وحدة الإحياءمفاهيم

الوعي بالسياق شرط من شروط الاجتهاد والتجديد

تُطل الإحياء من جديد والعالم من حولها يعيش مجموعة من التقلبات والتجاوزات والانتهاكات، وكأننا في أتون كابوس دلفت إليه البشرية بمحض إرادتها عبر العقود والقرون؛ فواقعنا اليوم عبارة عن ترسبات مفاهيمية وسلوكية أشبه ما تكون بالترسبات الجيولوجية المزمنة، ولا انعتاق إلا بالوقوف على جليتها وكيفية تكوينها؛ إذ ما نراه اليوم واقعا ليس إلا ثمرة قد تبلورت من خلال وصول النُّسغ المغذي إليها، عبر جذور وجذوع وفروع، والتعامل مع الثمرة في إهمال للجذور والجذوع والفروع كالتعامل مع النتيجة في إهمال للأسباب.

وإن من أُولى علامات الحضور والشهود الحضاريين عند أمة من الأمم قدرتها على فهم واستيعاب ما يحيط بها من أحداث ووقائع، وتبين ما يكمن وراءها من مفاهيم ومعتقدات وقيم ومناهج وأفكار، وكذا قدرتها على بلورة مواقف إزّاء كل ذلك؛ مواقف يتم قياس جدواها بحسب تأثيرها في تأطير السلوك العام وتعبئته لاجتناب مصادر الخلل، وكذا القدرة على صوغ أحلام لها قدرتها التعبوية الموجهة لجهد الإنسان في تناسق مع المكان، واستعمال راشد للزمان، ومن المؤسف أن نرى أن كسب أمتنا في هذه الاتجاهات قد غِيض وانحسر منذ زمن غير قصير، فانفكت عرى العلاقة مع الواقع والكون والوحي، وطفقنا نتعامل مع هذه المصادر الموجهة لكسب الإنسان، تعاملا تجزيئيًا واجتراريًا ومقلدًا في بُعد تام عن التكامل بينها.

إن الكون في المنظومة القرآنية عبارة عن كتاب الله المنظور، والوحي هو كتاب الله المسطور، ولكل أبجده الخاص به الذي يعتبر مدخلا للحوار الباني معه، وللقراءات التأسيسية المحررة للفاعلية الكامنة فيه. والذهول عن المعرفة بالأبجدين يمنع من المتح الراشد من معيني هذين الكتابين الربانيين، لكي يحل الاستظهار والتقليد والترداد محل الإبصار والاسترشاد والاستهداء؛ مما يقتضي تجديدًا ناجزًا لمناهج القراءتين في أفق الجمع بينهما، مصداقا لقوله تعالى في سورة العلق: “اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم”.

وللوقوف على جَلية هذه المفارقة، يمكن أن نستحضر مثال جهاز التموقع الشامل GPS، فمن يسوق اليوم في طرقات اليابان أو أوروبا أو أمريكا يمكنه استعمال هذا الجهاز الذي يُقدره وهو داخل سيارته أن يتصل بالأقمار الاصطناعية التي برمجت فيها الطرقات والأزقة، بحيث توجد في خرائط تفصيلية بأسمائها وسماتها، مما يؤهل السائق إن استجمع شروط “القراءة” ولو لم يسبق له المجيء إلى تلك الأوطان أبدا، أن يتحرك فيها بتمكن ورشاد. غير أنّ تلك الخرائط وإن تطلب إنجازها عملا جبارا، إن لم تُغذّ بالمعطيات المستَحدثَة، فإنها تصبح عديمة النفع، مما يتطلب تحديثا مستداما لها، وكذا العلاقة بين الوحي والواقع، فلئن تطلب إنجاز المدونات الفقهية والأصولية والبيانية الممكّنة من الاهتداء في الواقع بآيات الوحي وبصائره كل الجهد الجبار الذي توغل بالمكلفين في دقائق هذا الواقع وتفاصيله وأحكامها، فإن عدم تحيينها يجعلها أشبه بتلك الخرائط في الأقمار الاصطناعية التي لم يتم تحديثها، فهي على ألقها وشموخها وعظيم قيمتها، لن تنفع السائقين في تعقيدات الواقع؛ إذ بُدّلت الأزقة غير الأزقة، والدروب غير الدروب، والقناطر غير القناطر؛ اللهم إلا فيما ثبت.. مما يستدعي استنانا بسنة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، جهدًا تجديديًا مستدامًا يمكّن من اعتبار المستجدات، وإعطائها مواقعها ومقاديرها وأحكامها في تناسق مع المنظومة التشريعية الشاملة، وتَجانُفٍ عن السقوط في مهاوي التجزيء والتعضية، والتي قد توصلنا أحيانا إلى درك “الموظّفات من الرضاع”.

إن الإحياء بفتحها اليوم لملف السياق تروم إنجاز قراءة متجددة لتزويد معمارنا الفكري وبنائنا الفقهي والمعرفي بالأسماء والسمات المستخلصة من الواقع المتجدد، واستنباط أحكامها مع استحضار للمقاصد، وضرورة التسديد والتقريب انخراطا في مسار إعادة هيكلة الحقل الديني وتجديده، الذي أطلقه أمير المومنين الملك محمد السادس أيده الله، حتى يتمكن إنساننا من توقيع الفعل الراشد، واستعادة كتابة تاريخه والمسؤولية عن مصيره، كما تروم الإحياء بفتحها هذا الملف تفعيل الحوار حول الراهن والمصير، وتحديد الأدوار والمسؤوليات ومقوماتها.

لاشك أن عالمنا أصابته رضوض وجراحات، وسكنته أقراح وأتراح؛ غير أن هذا العالم أيضا انبجست فيه عيون أمل كبيرة، واندهقت فيه مصادر فرح كثيرة، والإنسان إن استعان بالقراءة التكاملية الجامعة بين هاديات الكون الممكّنة من الحركة، وهاديات الوحي الممكّنة من الوجهة والقِبلة، سوف ينعتق ولا شك في واقعية من إكراهات هذا الحاضر، وينطلق نحو آفاق المنشود في استكشاف لمناجم الجمال البلسم، وواحاته في كل من الوحي والكون، وبحسب الإحياء أن تومئ اليوم بكل تواضع ومسؤولية نحو هذه الأوراش الحضارية الكبرى التي تقتضي الاستثمار الجاد، والجهد الكبير، والأمل الواسع المسؤول، لكي يتم إنجاز بعض ما تتطلبه من أشغال، وتبرئة ذمة جيلنا الحاضر، التي لا تبرأ إلا بالقيام بهذه الفروض على الكفاية.

Science

الدكتور أحمد عبادي

• الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق