لكم لا تأملون لله توقيراً؛ أي تعظيماً والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم”.

وأخيراً نورد ما جاء في (309:8) حيث يعود الرازي في تفسير سورة “النبإ” فيقول: إنهم كانوا لا يرجون حساباً، “فيه سؤالان: الأول، وهو أن الحساب شيء شاقٌّ على الإنسان، والشيء الشاق لا يقال فيه: إنه يُرجى، بل يجب أن يقال إنهم كانوا لا يخشون حساباً، والجواب من وجوه: أحدها: قال مقاتل وكثير من المفسرين: قوله: “لا يرجون” معناه: لا يخافون. ونظيره قولهم في تفسير قوله، تعالى: “ما لكم لا ترجون لله وقارا”. وثانيهما، أن المؤمن لابد وأن يرجو رحمة الله؛ لأنَّه قاطع بأنَّ ثواب إيمانه زائد على عقاب جميع المعاصي سوى الكفر، فقوله: “إنَّهم كانوا لا يرجون حساباً” إشارة: إلى أنّهم ما كانوا مؤمنين. وثالثها، أن الرجاء هاهنا بمعنى التوقعُّ؛ لأن الراجي للشيء متوقّع له؛ إلا أن أشرف أقسام التوقّع هو الرجاء، فسمي الجنس بأشرف أنواعه. ورابعها، أن في هذه الآية تنبيهاً على أن الحساب مع الله؛ جانبُ الرجاء فيه أغلبُ من جانب الخوف؛ وذلك أن للعبد حقًّا على الله (تعالى)، بحكم الوعد في جانب الثواب؛ ولله (تعالى)، حقٌّ على العبد في جانب العقاب. والكريم قد يسقط حقَّ نفسه ولا يسقط ما كان حقًّا لغيره، فلا جرم كان جانب الرجاء أقوى في الحساب؛ فلهذا السبب ذكر الرجاء ولم يذكر الخوف”.

ولو أن الإمام ذهب إلى أن “الرجاء” كان يعني، “التوقّع” سواء أكان توقّعًا لأمر مخوّف أو لشيء مرغوب فيه؛ وأن نفي التوقّع هو نفي للخوف لكان أقرب وأولى. وانظر النهاية لابن الأثير التي تشرح غريب الحديث والأثر (2/72): “وقد تكرر فيه ذكر الرجاء بمعنى التوقع والأمل”. وينقل ابن منظور في لسان العرب مادة “رجا”، عن “ابن سيده” -بعد أن يقول إن الرجو “المبالاة”، يقال: ما أرجو؛ أي  ما أبالي- إن الرجو والرجاء قد يكون أيّهما “بمعنى الخوف”. ويقول مقاتل بن سليمان البلخي (ت: 150) (وكان يعيش بين القرنين الأول والثاني للهجرة)[20] “الرجاء على وجهين… الوجه الثاني، يعني الخشية…

أما القرطبي (ت: 671)[21] فقد أتى بآراء كثيرة تعبر عن عصور مختلفة، عرضها على أنها مجرد آراء مختلفة في التفسير؛ فمثلاً قال في تفسير “وترجون من الله ما لا يرجون”. “قيل: الرجاء، هنا، بمعنى الخوف؛ لأن من رجا شيئاً فهو غير قاطع بحصوله؛ فلا يخلو من فوت ما يرجو، وقال الفرًّاء والزجّاج: لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي، كقوله تعالى: “ما لكم لا ترجون لله وقارا”؛ أي لا تخافون له عظمة؛ وقوله تعالى: “للذين لا يرجون أيام الله” أي لا يخافون. وقال القشيري (ت: 465) ولا يبعد ذكر الخوف من غير أن يكون للكلام نفي، ولكنهما ادعيا أنه لم يوجد ذلك إلا مع النفي والله أعلم”. ويقول في تفسير آية الفرقان: “لا يرجون لقاءنا” يريد لا يخافون البعث ولقاء الله، أي: لا يؤمنون بذلك، قال: “إذا لسعته النحل لم يرجُ لسعها”، وقيل: “لا يرجون”: لا يبالون، قال:

لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلماً        على أي جنب كان في الله مصرعي

 وقال ابن شجرة: لا يأملون؛ قال:

أترجو أمّةٌ قتلت حسيناً                شفاعةَ جدِّه يوم الحساب

ثم يعود القرطبي، في تفسير آية نوح، فيقول: “قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف؛ أي ما لكم لا تخافون لله عظمة وقدرةً على أحدكم بالعقوبة أيُّ عذر لكم في ترك الخوف من الله؟ وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء… ما لكم لا ترجون لله ثواباً ولا تخافون عقاباً… عن ابن عباس ما لكم لا تخشون لله عقاباً وترجون منه ثواباً… وعن مجاهد والضحاك: ما لكم لا تبالون لله عظمة؟ قال قطرب: هذه لغة حجازية؛ وهذيل وخزاعة ومضر يقولون: لم أرجُ: لم أبالِ”[22].

الخلاصة

لقد رأينا كيف سجن المفسِّرون واللُّغويُّون هذا “المفهوم القرآني” المهمّ في دائرة الرجز والشعر الجاهليّ، وتناقلوا جيلاً بعد آخر ذلك المعنى الضيِّق الذي التزموا به انطلاقاً من تلك الفرضيَّة الخاطئة: القائمة على اعتبار “الحاكميَّة على لسان القرآن” للّغة العربيَّة من ناحية؛ ولقراءة الآيات وكأنَّها كيانات مستقلة لا ارتباط بين كلماتها من ناحية أخرى. وقد لا حظنا، أيضاً، كيف كان المفسِّر يعطي الكلمة في آية معيَّنة، وسياق محدَّد معنًى يخالفه أو يعترض عليه، أو يرفضه في تفسيره للكلمة في آية أخرى؛ فلم يعد من الممكن النظر إلى “المفردة القرآنيَّة” باعتبارها “مفهومًا” يضم معانيَ عديدة يستوعب بها لغات عصر التنزيل، وينفتح بعدها على سائر المعاني الأخرى التي يستفيد الفكر الإسلامي والإنساني من استعماله فيها ليستوعبها.

وأحياناً يقوم بعمليَّة “تفريغ” للكلمة من معنى لا يخدم أهداف الخطاب، ويمنحها معنى آخر ينبِّه السياق إليه، وأحياناً تبدو الكلمة القرآنية “مفهومًا” يدخر كمًّا من المعاني والدلالات التي يتكشّف عنها عبر العصور كما يكشف الكون عمّا ينطوي عليه، أو يضمه في أحشائه، وكما تكشف الأرض عن كنوزها، وتلك أمور معروفة لأهل العلم بذلك؛ لذلك كانت التلاوة “حق التلاوة” و”التدبّر” و”التفكر” و”التذكر” و”التعقُّل” لآيات الكتاب فرائض دائمة إلى يوم الدين لا تنقطع، ولن يؤتَ نورَ القرآن مَنْ لم يُحسِن التدبُّر فيه، ويستخدم كل تلك المفاتيح المذكورة لتسفر له تلك الآيات عن دلالاتها.

ولذلك كان القرآن المجيد المكنون منبعَ هدايةٍ دائمًا لا ينضب ولا يتوقف، يغني البشريَّة عن سواه:  (اَوَ لَمْ يَكْفِهِمُ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمُ) (العنكبوت: 51).

وفي المفهوم الذي معنا “رجا” نجده ينطوي على “الأمل” بأنواعه، و”التوقُّع” بعمومه و”الاهتمام والمبالاة والاكتراث” بكل ما يمكن أن تعَلَّق به، و”الطمع” بأشكاله ومتعلّقاته. و”الخوف” لازم من لوازم بعض هذه المصطلحات أو المفاهيم الفرعيَّة. و”التوقير” من “الوقار” وهو لازم آخر من لوازم “الرجاء”. والسياق بحَسَبِه يستدعي من اللوازم ما يعطي المفهومَ استقراره ومناسبته في الجملة وفي الآية بحيث تصبح لَبِنَةً في بنائه، لا يمكن أن ترفع من ذلك البناء لا على سبيل الاستبدال، ولا على سبيل التغيير.

 كما إنَّنا ينبغي أن نبحث عن معاني القرآن في القرآن ذاته، ونجعل من التاريخ اللُّغويّ، والتطور الدلالّي، ومعرفة الواقع وعلاقة اللُّغة به مراجعَ معضّدة ساندة وليست أصولاً ومصادر حاكمة، فذلك المنهج سوف يجعلنا في مأمن من الانحراف في معاني القرآن. ودلالات ألفاظه، أو الاضطراب في فهم معانيه، أو إسقاط قواعد لغات البشر عليه.

ومن هنا تتضح الحاجة الماسَّة إلى بناء “قاموس قرآني مفاهيميّ” يُعتمد فيه على القرآن المجيد أساساً، وتُجعل لغات العرب فيه مراجع ساندة ومعضِّدة لا حاكمة وتكون الحاكميَّة في ذلك للقرآن المجيد على كل ما عداه من شعر العرب ونثرهم، ورجزهم وسجعهم وسائر فنون كلامهم.

الهوامش

  1. كما فعل أتاتورك في تركيا. بل إن هناك دولاً عربية استطاع المستعمر أن يفرض عليها لغته فوجدت نفسها بعد الاحتلال لا تستطيع أن تفهم اللغة العربية القومية كما حدث في الجزائر وتونس ونجح الغزو الثقافي في البلاد الأخرى أن يجر في دائن يجردها من العربية ويجعل العامية هي السائدة في تعاملات الناس وبهذا يسهل إبعاد المسلمين العرب عن دينهم ولغتهم كما هو الحال الآن. أنظر كتاب مشكلات في طريق الحياة الإسلامية للغزالي، ص: 92 وما بعدها.
  2. وراجع الإصحاح العاشر من إنجيل يوحنا، من 3–19 ط. دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط.
  3. روى أحمد في المسند عن سعد بن سهل رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “اللهم لا يدركني زمان ولا تدركوا زمانًا لا يتبع فيه الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب” المسند 5/340، ويحمل رقم: 22777 بتحقيق الزين.
  4. في الخصائص، 1/33.
  5. أنظر الإحكام في أصول الأحكام،  1/15.
  6. المصدر نفسه.
  7. وأنظر الكتاب القيّم في حكمة تعليم آدم الأسماء “وعلم آدم الأسماء” ت…
  8. عبد الملك مرتاض/في نظريّة الرواية، عالم المعرفة العدد: 240، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 1998.
  9. هذا البيت: “فإن اتفق الأنام وأنت منهم           فإن المسك بعض دم الغزال
    من الوافر للمتنبي في رثاء والدة سيف الدولة من قصيدة مطلعها:

نعدّ المشرفية والعوالي            وتقتلنا المنون بلا قتال

  1. والفرق بين اللسان واللغة: أن اللغة قد يتوصل إلى فهمها بدون لسان، فالإشارة لغة، والكتابة لغة بل وأي شيء يصدر عنه صوت فهو لغة، ومن ذلك سمي صوت الطائر “لغا” قال تعالى: (قَالَ ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ اِلاَّ رَمْزًا) (آل عمران: 41) فسمى الله تعالى الرمز والإشارة كلامًا وكذا الرسومات والتصاوير فإنها معبرة وحاكية ولكنها ليست ناطقة فلا يقال لها “ألسن”.

واللغة عادة ما تكون حبيسة عادات وموروثات إقليمية إلا أن الإنسان أعم منها فهو أوسع تعبيرًا بدليل أن اللسان الواحد يستطيع أن يتكلم أكثر من لغة.

وهذا يتضح من كلام الله تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ) (الشعراء: 195)، (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) (مريم: 98)، فالبيان والتيسير فيهما معنى الشمول والكمال بهذا اللسان الذي سوف يهيمن على كل اللغات وترغب إليه كل الألسنة. قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا) (الأحقاف: 11)؛ أي مصدق على ما قبله وعلى ما بعده. واللسان هو: الجارحة، والكلمة، والفصاحة، والنطق، والمقالة، والرسالة، وقد يطلق اللسان ويراد به اللغة كما في قوله تعالى: (وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) (الروم: 21)؛ أي لغاتكم واللهجات والنغمات. يقول الراغب: “فإن لكل إنسان نغمة مخصوصة يميزها السمع، كما أن له صورة مخصوصة يميزها البصر” مفردات القرآن (مادة: لسن).

 واللغة كما في اللسان: أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم.

أما اللسان فصاحب ذلك التعبير ويريده والدال عليه ويستطيع أن يصيغ اللغة في أكثر من عبارة بمعان مختلفة.
بل قد يكون المنشأ واحدًا واللغة واحدة واللسان كذلك في الأصل لكنه يختلف في البيان والإفصاح، قال تعالى: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدًا يُصَدِّقُنِي) (القصص: 34).

  1. راجع “مباحث اللغات” في سائر الكتب الأصولية والتي احتلت “سُبعَ” مباحث الأصول، ومنها على سبيل المثال كتاب “المحصول” الذي شغلت مباحث اللغات فيه ما يزيد عن (70 بالمائة) من جزئه الأول في طبعته الأولى، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والطبعة الثانية، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1992. لكنّ هناك فرقاً دقيقاً لابد من التنبُّه إليه بين اللّغة الوظيفيَّة مثل “لغة القانون والتشريع” وسائر اللغات المستعملة في الصناعات والزراعة وما إليها، ولغة الفكر والثقافة والمعرفة. وهو أن اللغات الوظيفية تتصف بنوع من الانحصار فيما وضعت له، خلافاً للغة الفكر والثقافة التي تأخذ أبعاداً أخرى من اتساع الفكر، وتعدد مجالات الثقافة.
  2. سواءً القرآن المكي والمدني (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْءانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)، (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُل اِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ اَنَابَ) (الرعد: 28)، (قُرءانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الزمر: 27)، (كِتَابٌ فُصِّلَتْ ـايَاتُهُ قُرْءانًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصلت: 2)، (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الزخرف: 2)، (وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ) (الأحقاف: 11).
  3. ابتكرت الهيئات التنصيرية منذ مؤتمر “كولورادوا” للمنصرين فكرة شيطانية تستهدف خداع الشعوب المسلمة غير العربيَّة، وذلك بالإقرار بنبوة رسول الله محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ورسالته، مع التوكيد بأنه مرسل إلى العرب –وحدهم- بدليل أن القرآن نفسه يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ اِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم: 4) ويتجاهلون كل ما ورد في عالميّة الرسالة.
  4. راجع: لسان العرب، ابن منظور، مادة “ع، ر، ب” وكذلك “أساس البلاغة” للزمخشري و”المفردات” للراغب الأصفهاني مادة “عرب”.
  5. راجع القاموس وشرحه تاج العروس “باب الياء فصل العين” والحديث كما رواه ابن حبان (الإحسان: 362) عن حديث أبي ذر الطويل: “منهم أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر” ضعيف: فيه إبراهيم بن هشام بن يحيب الغساني “منهم” ومن طريق آخر نقله السيرخي في البدر المنثور عن ابن عساكر عن نوف الشامي بلفظ “خمسة من الأنبياء من العرب “محمد ونوح وهود وصالح وشعيب” الدر المنثور (3/480) ومع ذلك لم يرد فيه ذكر إسماعيل عليه السلام.
  6. راجع اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لشيخ الإسلام ابن تيمية (161، 162).
    17.  المصدر السابق.
  7. وراجع معاني القرآن للفرّاء في (1/286) و(2/256) حيث ذكر أن لغة تهامة وضع الرجاء في موضع الخوف إذا سُبق بجحد. والفراء من علماء القرن الثاني الهجري.
  8. ويراجع ما قاله في تفسير آية الفرقان، وما أورده في المادة في كتابه اللغوي “أساس البلاغة”. والتفاته إلى الاستعمال الحقيقي والمجازي.
  9. “الأشباه والنظائر في القرآن الكريم”، ط القاهرة الهيئة العامة للكتاب 1975، ص: 168.
  10. في الجامع لأحكام القرآن “5، 375، 8: 311 – 312؛ 13: 19؛ 16: 161: 162؛ 18: 303؛ 19: 179”.
  11. وانظر مع ما تقدم الألوسي والشوكاني في “فتح القدير 4: 66 – 67، ولاحظ أثر الزمخشري والرزاي حتى عصر المحدثين.
Science
الوسوم

الدكتور طه جابر العلواني

• رئيس المجلس الفقهي بالولايات المتحدة الأمريكية سابقا
• رئيس جامعة قرطبة الإسلامية بوشنطن سابقا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق