مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةدراسات عامة

تعريف علم الكلام ومباحثه ما بين السنوسي واليوسي

1- نبذة عن جهود علماء الكلام وبيان مشروعية علم الكلام وغايته:

يقول السنوسي تحت العنوان التالي: “نبذة عن جهود علماء الكلام”: «فهم جَعَلُوا على حرز دين الإسلام أسواراً لما قدِمت جيوش المبتدعة التي لا تحصى كثرة تريد استلاب ذلك الدين وإبداله بجهالات يهلك من اتبعها. ثم لما أتت المبتدعة بمعاول الشبهات لتهدم به أسوار الأدلة وبسلالم الأوهام والتخيلات للتجاوز بها إلى حرز الدين، بالغت العلماء رضي الله عنهم في الاحتياط للدين ونظرت بعين الرحمة لجميع المسلمين، فأفسدت عليهم تلك الشبهات ونسخت لهم تلك الأوهام والتخيلات بأجوبة قاطعة، لا يجد العاقل عن الإذعان لها سبيلا، وأنفقوا رضي الله عنهم في جميع ذلك الذخائر التي حصلت لهم من الكتاب والسنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم القدوة لهذه الأمة… فهذا حال علماء أهل السنة الذين تكلموا في علم التوحيد وألفوا فيه التآليف جزاهم الله أفضل الجزاء» [8].

أما اليوسي فيبدأ الحديث عن ذلك تحت العنوان التالي “مشروعية علم الكلام وغايته” حيث يقول: (الاعتقادات: كانت في صدر الإسلام سليمة، ولما تكاثرت الأهواء والشيع، وافترقت الأمة كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم على فرق، وكثر الخبث في الدين وغطت على الحق شبه المبطلين، انتهض علماء الأمة وعظماء الملة إلى مناضلة المبطلين باللسان، كما كان الصدر الأول يناضلون على الدين بالسنان وأعدوا لجهاد المبطلين ما استطاعوا من قوة، فاحتاجوا إلى مقدمات كلية وقواعد عقلية واصطلاحات وأوضاع يجعلونها محل النزاع ويتفهمون بها مقاصد القوم عند الدفاع، فدونوا ذلك وسموه علم الكلام وأصول الدين) [9].

فالغاية والمقصد هما أول ما يبحث عنه في سائر العلوم والمعارف، ولما كان الغرض من البحث في علم الكلام عند كل من السنوسي واليوسي هو حرز الدين والدفاع والحجاج عنه كان من أولى الأولويات، ومن هنا شرفه وفضله.

2- الرد على من حرَّم النظر في علم الكلام:

 المسألة الثانية التي وقف عندها السنوسي واليوسي هي النظر فيمن اعتبر علم الكلام محرما أو غير مطلوب تعلمه؛ مبينين خطأ هؤلاء في الحكم على علم الكلام الناشئ عن قلة البصيرة وعدم التمكن من العلم بمقاصد الدين وغاياته، فتحت هذا العنوان نتتبع ذم الإمام السنوسي لمذهب أهل التقليد في العقائد حيث يقول: «وإذا عرفت ضعف القول بصحة التقليد، فأضعف منه في غاية قول من قال: النظر في علم الكلام حرام، بل لا يشك عاقل في فساد هذا القول إن حمل على ظاهره، لأنه مصادم للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. ويلزم هذا القائل أن يجعل الأوامر التي في الكتاب والسنة بالنظر والاعتبار منسوخة، إذ علم الكلام إنما هو شرح لها، والإجماع على بطلان ذلك، بل يلزمه أشنع من هذا؛ وهو أن يحرم قراءة القرآن إذ هو مملوء بالحجج والبراهين والرد على فرق الكفرة بعد حكاية أقوالهم وشبهها وذكر مناظرة الأنبياء مع أممها. ولم يزد علماء الكلام من أهل السنة في كتبهم الكلامية شيئا على نهج القرآن من حكاية الأقوال الفاسدة وشبهها، ثم ذكر البراهين القطعية لإبطالها. وقصارى الأمر أنهم أحدثوا اصطلاحات تليق بضبط العلم لأهل الزمان ولا حجر إجماعا في الأوضاع والعبارات والتصرف فيها بحسب ما يليق بمصالح الأقضية النازلات.. » [10].

ونفس الأمر نجده عند اليوسي حينما حاجج من اعتبر أن النظر في علم التوحيد حرام حيث يقول: (وأما ما يحكى عن بعض المبتدعة كالحشوية وغيرهم؛ من أن النظر في علم التوحيد حرام، فلا يخفى فساده وضلال معتقده لكل عاقل، إذ هو مصادم للكتاب والسنة وإجماع المسلمين الذين يعتد بهم، وأما ما يخلطون به، أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتكلموا فيه فكذب منهم وافتراء.. قال بعض العلماء: من قدح في علم التوحيد فقد أنكر القرآن والسنة؛ إذ أدلته مأخوذة منهما) [11].

ويوضح اليوسي أن الإتيان بالحجج مذكور في القرآن دفاعا عن دين الله ليدحض قول القائلين بحرمة الحجاج والكلام في ذلك حيث يقول: (على أن معظم ذلك (أي من الإتيان بالحجج) مذكور في القرآن، وكانوا عربا يفهمون معانيه فهما وافيا، وكان مملوءا بالحجج والرد على المبطلين، وقد ذكر الله تبارك وتعالى عقائد المبطلين كإنكار البعث والتثليث وغيرهما من الكفريات وأبطلها، وفي ذلك لأهل الكلام أعظم حجة) [12]، فأضاف بهذا عما ذهب إليه السنوسي من الكلام فيه وفق ما تتطلبه ظروف الزمان الذي ينتسب إليه ما يتطلب الكثير من التوضيح وبيان الحجة بالحجة.

3- تعريف علم الكلام:

وبعد أن تعرفنا على آراء السنوسي واليوسي في غايات ومقاصد علم الكلام وحجيته، نتعرف الآن على حد هذا العلم وفق آرائهما.

وضع الإمام السنوسي تعريفا جامعا لعلم الكلام ومبادئه، مقتصرا على إيراد مجموعة من التعريفات التي وضعها من قبله، ما سمح لليوسي لإبداء مجموعة من الاعتراضات والتوضيحات بخصوص هذا الأمر، بل إن اليوسي أفاض في الأمر وفصل فيه انسجاما مع روح عصره.

فذهب السنوسي إلى القول: «أما حقيقة علم الكلام فهو: العلم بأحكام الألوهية وإرسال الرسل وصدقها في كل أخبارها، وما يتوقف شيء من ذلك عليه خاصا به، وتقرير أدلتها بقوة هي مظنة لرد الشبهات وحل الشكوك.

هكذا حده الشيخ ابن عرفة، قال: فيخرج علم المنطق»،

وأضاف: «وحدَّه ابن التلمساني بأنه: العلم بثبوت الألوهية والرسالة وما يتوقف معرفتهما عليه من جواز العالم وحدوثه وإبطال ما يناقض ذلك»[13].

أما اليوسي فذهب إلى التفصيل في ذلك بالقول: (ينبغي أن يعلم في هذا المقام أن مبادئ العلم التي تذكر بين يدي الشروع فيه عشرة وهي: اسمه وحده وموضوعه وواضعه واستمداده ومسائله ونسبته وفائدته وحكمه وفضله، وهذه كلها محتاج إلى معرفتها في الجملة، إلا أن بعضها أوكد من بعض..)[14].

ثم قال: أما اسم هذا العلم فاعلم أنه يسمى بثلاثة أسماء وهي: علم أصول الدين، وعلم التوحيد، وعلم الكلام.

أما تسميته بالأول، فلأن سائر العلوم الدينية مبنية عليه، وأصل الشيء ما يبنى عليه الشيء..

وأما تسميته بالثاني، فلأنه مشتمل على توحيد الله تعالى تسمية له بأشرف أجزائه.

وأما بالثالث، فلأن أهل الكلام يصدرون مباحثهم بقولهم: (الكلام في كذا-الكلام في هذا- المبحث كذا)..

وأما بالرابع، فلأن المقصود من هذا العلم معرفة الإله تعالى..) [15]

وقال في موضع آخر إجمالا لما بسطه في الحواشي: (فالحاصل عندنا اليوم أنه العلم الباحث عن الكائنات من حيث إثبات موجدها وصفاته وأفعاله وخطابه لخلقه وأحوال الخطاب وما يتوقف عليه شيء من ذلك خاصا) [16].

ثم علق على اعتماد السنوسي على حدّ ابن عرفة بالقول: (فأدخلنا في الحد موضوع العلم لأن ذلك سنة الحد خلاف ما فعلوا في تعريفهم) وأضاف: (ودخل في أحوال الخطاب النبوات والسمعيات، ولا حاجة إلى تقرير الأدلة الواقعة في تعريف ابن عرفة) [17] ، فبين بالتالي أن تعريف السنوسي واعتماده على ابن عرفة فيها إضافة تصديق النبوات هو أصلا داخل في فيها دون ذكرها بألفاظها (فلا جهة لذكر: صدقها في كل أخبارها) لدخوله أصلا، فلو عبر بالرسالة وعطف على الألوهية وقال هكذا: (العلم بأحكام الألوهية والرسالة وما يتوقف شيء من ذلك إلى آخر كلامه كان أوجز وأحسن..) [18].

الصفحة السابقة 1 2 3الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق