مركز الأبحاث والدراسات في القيمحوارات

القيم تستند إلى الفطرة وأصل التجربة

يشرع موقع مركز الأبحاث والدراسات في القيم بإجراء العديد من الحوارات الشهرية مع ثلة من المهتمين بقضايا القيم والتربية، يتم فيها التذاكر في مختلف المستجدات الثقافية والفكرية التي تدخل في نطاق تخصص المركز، وفيما يلي الحوار الذي أجري مع الدكتور عبد الجليل أميم، أستاذ التواصل والتربية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة القاضي عياض مراكش.

أجرى الحوار الأستاذ عبد الخالق بدري

1.  تميز تخصصكم بالوقوف على مجموعة من المواضيع و بالأخص على قضايا القيم والتواصل وعلاقتهما بالهوية والتربية، ما هي أهم معالم هذه الأطروحة؟

لا تنطلق التربية من فراغ في بناء مناهجها سواء تعلق الأمر بمضامينها أو أهدافها أو طرقها البداغوجية أو أنشطتها التربوية. ذلك أن التربية هي فعل قصدي ومقاصدي. لذلك فهي شاءت أم أبت تصدر عن إطار معرفي معين متعدد أو أحادي الأصول. وأيا كان هذا الإطار المعرفي فهو مسكون بقيم ما، لبسته وتلبس بها، كيف لا وواجب التربية أصلا هو ضمان البقاء للنظام السائد وتكوين المواطن الصالح له. أو ليس فعل رب أو ربا مسكون بالقيم غارق فيها ؟ أو ليست أهداف التربية كلها قيما إما عليا أو أداتية ؟ وإذا كان الأمر كذلك فإن المرء مدفوع لا محالة للتساؤل عن دور التربية على القيم في سيرورة التطور في مغربنا المعاصر؟.

2.  كيف ينظر المفكرون الألمان إلى مبحث القيم، وما علاقته بالمباحث الأولى؟

سأركز في جوابي على علاقة مبحث القيم بالتربية كمجال تطبيقي و كذا تنظيري في هذا المجال، و أذكر أن مجلة    الألمانية في عددها 48 من سنة 1994 نشرت  بين الصفحة47-60  مقالا مهما للباحث التربوي Wolfgang Brezinka   الأستاذ في جامعة Konstanz بعنوان : قيم –التربية، و لأهمية هذا المقال في تلخيص مبحث القيم في الغرب  في ارتباطه بالجانب التربوي نعرج على أهم ما جاء فيه كالتالي:

يعتبر Brezinka مصطلح “القيم” غارقا في التجريد وذا مضمون هزيل، كما أنه مصطلح واسع الانتشار، أما مصطلح “التربية على القيم” فيبقى غير مفهوم، إذ لم يتم تناوله بالدرس و التحليل، ومن ثم وجب طرح تساؤلين أساسين:

– أولهما: من أي مجال فكري انبثق مصطلح التربية على القيم؟

– ثانيهما: و ماذا يعنى به؟

للإجابة عن هذين التساؤلين يضع Brezinka خمس أطروحات هي كالتالي:

الأطروحة الأولى تقول:

أن التربية على القيم هي إجابة تربوية سياسية على أزمة الثقافة في المجتمعات الليبرالية المستنيرة اللائكية، إذ أن الأزمة الثقافية لهذه المجتمعات أصبحت أزمة توجه وأزمة قيم.

الأطروحة الثانية ومفادها:

أن التربية على القيم هي مسمى جديد لواجبات تربوية معروفة و قديمة

–  كالتربية الدينية والتربية على الحياة، أو التربية التوجيهية التي تؤسس نظرة الفرد للحياة وتعطيها                  معنى معينا.

–  والتربية الأخلاقية و تقوية الفضائل.

–  والتربية القانونية أو لنقل التربية الحقوقية.

– والتربية الوطنية والتربية على المواطنة و كذا التربية السياسية والاجتماعية.

الأطروحة الثالثة:

على الدولة أن تركز في المدارس العمومية على التوجيهات و التصورات القيمية التي تلتزم بها كل مكونات المجتمع، لأن هذه التصورات هي التي تنظم العلاقات بين الناس و تساهم بشكل فعال في ضمان استمرار وجود المجتمع، بل إن وجوده متعلق بها أيما تعلق، و لذا فإن التربية على القيم التي  تتبناها الدولة عليها أن تكون تربية على القيم الأساسية بالدرجة الأولى.

الأطروحة الرابعة:

الارتباط بالقيم الأساسية للمجتمع شيء مركزي و لكنه غير كاف، لذا وجب التوجه إلى التربية الروحية والدينية. و واجب هذه التربية يقع على الوالدين والمؤسسات الدينية، و على المدرسة أن تحترم قيم هذه المؤسسات و تدعمها.

الأطروحة الخامسة:

التربية على القيم، ليست إلا ملخصا لواجبات تربوية متعددة، لذلك فلا يسري عليها مبدأ الانغلاق أو تطوير الاستراتيجيات البسيطة.

3.  ما هي في نظركم أهم القضايا الفكرية والمنهجية التي تتطلب مزيدا من البحث والتمحيص والمرتبطة بمبحث القيم؟

ربما  ما نحتاجه هو تطوير الجانب الإجرائي في تنزيل القيم في برامج عملية على المستوى المؤسساتي، سواء تعلق الأمر بالمؤسسات الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية. و لربما جانب التفريق في القيم الإسلامية بين القيم المركزية و القيم الوظيفية و التي تعرف تطورا و تغيرا إن سياقا أو زمانا.

4.   صدرت عدة تقارير  شخصت الواقع القيمي بالمغرب وأهم تجلياته، وتوصلت الى تحول قيمي في النسيج المغربي، هل هناك كفاية مؤسساتية لرصد التحول القيمي بالمجتمع المغربي؟

لا أظن ذلك، نظرا لأن التحولات الاجتماعية تتسارع بحكم واقع العولمة وتطور وسائل التواصل الاجتماعي. لذلك أعتبر أن الأصل هو الاكتفاء بمؤسسات رائدة تعمل على الدفع بعجلة البحث العلمي في هذا المجال في المؤسسات الجامعية. و أظن أنه بهذه الطريقة يمكن إشراك أكبر عدد من المؤسسات العلمية في عملية الرصد والتحليل و التفكيك و التجديد و إعطاء البدائل مع الحفاظ على مركزية بعض المؤسسات لتوجيه البحث من جهة، وكذا مراكمة التجربة من جهة ثانية، زد على ذلك التوفر على رؤية شمولية لتطور البحث في هذا الحقل وطنيا ودوليا من جهة ثالثة. أما كثرة المؤسسات فمعناها تشتيت الجهود و خصوصا و أن التجربة و الواقع في مغرب اليوم يؤكدان على أنه لا وجود لأي تنسيق بين مؤسسات البحث الوطنية إلا استثناء.

5.  عرف العالم الإسلامي عدة تحولات تستوجب مسايرتها  معرفيا، في نظركم دكتور ما هي أهم تجليات الخطاب الاسلامي المعاصر في منظومة القيم؟

أعتبر أن الخطاب الإسلامي باستثناء أهل التخصص في مجال القيم يعيد في كثير من الأحيان خطابه القيمي التقليدي. و كل منجزاته عبارة عن ردود أفعال لا عن مشاريع تدخل في إطار استراتيجية متوسطة أو بعيدة المدى في هذا المجال. لذلك لا تستغرب إن و جدت ندوات و أيام دراسية هنا وهناك تعيد نفسها في مواقع و بأشكال مختلفة.

6.  يعرف المجتمع المغربي تحولات في نظامه القيمي، ما هي في نظركم دكتور أهم هذه التحولات، وما هي الكيفية التي سترسخ بها قيم ايجابية في المجتمع المغربي؟

مرة أخرى سأجيب من زاوية تربوية باعتبارها مجال النظر والتنزيل، وأقدم لكلامي بما يلي:

هل بالفعل عاش المجتمع المغربي أو يعيش نفس التطورات التي عاشها الغرب لكي نحتاج إلى تربية على القيم و البحث فيها؟ ما هي القيم التي يحتاجها مغرب اليوم؟ هل يمكن استنساخ البرامج التربوية للتربية على القيم كما هي في الغرب؟ وهل الدوافع وراء التركيز على بعد القيم في مغرب اليوم هي نفسها تلك التي سادت في أوربا؟

الجواب سيكون بطبيعة الحال بالسلب وهذا ليس ابتكارا، بل هو مما يعرف بالضرورة في العلوم الإنسانية.

فالمغرب لم يعش حداثة، بل لم يدخلها أبدا إلا في مخيلة من يُنظِّرون لها في مغرب اليوم. بل حتى و لو سلمنا لهم بدخوله لها، فيجري عليه ما يجري على العالم الغربي من تحديات مرتبطة بسيرورة التحديث خصوصا في الجانب القيمي. و لذلك يصبح التساؤل عن التربية على القيم في المغرب بالمنطق الحداثي نفسه ضرورة ملحة، رغم قناعتنا بأن تراجع القيم في مغرب اليوم له ارتباط بالتخلف لا بالتحديث، و له وصل بالاستبداد لا بالحرية، و له علاقة بالتقليد لا بالإبداع، و موصول بالشعوذة الفكرية والأساطير المعاصرة لا بالعقلانية كمبدأ يجعل العلم قائدا في النظر و العمل في جميع مناحي الحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية. وما دام الأصل عاجز فلا يجب علينا كمقلدة أن ننسى بأنّ العاجز في ذاته قاصر عن الوصول بغيره، فكيف إذا كان هذا الغير نفسه في مجال التوجيه القيمي محتاج هو الآخر لغيره.

حاصل القول:

إن المرجعيات العليا المختلفة بل المتناقضة للقيم في مغرب اليوم أنتجت لنا إنسانا مغربيا يكاد يكفر بكل القيم اعتقادا، أما كفره بها عملا فجلي وواضح. فالمغربي المعاصر إنسان يحيى مزدوجا إلى حد المرض، يؤله ذاته ويذوب في الجماعة، ينافح عن الأصول ويضيعها، ينفتح عن الآخر المختلف حضاريا إلى أقصى حدود الانفتاح، وفي نفس الوقت يحافظ على الخصوصيات، يعيش في الماضي بعقل معاصر، ويعيش في الحاضر بعقل ماضوي، يدعو إلى التوافق، ويمارس الإقصاء، يصلي يوم الجمعة، ويشرب الخمر يوم السبت، ويضاجع النساء يوم الأحد، ويصوم يوم الاثنين، يستجم في الغرب ويعتمر في الشرق ربما في نفس الشهر. قيم متعارضة استدخلها المغربي وأنتجت نموذجا مغربيا عجيبا تتعايش فيه المتناقضات بسلام و أمان.

هذا هو واقعنا القيمي مع بعض الاستثناء. و لدي ملاحظات خاصة في هذا المجال ستصدر قريبا في كتاب خاص حول التربية.

7.  أزيد من أربع ملايين من الشباب المغربي يقطن بالعالم الافتراضي اليوم، في نظركم هل من تأثير على منظومة القيم لدى هؤلاء الشباب، وهل من حصانة ضد القيم السلبية المبثوثة في الانترنت؟

أعتبر شخصيا أن الأصل هو هذا التلاقح، والاستثناء هو التقوقع، ودعوة الإسلام لا تسلم أبدا بالانكماش، وأهلها واعون تمام الوعي بدورهم في الوجود العيني. الذي يختلف في هذه اللحظة من الزمن الإسلامي هو انتشار نوع من الانهزام النفسي المبني على تفوق الآخر علميا و استعداد سيكولوجي للتدحرج إلى الخلف. ولا أسلم أبدا بكون هذا العالم افتراضيا بل هو حقيقي، إذ أصبح يؤثر في السياسة والاقتصاد والمجتمع. وأنطلق من مسلمة مفادها أن الاصطدام القيمي مع الآخر المخالف حضاريا، يولد وعيا قويا بالقيم الذاتية الخاصة بثقافتنا و يدفعنا إلى تطوير فهومات جديدة عن الذات والآخر، كما يمنحنا فرصة التأثيرعلى الآخرو التأثر به. وسنة الوجود أن الدوام للأصلح.

8.  استطاع الدكتور طه عبد الرحمن أن يحاجج كانط في كتابه سؤال الأخلاق، هل من علاقة بين التصور الكانطي للقيمة والمنظور الإسلامي لها؟

هل نسلم أولا بوجود تصور ما نطلق عليه نعت إسلامي حول القيم. أعتقد أن الإسلام منظومة منفتحة على الزمان و المكان. بمعنى أن القيم المبثوثة فيه قد تعرف تطورا يلامس كل أبعادها حسب زمانها و مكانها. و ما يكتب حتى الآن حول القيم الإسلامية هو فهم أبناء هذا الزمان للقيم الإسلامية، وكما هو معلوم فالفهوم تختلف باختلاف أهلها و سياقاتها و تنشئة القائمين بها. و شخصيا لا أجد مبررا علميا يجعلني أقارن منظومة إلاهية باجتهاد بشري كاجتهاد كانط، كما أن القيم الإسلامية المبثوثة في التنزيل الحكيم تستوعب زمان كانط و استوعبت ما قبل كانط والآن في طريقها لتجاوز ما بعد كانط. والسبب في ذلك هو انفتاحها على اللانهائي لأي تأويل يصب في مصلحة الناس ويعمل على ترسيخ المساواة والعدل والأخوة والتعارف بينهم، هذه القيم نفسها يتم ملؤها بمضامين تستجيب لعصرها و ثقافة أهلها. فعدل الأمس ليس هوعدل اليوم، وضوابط المساواة بالأمس ليس هي ضوابطها الآن و هكذا مع كل قيمة إسلامية كيف ما كانت.

9.   سؤال أخير: من خلال ما راكمتموه من بحث وعمل في تخصصكم في نظركم هل القيمة ذات طبيعة فطرية أم أن أساسها هو التجربة؟ مع العلم أن هذا السؤال مازال مفتوحا على جميع أطروحات المفكرين الذين قدموا إجابات حوله؟

بالنسبة للجواب على هذا السؤال أظن أن القيم من وجهة نظري الخاصة لها أصلين اثنين: أصل الفطرة انطلاقا من إيماننا بأن الإنسان قبل نزوله إلى الأرض علمه الله الأسماء كلها. وأعتقد أن الأمر يتعلق هنا بتزويد الإنسان باستعدادات سيكولوجية ذات أبعاد معرفية وسلوكية ووجدانية، وكذا مضامين معيارية تمكنه من التفاعل مع المحيط والوصول إلى تقييم الأشياء بطريقة أقرب إلى الصواب أو هي الصواب مع احتمال إتيان الخطأ. وأصل التجربة ويتجلى في كون الإنسان بإمكانه تطوير قيم فرعية خاصة به كشخص أو كجماعة، هذه القيم ذات طبيعة متغيرة تدور في فلك القيم المركزية المطلقة التي تعلمها الإنسان في السماء، فتقترب منها تارة و تبتعد عنها تارة أخرى. ولو أخذنا مثلا قيمة العدل، فاعتقادي هو أن الإنسان تعلم قيمة العدل في بعدها الشمولي الكامل و بالمطلق، لكنه على الأرض و بحكم التجربة والأهواء يعمل على تكييفها حسب الزمان والمكان والحال. فعدم المساواة بين الناس في الجمهورية الأفلاطونية اعتبره أفلاطون قمة العدل، و تقسيم المجتمع إلى طبقات كذلك. وفقط بإرسال الرسل والكتب السماوية يرجع الله عز وجل تصور وفعل الإنسان إلى أصله المطلق، ليعيد حساباته مرة أخرى في كل أشكال تقييمه للأفكار والأشياء والأفعال والناس. لذلك وعلى رأي كارل بوبر فإن أصل الأخلاق جملة لا يمكن أن يكون إلى دينيا علويا و متعاليا.

Science

ذ. عبد الخالق بدري

باحث بمركز أجيال للتكوين والوقاية الاجتماعية بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. يمكن ان الحديث على بيداغوجيا القيم، يعتمد في النظام التعليمي المغربي، لان الغاية منه هو تكوين مواطن صالح ، .يستطيع الاندماج في المجتمع، ولا سبيل لذلك الا باعتماد منظومة للقيم تنظيرا وتمثلا

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق