مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

تهذيب كتب التراث عند عبد السلام هارون

الحمد لله رب العالمين، به نستهدي وإياه نستعين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فهذا موضوع أردت أن أفتح بابه من صميم عمل الأستاذ المحقق عبد السلام هارون، فقد رأيت أنْ قد أُتيح له في مسيرته العلمية تهذيبُ بعض أُمَّاتِ كتب التراث العربي التي آثر -رحمه الله- أن يُقربها إلى عموم الدارسين، سالكا في ذلك مَذهبا ارتضاه لنفسه أَذِنَ به الناسَ عند كل كتاب هذّبه، فاتخذ لنفسه منهجا في التهذيب حسُن الوقوف عليه والتنويهُ به، ثم استحسانُ اعتماده عند مَن توخى مثلَما توخّاه مِن التهذيب والاختصار، وذهب إليه مِن حسن الاختيار، والبَصَر بمواضع الفائدة ورجاء النفع بما أثبته من الفقرات القِصار.

ثم إن الأمور داعٍ بعضُها إلى بعض، فحَرِيٌّ بي أن أجعل في الصدر من هذا البحث كلاما في فرقِ ما بين التهذيب والاختصار، إذ كانا مما يخلط بينهما كثير من الناس لقرب معناهما واشتراكهما في بعض المسائل.

– أما التهذيب فأصله التنقية، قال ابن فارس في مقاييس اللغة (مادة: هذب): «الهاء والذال والباء كلمة تدل على تنقية شيء مما يَعيبه، يُقال: شيء مُهذب، مُنقى مما يَعيبه». ومنه كما في اللسان (مادة: هذب): «رجل مهذب، أي: مُطهر الأخلاق»، قال النابغة الذبياني(1):

وَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخًا لَا تَلُمُّهُ          عَلَى شَعَثٍ، أَيُّ الرِّجَالِ المُهَذَّبُ؟

– وأما الاختصار، ففي المقاييس أيضا (مادة: خصر): «والاختصارُ في الكلام: تركُ فُضوله واستِيجازُ معانيه»، وكذا في العين للخليل والتهذيب للأزهري وغيرهما. وفي اللسان (مادة: لخص) ما يُفيد اقترانه بالتلخيص، قال: «يُقال: لخّصت القول، أي: اقتصرت فيه واختصرت منه ما يُحتاج إليه».

ويُستفاد من هذا أن بين اللفظين تباينا، فالتهذيب يقتضي الاختيار مع ترك النص على حاله من غير تغيير فيه. أما الاختصار ففيه تغيير للنص بالاقتصار منه على معناه دون الإتيان بلفظه.

ونحن إذا رأينا صنيع عبد السلام هارون في تهذيبه للكتب نجد أنه كان يقصد إلى هذا المعنى الذي يحمله لفظ التهذيب، فقد صرح في مقدماته للكتب التي هذبها بأنه إنما يختار من الكتاب من غيرأن يُجيل يده في عبارة المؤلف بأي تغيير مهما دقّ، وله في ذلك علة استحسنها من نفسه أنْ كان يرى في ذلك أمانة أداء النص كما هو؛ ليكون الكتاب بين يدي القارئ يقتبس منه مطمئن النفس إلى أن العبارة من كلام المؤلف من غير تغيير. وأصل التهذيب عنده ما ذكره في مقدمة تهذيبه لسيرة ابن هشام حيث قال: «وأما بعدُ، فإن التهذيب ضرب من التيسير لمن لم تُتَحْ له قراءة الأصل، وَوُصْلَةٌ صالحة تصل بين شباب اليوم وتراثهم القديم الكريم»(2).

وقد تتبعت مجموع أعماله ما بين تأليف وتحقيق فوجدت أنه خرج منها بثلاثة كتب هذبها من أصولها، وهي: سيرة ابن هشام، وكتاب الحيوان للجاحظ، وإحياء علوم الدين للغزالي. وفيما يلي نعرض لمنهجه في الثلاثة الكتب كما سار عليه وارتضاه مع عَزو كل ذلك إلى مَظانه:

1- تهذيب سيرة ابن هشام:

الكتاب في الأصل أربعة أجزاء كما في بعض الطبعات، وهو نفسه مختصر، اختصره ابن هشام من سيرة ابن إسحاق كما هو معروف. وقد عمد عبد السلام هارون إليه فهذب أصوله ونقّح أبوابه وفصوله، فاستخرج منه اللُّباب فقط. فالناظر في تهذيبه مقارنا إياه بأصل سيرة ابن هشام يجد أن عبد السلام هارون قد حذف الفُضول واقتصر على ما لا بد منه، مِن ذلك حذفه للأسانيد التي تُصَدَّر بها الأحاديث والأخبار، وكذلك أسماء أسارى غزوة بدر، ومَن شهدها من المهاجرين والأنصار، وكثير من الأشعار التي قيلت في ذلك، مع الاقتصار أيضا على ما هو مُتصل بالسيرة فقط، فحذف طائفة من التفسير وإن كان يتصل أحيانا ببعض الغزوات أو الأخبار، وكذلك الاستطرادات اللغوية في تفسير المُشكل من اللفظ، فقد جعل ذلك من تعليقاته في الحاشية بما يَسُد الحاجة ويبلغ المعنى.

وقد ذهب في عَزو الكلام إلى قائله في متن الكتاب إلى أن صدّر ذلك بعبارة: قال ابن إسحاق، أو قال ابن هشام، وأحيانا ينص على ذلك في الحاشية أيضا.

2- تهذيب إحياء علوم الدين للغزالي:

هذا الكتاب جرى فيه عبد السلام هارون على ما جرى عليه في سابقه، فهذبه واستخرج لُبابه، كما حرص على تقديم ما هذبه واختاره بعبارة الغزالي من غير تغيير. إلا أنه في هذا الكتاب خصوصا نبه على أن فيه أحاديثَ موضوعةً كما ذكر العلماءُ قبلُ، فتجنب أن يكون في تهذيبه شيءٌ منها، فلم يُثبت منها إلا الصحيح والحَسن(3). ثم إنه في هذا التهذيب ضبط تلك النصوص التي اختارها، فحققها معتمدا في ذلك مخطوطات الإحياء من دار الكتب المصرية.

على أنّا نجد فيه قلة الحواشي والتعليقات، فقد تمر صفحات كثيرة خالية تماما من الحواشي، مع مراعاة ضبط النصوص وتحقيقها، بحيث لا يكاد القارئ يُحوجه نص إلى التحقيق أو عبارةٌ إلى الشرح والبيان.

3- تهذيب الحيوان للجاحظ:

هذا الكتاب يَنماز عن سابِقَيْه بأمرين: الأول: أنه يربو عليهما من حيثُ الحجم، فإنه في ثمانية أجزاء، والثاني: أن عبد السلام هارون نفسه هو الذي حقق الكتاب الأصل، فقد صدر بتحقيقه عن مطبعة البابي الحلبي بمصر، ونال به الجائزة الأولى للنشر والتحقيق العلمي في المسابقات الأدبية التي نظمها المجمع اللغوي 1949م-1950م، فهو به أَعْرَفُ وله أضبطُ.

وقد سار فيه على نفس منهجه الذي اختطّه لنفسه، فقد استخلص لُباب الكتاب مع الحرص على عدم تغيير عبارة الجاحظ، وعمد فيه إلى حذف كثير من النصوص الحوشية في اللغات والأشعار والأراجيز، وحذف المسائل الكلامية والفلسفية، وفي ذلك يقول: «وقد اقتضاني هذا الغرض (أي التهذيب) أن أنفي منه ما كان مألوفا للقارئ في زمان الجاحظ، وما لا ينبغي أن يظهر عليه في عصرنا هذا إلا الباحثون؛ لأني أحببت أن يكون هذا الكتاب الخالد طَوْعَ يَمين الفتى، فلا يستثيره ما يستثير الشباب، وأن يكون في خِدر الفتاة الأديبة فلا يخدش خَفَرَها واستحياءها، بل يكون صاحبا لها أمينا»(4).

والناظر في هذا التهذيب أيضا يرى اقتصاره على تجريد النص الأصلي من الكتاب، بحيث يُثبت ما اختاره منه خِلْوًا -في كثير من الأحيان- من التعليق والشرح، فلا تجد في الحواشي ذكر اختلاف نسخ المخطوطات، ولا استطرادا في شرح الألفاظ والعبارات، فكثير مما أثبته منها إنما هو شرح ما لا بد منه، في حين تجد نفس النص في كتاب الحيوان يملأ الصفحة بالإكثار من شرح الغريب وبيان الحوشي من اللفظ. هذا مع ما أضافه في التهذيب من صنع الفهارس الفنية في آخره.

إن عمل عبد السلام هارون فيما هذبه من هذه الكتب التي تقدمت معك إنما كان ضربا من تيسير الأصل الذي يعيا به مَن يَرومه، ووُصلة بينهما، وربما حملك التهذيبُ على قراءة الأصل ومراجعة كثير من نصوصه والمقابلة بينها، أو بين حواشي هذه وتلك، وفي كل ذلك يأمن القارئ من إعمال اليد في النصوص، بحيث يقتبس من هذا التهذيب مُدركا أنه من صميم عبارة صاحب الكتاب الأصل، وأنْ لا نصيب للمُهَذِّب فيه إلا ما يراه من تعليقات وشروح في الحواشي، فهذه خَلة حسنة للتهذيب.

لذلك كله ترى أن عبد السلام هارون عمد إلى هذه الأصول فهذبها، وإن كان الأصل هو العُمدة التي تُتَداول في أيدي الباحثين، إلا أن التهذيب يبقى مرجعا لِمَن لم يُمكنه الأصل، وقد قال في ذلك: «وبحسبك أنك تستطيع أن تقرأ هذا الكتاب في أيام معدودات فتظفر بالخير العاجل الكثير، وأنت إذا قرأت الأصل -ولست بمُطيقه- اقتضاك هذا من الوقت أشهرا معدودات»(5).

هذا والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) ديوانه: 74.

(2) الصفحة 13.

(3) تهذيب إحياء علوم الدين: 9.

(4) تهذيب الحيوان: 13-14.

(5) تهذيب سيرة ابن هشام: 13.

المراجع والمصادر:

  • تهذيب إحياء علوم الدين، تأليف عبد السلام هارون، دار الطباعة والنشر الإسلامية.
  • تهذيب الحيوان، تأليف عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي.
  • تهذيب سيرة ابن هشام، تأليف عبد السلام هارون، مؤسسة الرسالة.
  • تهذيب اللغة للأزهري، تحقيق جماعة من المحققين، الدار المصرية للتأليف والترجمة.
  • ديوان النابغة الذبياني، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف.
  • لسان العرب لابن منظور، دار صادر.
  • معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.
  • مقاييس اللغة لابن فارس، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق