وحدة الإحياءشذور

القيم بين النظر والعمل.. كونية الاجتهاد الصوفي

تتجلى أهم خصيصة محددة لهوية الإنسان الوجودية في اقتداره على التميز عن المكان والزمان والأشياء، تلك المقدرة التي تخول له تحديد الواقع ومعرفة تفاصيله ومختلف تلويناته، واستشراف آخر جديد.

ولم يكن الإنسان ليدرك هذه الوقائع في تعددها وتحولها، لولا تحليه بملكة التقويم التي ليست إلا كفاية يربط فيها بين الواقع والقيمة؛ إذ الإنسان ليس مجرد “حيوان عاقل” للواقع فقط، بل هو كذلك مخلوق مقوم لهذا الواقع حالا واستقبالا.

فالكفاءة التقويمية هي نوع من الرؤيا الشمولية والمعايير المحددة التي بها ينظر الإنسان إلى ماضيه وحاضره ومستقبله، وتتمظهر في نوع من الأحكام، تعتبر بما كان، وتصف ما هو كائن، وتتشوف إلى ما يجب أن يكون.

ولذلك اشتغل الفلاسفة ومنظرو النظام الوجودي للإنسان بالمنظورات القيمية، وساروا فيها وجهات متعددة دلت على مركزية القيم في العمران الإنساني ككل. ولا يخرج استشكال النظر والعمل في مبحث القيم عن هذا الجدل الفلسفي والمعرفي والسلوكي. إذ أصبحت مسألة القيم اليوم هاجس الفكر الفلسفي المعاصر الذي يبحث في خصوصيتها وكونيتها، ووحدتها وتعددها، وصراعها وتصالحها، وفي كونها مجرد نظر أو محض عمل.

وبخصوص المجال الفكري الإسلامي، فقد انبرى زمرة من المفكرين والفلاسفة المعاصرين إلى مدارسة المشكلة الأخلاقية والمسألة القيمية، تراوحت بين الاستغراب لغيابها في الفلسفة الإسلامية الوسيطة باستثناء مسكويه، والسعي إلى استئناف بحث جدي بصددها[1]، أوالخروج بخلاصة مفادها أن حظها من اهتمام علماء الإسلام ومفكريه ضئيل إذا قورن بغيره من مجالات المعرفة العلمية الفلسفية[2]، إلى الاجتهاد التأصيلي للأخلاق من منظور الدين الإسلامي ومقارنته بنزعاته ومذاهبه الغربية.[3] أو الإبداع الفلسفي الذي تمظهر في جهود الأخلاقيين المسلمين، الذين انشأوا أنساقا عقلانية مبنية على العمل في الإسلام ومرتبطة بالمجال التداولي الإسلامي الذي يقوم على أركان العقيدة واللغة والمعرفة[4].

ولقد أسهم الفكر الإسلامي في مختلف تجلياته الكلامية والفلسفية والفقهية والصوفية بأنظار فريدة في القيم تتصل بمباحث النظر والعمل، ويمكن اعتبارها منظورا له خصائصه المميزة والتي تحتاج إلى مزيد من تعميق البحث والدرس.

ويمكن اعتبار علم التصوف مجالا اختص بالقيم والأخلاق في البنيان الفكري الإسلامي؛ إذ كانت هي موضوع اهتمامه واشتغاله سلوكيا ومعرفيا وعرفانيا، وستحاول هذه المداخلة أن تبين وجوه الاجتهاد الصوفي في مسألة القيم من حيث علاقتها بالنظر والعمل، تأصيلا وممارسة، وكيف أفضى هذا الاتجاه إلى كونيتها.

 أولا: مفاهيم القيم والنظر والعمل

1. القيم

لفظ “القيمة” اسم هيئة يدل في الاستعمال العادي على “قدر الشيء أو مقداره”، ويدل في الاصطلاح على معان تختلف بحسب المجالات التي يرد فيها اختلافا يزيد أو ينقص عن هذا الاستعمال العادي. ففي المجال الفلسفي، تفيد “القيمة المعنى الخلقي الذي يستحق أن يتطلع إليه المرء بكليته ويجتهد في الإتيان بأفعاله على مقتضاه”؛ أي أنه المعنى الذي يجمع بين “استحقاقين” اثنين: استحقاق التوجه إليه واستحقاق التطبيق له؛ وبناء على هذا التحديد الفلسفي الإجمالي لكلمة “قيمة”، استعمل الفلاسفة قديما، لفظ “المثال” أو مُثُل “الخير” و”الحق” و”الجمال”، و حديثا: مُثُل “الحرية” و”المساواة” و”العدل”؛ في حين، اختص علماء الأصول، بلفظ “المصلحة”؛ أو المصالح المستنبطة من النصوص الشرعية، وهي: “الدين” و”العقل” و”النفس” و”المال” و”العِرض[5].”

 وغير خاف أن القيم ارتبطت بلفظ الأخلاق الذي مفرده خُلُق، والخُلُق، لغة هو الطبع واصطلاحا هو الصفة السلوكية محمودة كانت أو مذمومة، واللفظ المقابل له في اللسان اليوناني هو “إيتوس” وهو لفظ قريب في النطق من لفظ “إتوس” ومعناه العادة، وقد أخذت الممارسة التراثية بالمعنيين معا: الطبع والعادة، في تصنيفها للصفات الخلقية، وجعلتها على ضربين: “ما هو طبيعي من أصل المزاج” و”ما هو مستفاد بالعادة والتدريب”، ورتبت عليهما مواقف ثلاثة[6]: القول بالطبع؛ والقول بالتعود؛ والقول بالتأليف بين الطبع والتعود، ويرجع هذا الموقف الثالث إلى القول بأن القابلية للخلق تكون بالطبع في حين يكون الرسوخ في الخلق بالتعود[7].

فتأثير الحد الفلسفي للخُلق عند جالينوس من خلال كتابه الأخلاق، واضح وجلي  في المنقول التراثي، فهو” حال للنفس داعية للإنسان أن يفعل أفعال النفس بلا روية ولا اختيار”، حيث تبنى أبو علي مسكويه الذي اشتهر بلقب مؤسس علم الأخلاق الإسلامي هذا التعريف بكونه عرف الخلق هو أيضا بأنه، “حال للنفس داعية إلى أفعالها من غير فكر ولا روية[8]. فالأخلاق في مجال الممارسة الفلسفية الإسلامية المنقولة عن اليونان، إذن، عبارة عن أحوال راسخة في النفس رسوخ طبع أو رسوخ تعود، تصدر عنها أفعال توصف بالخير أو بالشر.

2. النظر

النظر لغة الانتظار، وتقليب الحدقة نحو المرئي، والرحمة، والتأمل. وفي الاصطلاح: الفكر المؤدي إلى علم أو ظن. قال إمام الحرمين في الشامل: “الفكر هو انتقال النفس من المعاني انتقالا بالقصد، وذلك قد يكون بطلب علم أو ظن، فيسمى نظرا. وقد لا يكون كأكثر حديث النفس، فلا يسمى نظرا بل تخيلا وفكرا. والفكر أعم من النظر. فالحاصل أن قصد الناظر الانتقال من أجزاء الحد، وقال في البرهان: “حقيقة النظر تردد في أنحاء الضروريات ومراتبها، وقال فيما بعد: عندنا مباحثة في أنحاء الضروريات ومراتبها وأساليبها، وقد اعترف فيما بعد أن الضروريات تنقسم إلى هاجم عليه، ويسمى ضروريا. وإلى ما يحتاج إلى فكر، فيسمى نظريا. قيل: وهذا نقض لقوله: إن كلها ضرورية. وأما حصر النظر في الضروريات فلا يستقيم، فإنه قد يكون في غير الضروريات ضرورة، ثم هو منقوض بالشك[9].”

وقال القاضي أبو بكر: النظر هو الفكر الذي يطلب به من قام به علما أو ظنا، وهو مطرد في القاطع والظني. واحترز بقوله: “به من بقية الصفات، فإنه لا يطلب بها بل عندها، فيكون شرطا للطلب. كذا حكاه عنه الآمدي واستحسنه، وأجاب عما اعترض به عليه، ثم اختار خلافه، وليس لشيء واحد حدان مختلفان. وقال الأستاذ أبو منصور: هو الفكر في الشيء المنظور فيه طلبا، لمعرفة حقيقة ذاته أو صفة من صفاته، وقد يفضي إلى الصواب إذا رتب على وجهه، وقد يكون خطأ إذا خولف ترتيبه.

وقال الغزالي في الاقتصاد: “إذا أردت إدراك العلم المطلوب فعليك وظيفتان: إحداهما؛ إحضار الأصلين؛ أي المقدمتين في ذهنك. وهذا يسمى فكرا. والآخر يسوقك إلى التفطن لوجهة لزوم المطلوب من ازدواج الأصلين، وهذا يسمى طلبا. قال: فلذلك من جرد التفاته إلى الوظيفة الأولى وجد النظر بأنه الفكر، ومن جرد التفاته إلى الثانية قال: إنه طلب علم أو غلبة ظن. قال: ومن التفت إلى الأمرين جميعا قال: إنه الفكر الذي يطلب به من قام به علما أو غلبة ظن. قالوا: ولا يستعمل إلا فيما يمكن أن يحصل[10] له صورة في القلب، ولذلك ورد “تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله”.

 وقال بعض الأذكياء: الفكر مقلوب الفرك غير أن الفكر لا يستعمل إلا في المعاني. وقال القاضي أبو يعلى في كتابه المعتمد الكبير: “النظر والاستدلال معنى غير الفكر والروية، بل يوجد عقبه. خلافا للمعتزلة في قولهم: إنهما بمعنى واحد، ولنا أن الإنسان يفكر أولا في الجسم. هل هو قديم أو حادث؟ وما دام مفكرا فهو شاك، ثم ينظر بعد ذلك في الدليل، وحينئذ يلزم أن يكون النظر والفكر متغايرين. قال الروياني في البحر: والفرق بين الجدال والنظر وجهان: أحدهما: أن النظر: طلب الصواب، والجدال: نصرة القول. والثاني: النظر: الفكر بالقلب والعقل، والجدال: الاحتجاج باللسان[11].

3. العمل

العمل كما جاء في القاموس هو: “المهنة والفعل وجمعه أعمال، وأعمله واستعمله غيره، واعتمل عَمِل بنفسه[12]“، وقال الراغب الأصفهاني: “العمل: كل فعل يكون من الحيوان بقصد فهو أخص من الفعل لأن الفعل قد ينسب الى الحيوانات التي يقع منها بغير قصد… والعمل يستعمل في الأعمال الصالحة والسيئة[13].”

فمن خلال هذه الدلالات الاصطلاحية، نجد أن لفظ النظر يدل لغة على الإبصار واصطلاحا على الفكر الذي يطلب الظفر بالمعرفة، ويقال المعرفة النظرية في مقابل المعرفة الضرورية التي يراد بها المعرفة التي تقوم بالفطرة في نفس الإنسان، وإذا ما أسند وصف النظر إلى لفظ الأخلاق وقلنا: الأخلاق النظرية دل هذا الإسناد على ما يدل عليه النظر في إفادة ممارسة الاستدلال، فتكون الاخلاق النظرية هي بالذات الأخلاق الاستدلالية؛ أي الأخلاق التي تتبع في استنباط أحكامها طرائق الانتقال من المقدمات إلى النتائج بمقتضى قواعد محددة. وإن تعداد وجوه إضافة الاخلاق إلى الفلسفة أو العلم، كقولنا الفلسفة الاخلاقية أوعلم الاخلاق، تشير إلى الطابع الاستدلالي للأخلاق[14].

ومن ثم فإن التجربة الصوفية في الإسلام قد تميزت مقاربتها للقيم والأخلاق بترجيحها لطريق الاشتغال العملي بديلا عن الاستدلال النظري.[15] فالتصوف في تعريف أهله علم استمد أصوله من الشريعة الإسلامية[16] كسائر العلوم الإسلامية التي انبثقت حركية تأصيلها واختراع نظامها من الوحي الديني والهدي النبوي، نظرية كانت أو عملية[17]، فلم ينفك طريق تحققها الأخلاقي عن الحقيقة الدينية؛ لأن “صلة الأخلاق بالدين لا يمكن إنكارها، ومتى ثبتت هذه الصلة، لزم أن تطلب الأخلاق العمل الذي يتعدى نفعه إلى الغير وإلى الآجل كما يطلبه الدين الذي يرد العمل القاصر على الذات وعلى العاجل ردا،… وإذا كان الأمر كذلك، ظهر أن الحقيقة الخلقية موصولة بالحقيقة الدينية وصل تداخل، حتى إنه لا فائدة ترجى من أي اعتبار لأحدهما لا يكون مقرونا باعتبار الآخر[18].”

 وجد التصوف إذن، في العناية بالقيم والأخلاق موضوعا للاشتغال بالمعنى العملي وليس بالمعنى النظري، ولقد استند في ذلك كله على الرؤية القرآنية والنبوية التي تنبني على أن مهمة الدين الخاتم ووظيفته الحصرية هي تتميم وتكميل مكارم وصالح الأخلاق[19]. ولذلك فينبغي أن ينظر إلى علم التصوف في سياق الإنتاجية العلمية والمعرفية والسلوكية التي اقتضتها المنهاجية الاستمدادية من الأصلين تدبرا وعملا وتأولا. بعيدا عن دعوى ضحالة الفكر الأخلاقي الإسلامي بالمقارنة بما ظهر عند غير المسلمين من “رؤى” و”أنظار” أخلاقية، وكأن “الاستشكال الفلسفي والاستدلال المنطقي اليونانيين ملزمان لكل ممارسة للنظر الأخلاقي، وأن الممارسة الإسلامية قد قصرت عن استيفاء شرائط هذين الجانبين من الأخلاق النظرية[20].”

وإذا ما تم التحرر من ضيق المعاييرالأجنبية عن المجال التداولي الإسلامي، وتم فحص المنظور القيمي الصوفي في الإسلام، ظهر بأنه ذو طبيعة نظرية وعملية خاصة، ليست بالضرورة من جنس الأنظار والأعمال الأخلاقية المرتبطة بأنساق حضارية أخرى، فـ”علم التصوف اقترن اسمه بعلم الأخلاق، حتى أطلق عليهما اسم واحد وهو “علم السلوك”، أضف إلى ذلك ما تضمنته الفلسفة الإسلامية من معان أخلاقية استمدتها من العلوم المذكورة، لاسيما “علم التصوف” منها، حتى إننا لا نكاد نجد فيلسوفا إسلاميا اشتهر ذكره لم يخض خوضا في معان مأخوذة من هذا العلم. ولا عجب في ذلك، فإذا الفيلسوف اكتمل عقله المجرد حتى بلغ غايته، تشوق إلى مزيد التغلغل في دقائق الفكر التي تلوح له من وراء هذه الغاية، فلا يجد، لإرضاء حاجته، إلا لطائف المعاني، ورقائق الإشارات التي تورثها مراتب التجربة الروحية التي ينزل فيها الصوفي[21].”

ثانيا: الرؤية الصوفية للقيم ومفهوم التحول

1. المجاهدة الصوفية

هي عمل تحويلي يؤدي إلى تفتق قدرات اجتهادية شكلت معالم الرؤية الصوفية للعالم؛ لأن المجاهدة أو الاجتهاد الصوفي القائم على العمل يؤدي إلى نظر من طبيعة خاصة؛ أي أنه استدلال عملي هو أوثق صلة بالتخلق الفعلي منه  بالتصور الذهني.

ولا يمكن فهم العمل الصوفي إلا من خلال الرؤية الكلية الحاكمة، فالقرآن الكريم في الرؤية الصوفية “شامل لحقائق الإنسان وحقائق العالم، وعندما يتحقق الصوفي، عبر تجربته باستكناه حقيقة ذاته، فإنه في الوقت نفسه يفهم كلمات القرآن وكلمات العالم، فتغذو مظاهر الكلمات جميعا إشارات ورموزا، هي خطاب الحق إلى الإنسان الذي عليه أن يتبين معانيها ومقاصدها عن طريق اتباع أوامر الكتاب المنزل والتحلي بآدابه وذلك في سبيل القرب من المتكلم الأسمى سبحانه، وهذه هي طريق العرفان الصوفي الذي هو حضور كلي ومتجدد داخل الشبكة الإشارية لكلمات الله في قرآنه وفي أكوانه[22]“؛ فالتدبر الصوفي للقرآن لا ينفك عن التطبيق العملي للآي، مما يؤدي إلى فتح في الفهم تنكشف به معان يتجدد به العمل نفسه، وإن بقيت صوره متشابهة وعلى هيئة واحدة من حيث ظاهر سلوك الأفراد والجماعات.

لقد انصرفت همة الصوفية إلى البحث عن المعاني أو القيم أو المقاصد من خلال التطبيق العملي لآي القرآن الكريم بعد تدبرها، ولذلك كان المستوى “العباري” الذي تترجح فيه المعاني من خلال المعنى الخلقي الذي يجده الصوفي في قلبه.

إن المدخل لتحديد رؤية العالم الصوفية يمكن تلمسه عبر المقاصد والمعاني الكبرى للقيم الدينية والأخلاقية باعتبارها صيرورة عملية سلوكية أفرزت جهازا اصطلاحيا يتم من خلال التأول والتحول والتوسل بالنموذج (القيم المشخصة)، فشتان بين “المثال المجرد” و”المثال المشخص”، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، هو النموذج والقدوة باعتباره ترجمة سلوكية للقرآن الكريم، وبذلك تقوم فلسفة القيم العملية على ثلاثة مبادئ تؤطر التجربة الصوفية وهي:

مبدأ الاشتغال المباشر والاستغراق في العمل الشرعي الذي يثمر أحوالا تخلقية؛ ومقتضاه أن يخرج المتخلق من “النظر المجرد ويدخل في العمل المباشر، فلا تفيد في تخلقه التحليلات المقالية والاستماع إلى التوجيهات الوعظية، وإنما الذي يفيده هو القيام الفعلي بالالتزامات التعبدية على مقتضاها التربوي، انتظاما ومواظبة[23].”

ومبدأ التخلق بالصفات الحسنى؛ إذ لاصفات تبلغ هذا المقصود التخليقي أيقن من الصفات التي نسبها الخالق إلى نفسه، وذكرها في كتابه العزيز متوسلا في ذلك المتخلق بتخلق الرسول صلى الله عليه وسلم[24].

ومبدأ الاقتداء الحي الذي يقوم على أن العمل يتوارث متخلقا عن متخلق، كما يتوارث القول رواية عن رواية[25].         

إن الإمساك بمعالم الرؤية الصوفية في شموليتها للقرآن والإنسان والعالم، يسير بالبحث في اتجاه استكناه الإبداع المعرفي للصوفية داخل الفكر الإسلامي، والذي يتجاوز كثيرا من الدراسات التي لم تستطع بلوغ غور العمل الصوفي حيث نجد من المفكرين[26] من اعتقد تعذر إيجاد مبادئ عامة أو أصول كلية تشكل رؤية جامعة للنظر والعمل الصوفيين بدعوى أن التجربة الصوفية، في نظره، ليست إلا “مغامرة” ذاتية لا تحكمها ضوابط شرعية أو عقلية، فـ”يبدو أن ” تلمس ميتافيزقا أخلاق أو أصول اعتقاد من أحوال القوم متعذرا، ودون حاجة إلى عناء استقراء أقوالهم في الوصول إلى هذا الرأي من حيث إن التجربة الصوفية ذاتية، فهي تتعارض مع كل أصل موضوعي، ومن حيث إن الصوفي لا يثبت عند حال، بل لا يزال منتقلا من حال إلى حال تعارضها، فمن محو إلى إثبات، ومن سكر إلى صحو، ومن بقاء إلى فناء، فثمة لا سبيل إلى التماس الضرورة أو الكلية[27]“..

 فالحل المعرفي للإشكال الأخلاقي والعرفاني في الرؤية الصوفية، والقائم على صيرورة التحول الذاتي من حال إلى حال، ومن مقام إلى مقام، جعل منه مثل هذا الاستنتاج عائقا، والاشتغال ببناء الذات، باعتبار وظيفيته ومقصديته، كمنهاج معرفي مناسب للتخلق والتحقق بالمعاني والقيم، جعله في مقابل الموضوعية التي تطلب في سياقات معرفية أخرى، حيث أضحى أسير الكسب المعرفي العلموي المؤمن بالتقابل بين الذاتية والموضوعية، والجاعل من العقل المجرد الحكم الفصل في مختلف التجارب الإنسانية، إذا ما حادت عنه أصدرت بحقه فتوى المروق عن العلموية sienticte، ذلك الدين الجديد الذي أتت به الوضعية الحديثة positivisme وليس العلم الذي راجع كثيرا من هذه الأحكام و المصادرات بحيث أضحت العقلانية فضاء متعددا للعقلانيات يمكن الحديث معها عن عقلانية للتصوف[28].

 وإذا كان قد أخذ على بعضهم في حالات شطحهم عدم التزامهم بقواعد الشرع فكيف يلتمس فيما يقولون ويعبرون مبادئ أولى للأخلاق[29]، معتبرا خطاب الشطح الصوفي أصلا، والعمل السلوكي فرعا.

والظاهر أن صبحي لم يضع التجربة الصوفية في سياقها الصحيح، خطابا واصطلاحا، حيث إن مافهمه تناقضا في التعبير عن الأحوال التي يمر منها الصوفي هو في حقيقته مظهرالحيوية التخلقية والعملية؛ إذ القيم ليست معطيات جاهزة في الواقع، بل هي قيم معنوية يتم التلبس والتحقق بها من خلال التغلغل في الممارسة التحولية التي لها مقوماتها الشرعية وضوابطها المعرفية ومقتضياتها العرفانية، التي تخرج بها من مضايق التصنيف في أحد طرفي الثنائية الشهيرة، الموضوعية أو الذاتية، والتي وضع لها الصوفية مصنفات حاولت الإحاطة بالتصوف، ليس فقط باعتباره تجربة روحية بل باعتباره علما له مبادئه ومحدداته وموضوعاته ومقاصده، فمن القصور المنهجي أن يحتكم البحث عن رؤية أخلاقية جامعة لدى الصوفي إلى النص الشطحي الذي له هو الآخر سياقه الخاص في إطار التجربة الصوفية وعلاقتها بالتعبير الصريح أو الإشاري عن المعاني التي يجدها الصوفي في إطار رحلته أو سفره الروحي.

ومرد سوء فهم الممارسة الصوفية إلى عائق منهجي وقع فيه الكثير من الباحثين؛ إذ لا يتم النفاذ إلى التجربة الصوفية خطابا وممارسة، والإمساك بمفاهيمها واصطلاحاتها والاطلاع على مفاصل نسقها وطبيعته الخاصة في إطار تنوع المسالك المعرفية للنظر والعمل الإسلاميين، بل يتم إسقاط مفاهيم ورؤى تتصل بحقول معرفية أخرى يتم من خلالها محاكمة قطاع معرفي له خصوصيته.

غير أن صبحي قد توصل في نتائجه بخصوص الرؤية الأخلاقية الحاكمة التي أراد البحث عنها في التصوف إلى التمييز بين التصوف وغيره من القطاعات المعرفية الأخرى، وعبر صراحة في دراسته على خصوبة التجربة الصوفية إلا أن العدة المنهجية والمفاهيمية التي تسلح بها حجبته عن رؤية الأصول الكلية للتجربة الأخلاقية للتصوف، يقول: “هذه هي أحوال الصوفية قد تقدم لنا صورا حية من التجارب الخصبة ولكنها لا تقدم إلى الأخلاق أصولا أولى أو ميتافيزقا أخلاق، فلقد كان هؤلاء في شغل عن الفلسفة ومقتضياتها وعن العقل وأحكامه، بل لعل النظر العقلي، لو وجد، لكان حائلا أو معوقا دون خصوبة تجاربهم أو شدة مواجيدهم[30].” 

لقد اختط الصوفية لنهجهم طريق التجربة الحية برياضة النفوس وتربيتها وسياستها من أجل الظفر بمكارم الأخلاق والتحقق بالقيم والمقاصد المطلوبة، إذ تعتبرالمجاهدة الصوفية من خلال هذا المنظور العملي دعامة العمل الصوفي، وأساس الجهد التغييري لما بالأنفس من أجل بلوغ آفاق التعرف على الحق، فتكون الأحوال التي يمر منها الصوفي باعتبارها منازل غير قارة، ما يلبث أن يدخلها ليرحل عنها في شكل سفر دائم بحثا عن القرار أو المقام، الذي ليس في النهاية إلا معنى من المعاني وقيمة من القيم الأخلاقية السلوكية التي يتشوف إليها الصوفي بكليته، ويجمع همته للتخلق والتحقق بها، فإذا ما تم تدبر التوصيف الصوفي لما اصطلح عندهم بالمقامات، نجدها عبارة عن قيم عليا، تكتنز المعاني الدينية برمتها، والتي بدونها يكون “الأداء” الشرعي الظاهري مفتقرا إلى الكمال..

 ومن ثم فالتربية ورياضة النفس وتزكيتها بالمجاهدة والاجتهاد في إتيان مختلف الطاعات وسائر القربات من أجل تحصيل “الكمال” الذي يصير مدلوله العمل الشرعي على الوجه الأكمل، وهو الجمع بين الصور القائمة للعبادة وروح الإخلاص المتوجب توفره فيها لكي يصبح تحققا بالمقامات المرغوبة، معنى وأثرا.

فالمقامات التي ينزل فيها المريد وينيخ، لا يتحلى بأرديتها إلا من خلال سيرورة تحويلية للنفس عبر المجاهدة، اصطلح عليها عند القوم أو الصوفية بالترقي في الأحوال العرضية، والتي هي مجرد تعبيرات عن التحولات التخلقية التي يمر منها المريد السالك إلى التحققات الجوهرية التي عبر عنها بصيرورة التخلي والتحلي والتجلي بما تكتنزه هذه المصطلحات من معان سلوكية ومعرفية.

إن الجهد التحويلي والتغييري المنكب على بناء الذات ابتداء وآخرا من خلال العمل، لا ينفصل عن التوق الإنساني الذي اهتم بسؤالات الوجود والمعرفة والقيم، وهل سبيلها النظر والتأمل أم العمل والتخلق، أو هناك جدل بينهما؟ فالاستقراء للفكر الفلسفي الإنساني يفيد الحضور القوي للعمل تحت مسميات مختلفة، وكيف انتقل مركز الثقل من النظر إلى العمل حيث تحولت الفلسفة المعاصرة من “الماهية إلى الوجود، ومن الفكر إلى الواقع، ومن العقل إلى الفعل[31]“؛ مما يستدعي تجديد الرؤية للتصوف باعتباره علما عني بالعمل فأثمر معارف وأنظارا في غاية الإحكام في بناء رؤية خاصة للعالم والإنسان، والدقة المتناهية في الاصطلاح[32].

2. العقلانية الصوفية

لم تبق التجربة الصوفية جامدة عند حدود الإيمان التسليمي والتقليدي أو الاقتصار على التفكر في العالم المنظور متوسلة في ذلك بقياس الغائب على الشاهد، أو الاستدلال بالصنعة على الصانع، بل اجتهدت في بناء طريق يستدل بالحق على الخلق، طريقه هو البصيرة القلبية باعتبارها فاعلية سلوكية ومعرفية هي المناسبة للتشوف والتعرف على “الصفات الإلهية” من خلال التقرب بالأسماء الحسنى، وأنواع “التخلقات” المطلوبة..

 إذ لم يفصل الصوفي بين التعبد والتقرب والتخلق والتعرف، متدبرا لكتاب الله العزيز، بالعمل المستديم إلى حدود الاستغراق فيه معتبرا إياه مدخلا للحقيقة الإيمانية والأخلاقية والشهودية العملية، وليس الاستدلالية النظرية فقط، حيث إنه يرى بأن هذه الآلية المعرفية هي المناسبة لموضوع التحققات الأخلاقية القرآنية والنبوية[33]، فالحدود المعرفية والتحديدات العقلية سواء تعلقت بالمنهج أو الموضوع هي فاعليات اجتهادية ومراتب في المعرفة لا ينبغي أن يحاكم بعضها بعضا، بأن يخلع عليها أو عنها وصف العلمية أو العقلانية، فقد كانت همة الصوفي كبيرة من أجل كشف ما احتجب عنه، مخترعا بذلك منهجا يعتمد تصورا للعقل يقطع مع ما تدوول من فهوم له في حقول معرفية أخرى، بحيث يمكن الحديث عن “عقل فقهي”، و”عقل كلامي”، و”عقل فلسفي”، و”عقل صوفي”، فالعقل عقول، والعقلانية عقلانيات، مما خول للعمل الصوفي أن يتبوأ مكانته في الإسهام في توسيع مفهوم العقل منهجا وسلوكا وخطابا، في مجالات الإلهيات والسلوكيات والمعرفيات[34].  بخلاف ما ذهب إليه حسن حنفي في تفسيره لحديث” جابر ابن عبد الله الانصاري[35]، من أن العقل بمعنى “العقل العملي، العقل الإرادي الذي يطيع[36]“، بل العقل الصوفي بمعنى ما ذهب إليه طه عبد الرحمن في تنظيره للعقلانية في العلوم الإسلامية ومراتبها، حيث اعتبر الممارسة الصوفية بالاعتماد على معيار العمل الشرعي في تقويم العقلانيات، عقلا مؤيدا له مقدماته واستدلالاته ونتائجه العملية والنظرية.

ولذلك فالتصوف عمل وتجربة سلوكية حية تثمر معارف تنم عن منهجية في النظر والعمل لا تقل عقلانية عن غيرها من المسالك التعرفية والتخلقية في الفكر الإسلامي وليست “معرفة نظرية خالصة بل هي نتيجة لأعمال القلوب، وتصفية النفس. فالعمل يسبق النظر. ومن أراد أن يعرف مثل معرفتنا فليجرب مثل تجربتنا كما قال الغزالي في “المنقذ من الضلال”[37].”

 ولذلك فإن الخطاب الصوفي في حد ذاته ليس أداة لتشخيص وضعيات خارجية، وإنما هو تجربة في حد ذاته. حيث إنه داخل السلوك الصوفي تذوب الهوة التي تفصل بين التجربة المعيشة وبين الكتابة، بين السلوك وبين الإبداع[38]، فالصوفي يحاول دوما أن يخرج بالتأويل عن حدود تلك الأطر التجريدية لكي يربطه بتجربته المعيشة. لتكف الكتابة عن أن تكون تأويلا للنص القرآني، بل تصبح فعلا للغوص داخل لغة العالم التي يطلق عليها ابن عربي مفهوم الكتابة الوجودية[39].

 فالتصوف لم يرفض العقل بإطلاق، وإنما كان انتقاده موجها لمفهوم (الاستعمال) معين وتاريخي عن العقل هو المفهوم الفلسفي أولا، والكلامي ثانيا. مما يعني أن رفض الصوفي كان موجها للعقل كإمكانية إيديولوجية حاولت الكتابة الفلسفية الارتقاء بها إلى مستوى المطلق، وحاولت أخرى رفعها إلى مستوى الحقيقة الدينية الكاملة.[40] ولذلك فإن ماتستبعده التجربة الصوفية خلف نزوعها نحو “اللاعقل” هو العقل كسلطة للمعرفة والحقيقة…[41].

إن المعرفة في صلتها الوثيقة بالعمل ومدى الارتقاء فيه وبه درجات، يخرج العقل من الضيق إلى الاتساع، وتصير معه العقلانية هي الأخرى مقامات ومراتب بعضها يفضل بعضا، ارتبطت لدى الصوفية بالمنازل التي منها تتم رؤية العالم. فـ”اعلم أن ألسنة الفصحاء عن ذكر حقائق أمور المعرفة محتبسة، وقلوب العرفاء عن شرح دقائقها مختنسة. حارت عن التكشف بكيفيتها عقول العقلاء. وطارت عن استدراك كليتها بصائر العلماء. فرجعت العقول منه خاسرة، خائبة، وانقلبت البصائر إليهم خاسئة، هائبة. تعظيما وإجلالا لتلك المعاهد، وتخشعا، وتذللا لتلك المقاصد. جل جناب القدس عن درك العقول. وعز سرادق الكبرياء عن الحضور بالوصول. وكبر عنقاء الوصول عن الاصطبار بالحصول[42].”

فمثل العقل المعهود، والمتعارف عليه في مضامير معرفية أخرى هو المنتقد والمتجاوز؛ لأن موضوع المعرفة من طبيعة قدسية بحاجة إلى عدة منهجية أخرى ومن طبيعة غير مألوفة أراد الصوفي اقتحام عقباتها وركوب مخاطرها، ليس بمنطق المغامرة ولكن بهمة الطالب الساعي إلى التحقق بالكمالات الدينية، ولذلك فـ”غاية الأمر مع عظم شأنه، وعزيز برهانه. قد جعل الله للسائرين إليه منارات، ورتب للطائرين به مقامات. فبلغهم من ذلك على قدر ما طابت لهم ريح العناية، وسارت بهم على فلك الاستقامة؛ حتى وصلوا إلى معادن جواهر الهداية. فبذلوا ليحصِّلوا، وانفصلوا ليتَّصلوا. فهبت نفحات ألطاف الربوبية، فانحرفت حجب أستار البشرية عن وجه العبودية. عند سطوات نكهات أوصاف الألوهية. فكشف عن قلوبهم غطاء ظلمة الفكرة، وكوشفوا بأنوار المعرفة[43]“.

فالبذل هو المفتاح للإشكالات التي واجهها الصوفي في طريقه التعرفي، بما يحمله من معاني العمل المتجرد عن مختلف الحظوظ والتعلقات، انطلاقا من العوائق الطبيعية الكامنة في أستار الطبيعة البشرية نفسها، إلى غطاء ظلمة الفكرة التي يصعب على الإنسان التجرد من آثار كسبها، وهو ما جعل التفاوت بين المعرف على قدر علو همم أصحابها في التخلق والتعقل والتجرد من الأعراض البشرية وحجب المعارف السابقة.     

ولذلك انتبه الصوفية إلى التمييز بين معرفة الخاصة وخاصة الخاصة، معتبرين  أن الخاصة في هذا المقام أصحاب معرفة نظرية، “فهم أهل البصائر والروية، من أرباب القلوب السليمة الزكية، فإنهم ينظرون من روزنة القلوب، في ملكوت الأشياء. كما قال الله تعالى: ﴿اَولم ينظروا في ملكوت السموات والاَرض (الاَعراف: 185)، فيرون الآيات المودعة في كل شيء، فتدل الآيات على معرفة الله، ووحدانيته. كما قيل:

وفي كل شيء له آية                تدل على أنه الواحد             

وإن القلب إذا سلم عن الآفات، وأعرض عن الدنيا، وأقبل إلى المولى، وصقل بمصقل الذكر عنه، كدورات صفات البشرية. تنور بنور الذكر؛ وهو كلمة: لا إله إلا الله. وهي مركبة من نفي وإثبات. فبنفيها تنفى شواغل القلب، وظلماتها.. وبالإثبات تثبت شواهد أنوار المذكور، فينكشف الغطاء عن بصر بصيرة القلب، فيرى بها جمال آيات الحق تعالى.. كما قال الله تعالى: ﴿ما كذب الفؤاد ما رأى﴾ (النجم: 11)[44].”

فالتلازم بين العمل والمعرفة أمر بين وظاهر، يلحظ فيه المجاهدة الدائمة من خلال مصطلحات البذل والصقل، فهو اجتهاد من أجل الظفر بالمعرفة. “فمعرفة العوام بدلائل المعقول، ومعرفة الخواص بشواهد المدلول. فأين من يعرف الحق تعالى بإراءة العقل ممن يعرفه الحق بإراءة آياته في مرآة الآفاق، وقبله. كما قال الله تعالى: ﴿سنريهم ءاياتنا في الاَفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾ (فصلت: 53)[45].

ولذلك فأهل المعرفة الشهودية وهي (معرفة أخص الخواص) “هم أصحاب مشاهدات الجمال، وأرباب مكاشفات الجلال الذين استخصهم الله بهذه السعادة، واصطفاهم لهذه السيادة. بلا هم وهم في كتم العدم محبوسون من عهد القدم، وخياط القضاء بخياطة القدر. وخيط المشيئة على حانوت الأزل، بيد العناية، وقوة القدرة، وصناعة الحكمة. كان يخيط خلعة المعرفة على قدهم؛ من ثوب قد نسج من سُدى يحبهم ولحمة يحبونه. كما قال الله تعالى “فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف”. فكان وجود العالم بما فيه في الخلفية تبعا لهذه المعرفة. فلا يدرى أهي درة في صدف المحبة، أو المحبة درة صدف المعرفة.. فإن المحبة بغير المعرفة لا يمكن وصولها. وإن المعرفة بغير المحبة لا يمكن حصولها. فلما أمعنت النظر، وأتقنت الفكر كوشف لي أن المعرفة صدف درة المحبة، لأن المحبة من صفات الله تعالى، والمعرفة من صفة العبد[46].”

إن التصور العملي للقيم باعتبارها مقاصد أخلاقية يطلبها الصوفي بالتجربة والاشتغال وليس بالتأمل والنظر، يخرجها من الجمود والضيق إلى الحركية والاتساع، بحيث تصبح الأخلاق مراتب معنوية لا حصر لها في الترقي، كما تصبح شاملة لكل الأفعال دائمة الاتساع لا حد لها في الإحاطة، “فالفعل الواحد يتدرج في نفسه باعتبار تكثره الداخلي، فيصير عبارة عن طبقات متفاوتة، فضلا عن تدرجه بالإضافة إلى غيره، ولكل طبقة من هذه الطبقات خلق يميزها عن غيرها…حتى إنه لافعل إلا له في هذه المرتبة موجبات خلقية ينبغي الوفاء بها في السر أو في العلن، فقد وسعت الأخلاق كل  شيء وشملت كل شيء، حتى إنه لا يوجد مفهوم لـ”الشمولية الأخلاقية” بلغ من السعة ما بلغه في مرتبة التأييد[47][48]، فالقيم من خلال النموذج العملي للتصوف تسعف في بناء رؤية للعالم تتميز بالوسع الفعلي في مقابل الضيق القولي، ولا يخفى ما لآثار هذه الوجهات على الاختيار الحضاري للإنسان. حيث تذوب الفوارق المصطنعة بين العقل والفعل، فالعقل خلق، والخلق عقل، وعلى قدر الزيادة في الخلق يتسع العقل، فالعقل ليس في جوهره إلا فعلا وخلقا، وليس مجرد قول أو نظر.

ثالثا: كونية الاجتهاد الصوفي

إن الطبيعة العملية والأخلاقية للتصوف والتي تقوم على التحويل العمقي للكيان الإنساني بحيث تجعله يختار للمقاصد الأخلاقية العليا أنجع الوسائل وأنفعها، تزيد في اتساع رؤيته للوجود والإنسان؛ لأن طلب هذه القيم يجعله متحررا من أغلال أغراضه وحظوطه، لأنه يعانق هوية الإنسان بما هو إنسان، فكلما ازداد خلقا ازداد إنسانية، وكلما زاد إنسانية زادت رؤيته شمولا واتساعا حتى تسع الوجود كله، فلا مطلب أسمى من مطلب السعادة التي هي غاية المنى وأعز ما يطلبه الإنسان كيفما وأينما كان، وما يكدر صفوها إلا مزيد التعلق بالمصالح والمطامع التي تنميها آلة الاستهلاك المادي والتي لا تبقي ولا تذر، غير أن “الصون” و”الحفظ” القيمي المبني على العطاء الروحي لا يجعل من السعادة” سعادة ظاهرة تذهب مع ذهاب أسبابها، وهي العطاءات المادية، وإنما سعادة خفية؛ لأن سببها باق لا يذهب، وهو العطاء الروحي[49].”

 كما أن وصف الإنسانية يذهب إلى أن القيم العليا تشكل تطلع الإنسان وأفقه “حيث يكون له من الإنسانية على قدر ما يتحقق به منها، فإذا زادت هذه المعاني والقيم زاد هذا الوصف وإذا نقصت نقص… فهوية الإنسان ذات طبيعة أخلاقية… [وهي] ليست رتبة واحدة، وإنما هي رتب متعددة، فقد يكون الواحد من الجماعة إنسانا أكثر أو أقل من غيره فيها… [وهي] ليست ثابتة، وإنما متغيرة، فيجوز أن يكون الفرد الواحد في طور واحد من أطوار حياته إنسانا أكثر أو أقل منه في طور سواه[50].”

 ومن ثم كانت هذه القيم والأخلاق ذات بعد كوني لأنها “لا تخص صلاح الفرد الواحد ولا صلاح الأمة الواحدة، وإنما تبتغي صلاح البشرية قاطبة، بل تبتغي صلاح جميع المخلوقات التي في عالم الإنسان، ذلك أنها ترفع همة الإنسان إلى أن يأتي أفعاله على الوجه الذي يجعل نفعها يتعدى نفسه وأسرته ووطنه إلى العالم بأسره، بحيث تكون كل بقعة من العالم وطنا له ويكون كل إنسان فيها أخا له[51].”

فالمشترك الإنساني في التعلق بالكمالات الأخلاقية راجع إلى الصبغة الفطرية للإنسان، ولذلك فلا غرابة أن يجد الباحث “اتفاقا في بعض المفاهيم وتلاقيا في بعض الأحكام[52]“، مما يستوجب رد الاتهام السائر والذي بخس الحق الإبداعي لعلماء الأخلاق والتصوف في الإسلام، بحيث جعل طروحاتهم مجرد نسخ وانتحال لما عند غيرهم من أهل الأديان والروحانيات.  

إن اجتهاد الصوفي، انطلاقا من تدبره العملي للقرآن الكريم والتعلق بالنموذج المشخص للرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره النبي الختم والرسول رحمة للعالمين، وإيمانه بمركزية القيم والأخلاق في الخطاب الديني، جعلت أفقه إنسانيا وكونيا بالضرورة.

 وقد تجلى هذا الوسع الرؤيوي للتصوف في كونه استوعب ما تراكم عند الغير من مكتسبات، وعمل على تقريبها وفق مقتضيات تشكل هويته وخصوصيته، بالاقتراب أكثر من هوية الإنسان وكينونته الأخلاقية والعملية “فإذا كانت الكليات العقلية قد جلبت الاهتمام، ونالت حظا غير قليل من البحث والتحليل، فإن الكليات العملية، وفي مقدمتها الكليات الأخلاقية، كادت أن تبقى مجالا غفلا، إذ لم ينظر فيها إلا لماما، وكثيرا ما وقع ردها إلى الكليات العقلية.

ولا سبيل إلى قبول هذا الرد إلا أن يكون على جهة التوسع في معنى العقل، فيكون العقل دالا على كلا الجانبين: جانب العقل النظري وجانب العقل العملي[53]“، فالدعوة إلى مكارم الأخلاق والتوجه العملي للمعرفة الإسلامية، والاعتقاد في وجود كليات عملية فطرية، بوأت التصوف مكانته بين العلوم الإسلامية باعتباره علما يعنى بالأخلاق والقيم في بعديها العملي والكوني.

   فالقرآن الكريم، يمثل مركز النبوغ الفكري والثقافي الإسلامي، حيث يمكن اعتباره أصل انبثاق الاجتهادات العلمية والفكرية، التي لم يتسن لها الظهور والتجلي إلا من خلال الفاعلية التأويلية للنص المؤسس والمقدس.

وليس التصوف إلا وجها من وجوه هذه الحركية العلمية التي عرفها تاريخ الإسلام، والذي اختص بميادين التزكية والتسليك، فجعل منه أقرب إلى العمل والممارسة، منه إلى النظر والممارسة، وإذا ما أردنا ترتيب هذه العلوم الإسلامية وفق سلمية تعتبر معيار النظر والعمل في التصنيف، وإن كانت طبيعة الكسب الفكري الإسلامي تتأبى عن الفصل النهائي بين قطاعي النظر والعمل، حيث يمكن الحديث عن جذع مشترك، بين هذه العلوم، وهو الارتباط بالوحي/القرآن، لينفسح المجال للاختلاف بين المناهج والمقاربات. فأفرز ما اشتهر عند أهل التصوف بمناهج تربية النفوس ورياضتها، مما أعطاه صفته القيمية والعملية الكبرى في المجال التداولي الإسلامي.

لقد قام النشاط التأويلي للتصوف على تبيان المقاصد الخلقية للنص المؤول من خلال الدخول في التجربة الحية المحولة لمستويات تلقي القرآن لدى الصوفي، ذلك بأن “السلوك الصوفي ليس إلا تفاعلا بين التجربة والقرآن ينتج مزيدا من الفهم عن الله في كلامه كلما تعمقت التجربة”[54] وهذا ما يجعل من التصوف مسلكا يعتبر الممارسة أصلا، والمدارسة تجل من تجلياتها، فطلب العلم لا ينفك عن التحقق به أخلاقيا..

 ومن ثم فإن أنواع المدارسات التي يطفح بها تاريخ التصوف الإسلامي ليست إلا إمكانات تعبيرية عن التجربة الروحية التي يمكن القول عنها بأنها فوق طوري العبارة والإشارة، هذين الطورين في المجال الروحي يبقيان علامات تقترب من التجربة وليس التجربة عينها إذ يمكن في هذا المقام والسياق الروحي أن نعتبر الإشارة هي الوسيلة العبارية للاقتراب من عوالم الروح ولغاتها غيرالملفوظة، بل المعيشة، ووفق هذا المقتضى ينبغي التمييز بين صنفين كبيرين في المدارسة الصوفية، الصنف الأول، له تعلق بمختلف التعبيرات الشعرية والنثرية عما يجده الصوفي في رحلته السلوكية والمعرفية العرفانية، وبذلك تكون شهادات عن شهوداتهم مهما اختلفت درجات “المعبرين”، بين مرتبتي السير والسلوك، والفتح والوصول، وكثير منهم استعاض عن كل ذلك بالكتم عن البوح وآثر الصمت، فلا تكاد تقف في تراجم كبار ممن أثٌروا وأثروا في الحياة الصوفية والروحية عن قول أو رأي، وإذا ما وجد لا يخرج عن توجيه عام لا ينفذ إلى أغوار التجربة الروحية..

 فخطاب الصمت أبلغ من الإشارة نفسها مما أدى إلى انغمار التصوف في الممارسة أكثر من المدارسة وإلى التركيز على انتقال القيم من خلال آلية الاقتداء العملية وليس النظرية، ولعل هذا هو السبب في الكثرة التي نلحظها في تدوين مختلف الأوراد والأذكار والأدعية ومناقب الشيوخ، باعتبار الشيخ والذكر هما مفتاحا العالم الروحي المتمنع عن أي وصف أو تقريب، فلا تلمس إلا الآثار في مختلف الميادين العلمية والعملية وحتى الطبيعية مما لا يزال غفلا عن البحث والتقصي..

 بحيث إن المنطومة القيمية العملية لا تتجلى بالضرورة في المنظور الصوفي في ذاته بذاته، بل هو بمثابة روح تسري تدرك آثارها ليس في العرفان وحده بل في كسب الإنسان اجتماعيا واقتصاديا وسياسا وثقافيا وتربويا، ومن ثم يمكن فهم التجربة الصوفية وأدوارها “الدنيوية”، وما رافقها من أدبيات للمناقب ومدونات الأذكار باعتبارها تخليدا للقيم في وجهها العملي الذي ينفع ويقتدر على تمثله “الجمهور” وعامة الناس، وليس فقط خطاب النخبة العالمة، فثقافة الصمت والتغييب، هي عين الحضور القيمي والأخلاقي الذي ترك مدارس صوفية كبيرة لا تكاد تقف على أنظار عرفانية كبيرة في تراثها، بل تقف على بناءات اجتماعية أطرت المخيال والوجدان ورؤى العالم مازال تأثيرها متواصلا إلى اليوم، وما سوى ذلك من شهودات وفتوحات عرفانية فتطوى ولا تروى، وربما كان ذلك استراتيجية أملتها ضغوط المخالفين ممن استأثروا  بالحكم بالظاهر، وأرادو التسيد على السرائر، فعمل الصوفية على الاهتمام بالآثار الروحية الظاهرة في المجتمع، تاركة سرائر عرفانها في منآى عن سيف الحرفية المسلط على رقابها، لتجد بأن توجه الصوفية العملي  قد جعل غالبية الفقهاء تتبنى الانسلاك الصوفي طلبا للكمال وتكملة لوظيفتهم التوجيهية بالظفر بالتملك الروحي للقيم وليس فقط لظاهرها.

فمعيار الكمال والتمكن انطلاقا من معيار انغراس علم التصوف في تربة العمل، لا ترتبط بمدى قلة أو كثرة إنتاج المقالات عن الأحوال والمواجيد أو المقامات والمواجيد العرفانية، فهذه كلها عناصر تساعد الباحث عن الإمساك بمعالم الرؤية الصوفية للوجود، الإنسان، العالم، الطبيعة.

أما الصنف الثاني فله صلة بمختلف الاجتهادات التي أرادت التأصيل للتصوف بحيث يمكن اعتباره بمثابة خطاب واصف للتجربة الصوفية من خارجها!؟ بقصد تبيان معالمها وترسيم شروطها ووسائلها ومقاصدها بغاية بناء مشروعيته ضمن العلوم الإسلامية التي عرفت هي الأخرى مثل هذا العمل التأصيلي والتعريفي في مرحلة التدوين المعلومة.

الهوامش


[1]. أحمد محمود صبحي، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، دار المعارف، ط2، ص9.

[2]. توفيق الطويل، الفلسفة الخلقية: نشأتها وتطورها، القاهرة: دار النهضة، 1967، ص196.

[3]. انظر الدراسة الرائدة لمحمد عبدالله دراز، والتي سعى فيها إلى تقويم منهج مقاربة موضوع القيم والأخلاق في الإسلام حتى يكون أكثر سلامة، من أجل تصحيح الأخطاء، وملئ فجوة الإهمال في المكتبة الأوربية، وإظهار الوجه الحقيقي للأخلاق القرآنية، لأن ما وجد من مقاربات لقضايا أخلاقية في العلوم الإسلامية كالحسن والقبح والمسؤولية والأخلاق الصوفية، كانت أفكاراً متناثرة في مختلف المذاهب، وكانت تصدر عن روح المذهب الذي ينتمي إليه مؤلفوها، والقرآن لا يرد ذكره فيها إلا بصفة مكملة شاهداً أو برهاناً على فكرة أو أخرى سبق الأخذ بها. محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق في القرآن، دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن، تعريب وتحقيق وتعليق: د.عبد الصبور شاهين، مراجعة: د.السيد محمد بدوي، ط1، بيروت: مؤسسة الرسالة،  والكويت: دار البحوث العلمية، 1973م، ص4-5.

[4]. يرجع إلى نظرية الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن حول العقل ومراتبه وفق معيار العمل الشرعي، فهناك العقل المجرد والعقل المسدد الذي يعلوه درجة، والعقل المؤيد الذي يفوقهما لأنه اختار لأنفع المقاصد أنجع الوسائل. انظر العمل الديني وتجديد العقل، ط2، 1997، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، المغرب. ص184.

[5]. طه عبد الرحمن، “تعددية القيم: ما مداها؟ وما حدودها؟”، ص11-12.

[6]. قدم طه عبد الرحمن نظرية متكاملة حول الأخلاق بين فيها عمليات انتقال مفاهيمها من الأصل اليوناني إلى الممارسة التراثية ووجوه تقريبها، تجديد المنهج في تقويم التراث، الفصل الرابع حول التقريب التداولي لعلم الأخلاق اليوناني، المركز الثقافي العربي، ط2، ص381.

[7]. تهذيب الأخلاق، مسكويه، ص29.

[8]. المرجع نفسه، ص25.

[9]. بدر الدين بن محمد بهادر الزركشي، البحر المحيط ج1، ط1، دار الكتبيي، (1414ﻫ/1994م)، ص61.

[10]. المرجع نفسه، ص62.

[11]. المرجع نفسه، ص63.

[12]. الفيروزا بادى، فصل العين باب اللام، ط1، ص22.

[13]. المفردات، مادة: عمل، ص351.

[14]. طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط2، ص382.

[15]. المرجع نفسه.

[16]. أبو القاسم القشيري، الرسالة القشيرية، تحقيق عبدالحليم محمود، محمود بن الشريف، القاهرة: دار المعارف، ص19. وانظر: أبو نصر السراج الطوسي، اللمع، تحقيق، عبد الحليم محمود، طه عبد الباقي سرور، دار الكتب الحديثة بمصر، ومكتبة المثنى ببغداد، 1966، ص21.

[17]. مناهج الاستمداد في العلوم الإسلامية، ط1، 2008، الرباط: دار أبي رقراق للطباعة والنشر، وهو كتاب تضمن أعمال الندوة العلمية الدولية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء أيام 27-28 صفر 1429ﻫ الموافق 5-6 مارس 2008م.

[18]. طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط2، ص383.

[19]. استنادا إلى الروايتين الصحيحتين “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، و”إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق”، أخرجهما البخاري في كتاب الأدب.

[20]. طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط2، ص386.

[21]. المرجع نفسه.

[22]. محمد المصطفى عزام، المصطلح الصوفي بين التجربة التأويل، ط1، يناير 2000، ص13.

[23]. تجديد المنهج في تقويم التراث، م، س، ص84.

[24]. المرجع نفسه، ص85.

[25]. المرجع نفسه، ص85.

[26]. أحمد محمود صبحي في كتابه، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، م، س.

[27]. المرجع نفسه، ص208.

[28]. يراجع بهذا الصدد العمل الكبير الذي قام به الفيلسوف طه عبد الرحمن في تأصيل هذه المسألة في كتابيه العمل الديني وتجديد العقل، وسؤال الأخلاق، كما يراجع عبد الحق منصف في كتابه الكتابة والتجربة الصوفية.

[29]. الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، م، س.

[30]. أحمد محمود صبحي، الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي، م، س، ص210.

[31]. أبو يعرب المرزوقي، حسن حنفي: النظر والعمل والمأزق الحضاري العربي والإسلامي الراهن، حوارات القرن الجديد، ص172.

[32]. انظر: العلاقة بين التجربة الصوفية والمصطلح في، المصطلح الصوفي بين التجربة التأويل، م، س، ص13.

[33]. انظر جواب عائشة، رضي الله عنها، عندما سئلت عن خلق الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقالت” كان خلقه القرآن”، (746) حدثنا محمد بن المثنى العنزي حدثنا محمد بن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن زرارة أن سعد بن هشام بن عامر أراد أن يغزو في سبيل الله فقدم المدينة فأراد أن يبيع عقارا له بها فيجعله في السلاح والكراع ويجاهد الروم حتى يموت، فلما قدم المدينة لقي أناسا من أهل المدينة فنهوه عن ذلك وأخبروه أن رهطا ستة أرادوا ذلك في حياة نبي الله، صلى الله عليه وسلم، فنهاهم نبي الله، صلى الله عليه وسلم، وقال أليس لكم في أسوة؟ فلما حدثوه بذلك راجع امرأته وقد كان طلقها وأشهد على رجعتها فأتى ابن عباس فسأله عن وتر رسول الله، صلى الله عليه و سلم؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: من؟ قال: عائشة فأتها فاسألها ثم ائتني فأخبرني بردها عليك، فانطلقت إليها فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها، فقال: ما أنا بقاربها لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا فأبت فيهما إلا مضيا قال فأقسمت عليه فجاء فانطلقنا إلى عائشة فاستأذنا عليها فأذنت لنا فدخلنا عليها فقالت أحكيم؟ (فعرفته) فقال: نعم، فقالت: من معك؟ قال: سعد بن هشام، قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر فترحمت عليه وقالت خيرا (قال قتادة وكان أصيب يوم أحد) فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله، صلى الله عليه وسلم، كان القرآن، قال: فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت ثم بدا لي فقلت: أنبئيني عن قيام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت: ألست تقرأ يا أيها المزمل؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه حولا وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة قال قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم ينهض ولا يسلم. ثم يقوم فيصلي التاسعة. ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه. ثم يسلم تسليما يسمعنا. ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد. فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني فلما سن نبي الله، صلى الله عليه وسلم، وأخذه اللحم أوتر بسبع وصنع في الركعتين مثل صنعيه الأول فتلك تسع يا بني وكان نبي الله، صلى الله عليه وسلم، إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ولا أعلم نبي الله، صلى الله عليه وسلم، قرأ القرآن كله في ليلة ولا صلى ليلة إلى الصبح ولا صام شهرا كاملا غير رمضان قال فانطلقت إلى ابن عباس فحدثته بحديثها فقال: صدقت لو كنت أقربها أو أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني. به قال قلت لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدثتك حديثها صحيح مسل (1/512).

[34]. عبد الحق منصف، الكتابة والتجربة الصوفية (نموذج محي الدين بن عربي)، منشورات عكاظ، ط1، 1988، ص6.

[35]. حديث لما خلق الله القلم، قال له اكتب، قال وما أكتب؟ قال اكتب لا إله إلا الله محمد رسول الله.. قال: سألت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن أول شيء خلق الله. قال: “هو نور نبيك يا جابر؛ خلقه الله ثم خلق منه كل خير وخلق بعده كل شيء، وحين خلقه أقامه قدامه من مقام القرب اثنتي عشرة ألف سنة، ثم جعله أربعة أقسام: فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم. وأقام القسم الرابع في مقام الحب اثنتي عشرة ألف سنة، ثم جعله أربعة أقسام: فخلق القلم من قسم، واللوح من قسم، والجنة من قسم. وأقام القسم الرابع في مقام الخوف اثنتي عشرة ألف سنة. ثم جعله أربعة أجزاء: فخلق الملائكة من جزء، والشمس من جزء، والقمر والكواكب من جزء. وأقام الجزء الرابع في مقام الرجاء اثنتي عشر ألف سنة، ثم جعله أربعة أجزاء: فخلق العقل من جزء، وخلق العلم والحكمة من جزء، والعصمة والتوفيق من جزء. وأقام الجزء الرابع في مقام الحياء اثنتي عشرة ألف سنة، ثم نظر الله، عز وجل، إليه، فترشح النور عرقاً، فقطر منه مائة ألف وعشرين ألفا وأربعة آلاف قطرة من النور، فخلق الله من كل قطرة روح نبي أو رسول ثم تنفست أرواح الأنبياء، عليهم السلام، فخلق الله تعالى من أنفاسهم نور الأولياء والسعداء والشهداء والمطيعين من المومنين إلى يوم القيامة، فالعرش والكرسي من نوري، والكربيون من نوري، والروحانيون من الملائكة من نوري، وملائكة السموات السبع من نوري، والجنة وما فيها من النعيم من نوري، والشمس والقمر والكواكب من نوري، والعقل والعلم والتوفيق من نوري، وأرواح الرسل والأنبياء من نوري، والشهداء والسعداء من نتاج نوري. ثم خلق الله اثني عشر ألف حجاب فأقام الله نوري، وهو الجزء الرابع في كل حجاب ألف سنة، وهي مقامات العبودية والسكينة والصبر والصدق واليقين، فغمس الله ذلك النور في كل حجاب ألف سنة، فلما أخرج الله النور من الحجب ركبه الله في الأرض، فكان يضيء منها ما بين المشرق والمغرب كالسراج في الليل المظلم. ثم خلق الله آدم من الأرض وركَّب فيه النور في جبينه، ثم انتقل منه إلى شيث، وكان ينتقل من طاهر إلى طيب، ومن طيب إلى طاهر. إلى أن أوصله الله صلب عبد الله بن عبد المطلب، ومنه إلى رحم أمي آمنة بنت وهب، ثم أخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين، وخاتم النبيين، ورحمة للعالمين، وقائد الغر المحجلين. هكذا كان بدء خلق نبيك يا جابر”. وقد تكلم فيه غير واحد من علماء الحديث والتصوف، وحكموا عليه بالوضع وقد اعتبره غير واحد من القدماء والمحدثين تأصيلا حديثيا لنظرية الصوفية حول العقل، غير إن المتدبر للخطاب والسلوك الصوفي في شموليته يجد أن أصل نظرهم حول العقل لا ينفصل عن العمل والمستمد من رؤيتهم وتأولهم للقرآن والعالم والإنسان.

[36]. النظر والعمل والمأزق الحضاري العربي والإسلامي الراهن، م، س، ص 172-176.

[37]. المصدر نفسه، ص172- 180.

[38]. عبد الحق منصف، الكتابة والتجربة الصوفية (نموذج محي الدين بن عربي)، ط1، 1988، منشورات عكاظ، ص6.

[39]. المرجع نفسه.

[40]. المرجع نفسه، ص8.

[41]. المرجع نفسه، ص9.

[42]. أبو بكر الرازي، عبد الله بن محمد بن شاهور الأسدي الرازي، منازل السائرين ومقامات الطائرين، تحقيق وتقديم سعيد عبد الفتاح، دار سعاد الصباح، ط1، 1993، ص46.

[43]. المرجع نفسه، ص46.

[44]. نفسه، ص55.

[45]. المرجع نفسه، ص56.

[46]. المرجع نفسه، ص57.

[47]. وهي أعلى مرتبة في التخليق تفي بشروط العمل في الإسلام وفق المراتب التي حددها لأطوار التخلق والتعقل، فالتخليق المجرد هو ما اقتصر على مجرد النظر، والتخلق المسدد من دخل في العمل الشرعي  دون استيفاء كامل شرائطه التي إذا ما استوفاها حظي برتبة التأييد وهي الاستغراق في العمل الشرعي على أكمل الوحوه، مقاصد ووسائل، انظر العمل الديني وتجديد العقل، وتجديد المنهج في تقويم التراث، وسؤال الأخلاق.

[48]. طه عبد الرحمن، سؤال الاخلاق، مساهمة في النقد الاخلاقي للحداثة الغربية، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، المغرب، ط1، 2000، ص82.

[49]. المرجع نفسه، ص 87.

[50]. المرجع نفسه، ص147.

[51]. المرجع نفسه، ص 158.

[52]. طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط2، ص388.

[53]. المرجع نفسه، ص388.

[54]. محمد المصطفى عزام، الخطاب الصوفي بين التأول التأويل، م، س، ص15-16.

Science

د. عبد الصمد غازي

رئيس مركز الرصد والدراسات الاستشرافية بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق