مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

حكم عمل الراوي وفتياه بخلاف ما روى وأثره في اختلاف الفقهاء

 

الدكتور عبد الحق يدير

أستاذ التعليم العالي كلية الآداب و العلوم الانسانية فاس سايس.

1– حكم عمل الراوي وفتياه بخلاف ما روى عند الفقهاء .

من القواعد التي اختلف فيها أهل العلم من فقهاء ومحدثين وأصوليين قاعدة : عمل الراوي وفتياه بخلاف ما روى. ومحل الخلاف كما يقول الدكتور مصطفى سعيد الخن حفظه الله تعالى: “ما إذا عمل الراوي بخلاف الحديث بعد روايته للحديث . أما إذا عمل بخلافه قبل الرواية فليس هو محل الخلاف، إذ يحتمل أنه رجع عن ذلك بعد اطلاعه على الحديث “.[1]

وحكم هذه القاعدة عند الشافعية وغيرهم أن الحجة في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لا في مذهب الراوي أو عمله وفتياه. وذهب الحنفية إلى اعتبار عمل الراوي ومذهبه دون روايته، وأنزلوا عمله منزلة الناسخ، واعتبروه وفتياه طعنا في الحديث الذي رواه وعمل وأفتى بخلافه.[2]

واحتج الحنفية لمذهبهم بما يلي : “إن كان العمل أو الفتوى منه بخلاف الحديث بعد الرواية أو بعد بلوغه إياه وذلك خلاف بيقين، فإن ذلك الخلاف جرح في الحديث، لأن خلافه إن كان حقا، بأن خالف للوقوف على أنه منسوخ أو ليس بثابت، وهو الظاهر من حاله، فقد بطل الاحتجاج بالحديث، لأن المنسوخ أو ما هو ليس بثابت ساقط العمل والاعتبار.

وإن كان خلافه باطلا، بأن خالف لقلة المبالاة والتهاون بالحديث، أو لغفلة ونسيان، فقد سقطت به روايته، لأنه ظهر أنه لم يكن عدلا، وكان فاسقا : أو ظهر أنه كان مغفلا، وكلاهما مانع من قبول الرواية” .[3]

واستدل الشافعية لقولهم بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة، وقول الراوي ليس بحجة، فلا تُعَارض الحجة بما ليس بحجة .[4]

وأجابوا على ما ادّعاه الأحناف : ” بأن الصحابي مع فضله ودينه لا يجوز أن يترك الحديث ويعمل بخلافه إلا وقد علم نسخ الخبر، فوجب أن يسقط الاحتجاج به”، بأنه يحتمل أن يكون علم نسخه، ويحتمل أنه نسيه، أو تأوله، فلا تترك سنة ثابتة بتجويز النسخ .

ولأن الظاهر أنه ليس معه ما ينسخه، لأنه لو كان معه ناسخ لرواه في وقت من الأوقات، ولما لم يظهر ذلك دل على أنه نسيه .[5]

 واختار الآمدي أنه إن عُلِمَ مأخذ الصحابي في المخالفة، وكان ذلك مما يوجب حمل الخبر على ما ذهب إليه الراوي، وجب اتباع ذلك الدليل لا لأن الراوي عمل به، فإنه ليس عمل أحد المجتهدين حجة على الآخر، وإن جهل مأخذه فالواجب العمل بظاهر الحديث .[6]

وقد انبنى على اختلاف الأئمة في هذه القاعدة الأصولية اختلاف كبير فيما يندرج تحتها من فروع وجزئيات شرعية، وذلك ما سنوضحه بالأمثلة في ما يلي.

 2- أثر الاختلاف في هذه القاعدة في اختلاف الفقهاء .

نشأ عن اختلاف الفقهاء في حجية هذه القاعدة أو عدم حجيتها اختلاف في بعض الفروع الفقهية، من أشهرها:

أ ـ اختلافهم في رفع اليدين عند الهُوِيّ إلى الركوع والرفع منه في الصلاة :

اختلف الفقهاء في مواضع من الصلاة، هل يُسَنّ فيها رفع اليدين أو لا يُسَنّ؟ ومن هذه المواضع، رفع اليدين عند الهُويّ إلى الركوع، وعند الرفع منه .

فذهب الشافعي وأحمد وجمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، ومالك في إحدى الروايتين عنه، إلى أنه يُسَنّ رفعهما في هذين الموضعين،[7] واحتجوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حذو منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع: ويقول : سمع الله لمن حمده، ولا يفعل ذلك في السجود .[8]

وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من أهل الكوفة إلى أن رفع اليدين لا يستحب في غير تكبيرة الإحرام، واستدلوا على ذلك بما رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال : ” ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصلى فلم يرفع يديه إلا في أول مرة “[9].

قالوا : وابن مسعود كان من فقهاء الصحابة، ملازما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عالما بأحواله وباطن أمره وظاهره، فتقَدَّمُ روايته على رواية من لم تكن حاله كحاله . واحتجوا أيضا بأحاديث أخر لكنها ضعيفة متهافتة.[10]

ولم يعملوا بحديث ابن عمر لأنه كان يعمل بخلافه، فلقد روي عن مجاهد أنه كان يقول:” صلَّيْتُ خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى” .[11]

فأخذ الحنفية بعمله ولم يحتجوا بروايته خلافا للجمهور الذين رأوا أن الحجة في مرويّه لا في مذهبه .

ب ـ اختلافهم في حكم الإناء الذي ولغ فيه الكلب هل يغسل سبعا أم ثلاثا؟

فذهب الجمهور إلى أن الإناء الذي ولغ فيه الكلب يغسل سبع مرات، واشترط الشافعية والحنابلة أن إحداهن بالتراب، ولم يشترط المالكية الترتيب.[12]

وحجة الجمهور في اشتراط العدد حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب”، هذه رواية مسلم[13]. وفي رواية الترمذي: ” أولاهن وآخرهن بالتراب”.[14]

وذهبت الحنفية إلى أنه نجس ويغسل الإناء من ولوغه ثلاث مرات . ولم يعلموا بحديث أبي هريرة في السبع لمخالفة راويه له .

فقد روى الطحاوي وغيره موقوفا على أبي هريرة أنه يُغْسل من ولوغه ثلاث مرات.[15]

وسبب الخلاف في هذه المسألة هو: هل العبرة بما رواه الراوي أو بما أفتى به وعمل بمقتضاه؟ فمن اعتبر الحجة في المروي احتج به وعمل بموجبه، ومن رأى أن الحجة في الراوي أخذ بمذهبه وأعرض عمّا سواه.

أثر رواية الحديث في اختلاف الفقهاء، للدكتور عبد الحق يدير، سلسلة أطروحات وأعمال رقم 17، طبعة 2011م، المملكة المغربية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس-فاس. ص239 وما يليها.


[1]  ـ انظر  أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء للدكتور مصطفى سعيد الخن ص.ـ 436ـ 437.

[2]  ـ انظر دراسات في الاختلافات الفقهية للدكتور محمد أبو الفتح البيانوني ص.70

[3]  ـ انظر كشف الأسرار: 3/ 133

[4]  ـ انظر التبصرة في أصول الفقه للشيرازي ص. 343 تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو وإحكام الفصول ص.345ـ 346، والإحكام للآمدي2/ 127، والبحر المحيط ، 6/ 255، والإحكام لابن حزم 2/ 153 فما بعدها ومفتاح الوصول ص. 25ـ 26 .

[5]  ـ انظر التبصرة في أصول الفقه للشيرازي ص.343 تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو وإحكام الفصول ص.345ـ 346، والإحكام للآمدي: 2/ 127، والبحر المحيط 6/ 255ـ 256، والاحكام لابن حزم، 2/153 فما بعدها، ومفتاح الوصول ، ص.25ـ 26.

[6]  ـ انظر الإحكام للآمدي : 2/ 128.

[7]  ـ انظر شرح صحيح مسلم: 4/ 95، ونيل الإوطار: 2/ 180، وبداية المجتهد 1/ 96

[8]  ـ رواه البخاري في الآذان باب رفع اليدين إذا كبر وإذا ركع وإذا رفع، ومسلم في الصلاة باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين والترمذي في الصلاة باب ما جاء في رفع اليدين عند الركوع .

[9]  ـ رواه الترمذي في الصلاة باب ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع إلا في أول مرة.

[10]  ـ انظر أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء ص 439، ونيل الأوطار : 2/ 180ـ 181

[11]  ـ انظر كشف الأسرار: 3/ 135.

[12]  ـ انظر نيل الأوطار: 1/ 34ـ 35.

[13]  ـ رواه مسلم في الطهارة باب حكم ولوغ الكلب .

[14]  ـ رواه الترمذي في الطهارة باب ما جاء في سؤر الكلب، ورواه كذلك أبو داود في الطهارة باب الوضوء من سؤر الكلب، والبخاري في الوضوء باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا.

[15]  ـ انظر نيل الأوطار :1/34.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق