وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

الفلسفة البيئية وأخلاق الأرض

تندرج هذه الدراسة ضمن مشروع فكري متعلق بالأبعاد الوجودية للإنسان فوق الأرض من زاوية العلاقة مع الطبيعة بحثا عن فلسفة بيئية و”أخلاق للأرض”. ويأتي هذا العمل كاستمرارية فلسفية لدراسة سابقة[1] تطرقت فيها إلى نقد أطروحة مؤثرة في حقلي البيولوجيا والأنثروبولوجيا؛ مفادها أن الإنسان كائن طبيعي صرف وينبغي أن يستوعب ويؤطر ضمن رؤية طبيعية محض.

في حوار مع الفيلسوف بول ريكور Paul Ricoeur مع مجلةEcologie politique[2]  طرح مفهوما عميقا “للاستثناء الإنساني” في خلاف مفصلي مع أطروحة جون ماري شيفر[3]؛ مفاده أن الإنسان جزء من الطبيعة لا محالة، وينبغي وضعه داخل النسق البيئي الكوني الذي تشكل في إطاره، إلا أن الإنسان يعتبر الشق الوحيد في المنظومة الكونية المتميز بالمعرفة والمسئولية. لذلك يدعو بول ريكور إلى الموازنة بين الإحساس بالانتماء إلى الطبيعة و بين الإحساس بالاستثناء داخلها.

ودراستنا هذه، استمرارية لنفس الخط المنهجي والرؤية الفلسفية، ونروم من خلالها طرق أبواب موضوع حيوي ملازم للوجود البشري وهو علاقة الإنسان بالبيئة وجوديا وأخلاقيا، وكذا بسط نظرتنا لما يصطلح عليه اليوم بالفلسفة البيئية و”أخلاق الأرض”.

إن الفكر الإيكولوجي المعاصر مؤثث بعديد النظريات المتفرقة والمتعارضة أحيانا، المتكاملة أحيان أخرى. وعلى الرغم من الاختلافات، فإن أغلب النظريات البيئية المعاصرة تدافع عن تفسير “ثقافي” و”أخلاقي” للأسباب الكامنة وراء التدهور الشامل للمحيط البيئي[4].

في حوار مع البروفسور كاترين لارير Catherine Larrère[5] تعرف علم البيئة بأنه علم حديث؛ إذ ظهر مصطلح إيكولوجيا خلال القرن19 وتطور خلال القرن العشرين. وعلم البيئة يتيح قدرا كبيرا من المعارف الضرورية لسياسة مهتمة بالمجال الحيوي وما يتعلق به من تنمية مستدامة وحماية للطبيعة وحفظ التنوع البيولوجي. بصفة عامة يتيح لنا علم البيئة إدراك العلائق المعقدة التي تسود الطبيعة ضمن تصور نسقي أو شمولي holiste بما يعني مجموعة أجزاء متداخلة فيما بينها تجمع بين الحيوي biotique والجامد abiotique لتشكل دوائر تأثير تؤدي إلى نشوء خصائص جديدة..

لا يتعلق الأمر هنا بتأكيد التزامات أخلاقية لعلم البيئة بقدر ما تسعى كاترين لارير إلى البحث عن أرضية مشتركة بين النماذج المعرفية البيئية والمواقف الأخلاقية المتعلقة بالطبيعة لاسيما أننا إزاء علوم بيئة متعددة وليس علما واحدا.. إلى حدود السبعينات من القرن العشرين، سيطرت مدرسة في علم البيئة خصوصا مع Tansley[6] والأخوين Odum في كتابيهما[7] مبنية على نماذج الديناميكية الحرارية thermodynamique، وكانت تعتبر إيكولوجيا لإعادة التوازن مادام قد نظر إلى الإنسان كمخلخل للتوازن المبثوث أصلا في الطبيعة؛ والهدف الذي اقترح العلماء على حركات حماية الطبيعة تحقيقه هو استعادة “البيئة الأصل” Climax التي هي بمثابة التوازن المفروض أن يستقر عليه نسق بيئي ما.

حينما نحصر الطبيعة في مجرد منجم للاستغلال، فإننا نغتصب المفهوم الأول: أي الانتماء للنسق الطبيعي. من ناحية أخرى ومن منظور “الإيديولوجيا الطبيعانية” Idéologie naturaliste  (وشيفير صاحب كتاب “نهاية الاستثناء الإنساني” أحد ممثليها البارزين) يتم تناسي أن الإنسان هو الذي يطرح الأسئلة على الكون…

ثمة علاقة على المستوى الإبستيمولوجي بين مصطلحي “علم البيئة”Ecologie  و”علم الاقتصاد” Economie وهما مشتقان من “oikos” ومعناها “بيت”، مما يتيح طرح سؤال إشكالي قد يضيء بعض جوانب العلاقة بينهما، وهو هل لهذا الأصل اللغوي المشترك علاقة بارتباط مفهوميهما بالتنمية المستدامة؟ تسلط كاترين لارير –في حوارها مع مجلةéthique et économique – الضوء على هذا الإشكال العميق وتوضح أن مصطلحي  Ecologie وEconomie تفصل بين ظهورهما خمسة وعشرون قرنا. إن مصطلح اقتصاد يعني في بيئة Xénophon  وAristote اليونانية “قانون المنزل”: أي حسن تدبير الشؤون العائلية ولم يكتسي المصطلح مفهومه الحالي إلا خلال القرنين 17 و18 حينما أدار ظهره لمفهومه القديم. وعندما نحثHaeckel  خلال القرن 19 مفهوم الإيكولوجيا بمعنى علم المجالات الطبيعية science des habitats لم يكن على الأرجح يستحضر الجذر المشترك بين “إيكولوجيا” و”إيكونوميا”؛ لأن هذا الأخير عرف تغييرات كبرى بين أرسطو وادم سميث خصوصا فيما يتعلق بربط المفهوم بفكرة “النظام العام” خصوصا “نظام العناية” ordre providentiel.

في هذا الاتجاه ينبغي أن نفهم طرح عالم الطبيعة الشهيرLinné  لمفهوم اقتصاد الطبيعة économie de la nature وهو يعني به النظام والهارمونيا التي تربط أجزاء الحياة الطبيعية في كل طبيعي شامل، وهي الفكرة الأصل لنشوء مفهوم الإيكولوجيا. يمكن أن نرى في مثل أعمال Georgescu-Roegen  في كتابه “la décroissance” وRené Passet في كتابه “l’économique et le vivant” حول الأشكال النسقية للإيكولوجيا تشابها مع علم الاقتصاد على اعتبار أن دور “المعادل العام”équivalent général تلعبه الطاقة مما يتيح موقعة “الاقتصادي” ضمن “الحي” والحد انطلاقا من هذا التصور من جموح التطور الاقتصادي، ويمكن أن يعتبر هذا العمل شكلا من أشكال فهم التنمية المستدامة؛ من جهة أخرى يمكن محاولة ترجمة القيم الإيكولوجية إلى قيم اقتصادية، لكن التخوف هنا يكمن فيما إذا انخرطت المعادلة البيئية في حسابات اقتصادية تؤدي في النهاية إلى انقراض الموارد البيئية. وعموما فمفهوم “التنمية المستدامة” في العالم المعاصر لا يظهر منها حقيقة إلا التنمية وهذه الأخيرة لا يبدو منها على الحقيقة إلا النمو، غير أن الاقتصاديين قد أحاطوا اهتماماتهم “بطلاء بيئي”؛ لأنهم مستمرون بشكل جوهري في الاشتغال بنفس الميكانيزمات التقليدية من أجل خدمة هدف واحد هو الاستمرار في النمو غير المحدود.. من هنا أهمية التناول الفلسفي لقضايا البيئة  ومحاولة فهم السياق المفاهيمي المرتبط بأوضاع الكائنات الحية في الطبيعة وعلاقة الإنسان بها، ودراسة شبكة العلائق التي تشكل الأنساق البيئية وتطوراتها الكمية والكيفية ومآلاتها وتحولاتها، وهذا ما نروم الإسهام به في هذه الدراسة عبر استدعاء أطروحات “الفلسفة البيئية” المختلفة واختبار مدى صرامتها ومعقوليتها وقابليتها للتمثل والتنزيل..

يستدعي ريكور في حواره[8] ملحمة Sophocle الشهيرةAntigone  التي مفادها وصف الإنسان الذي يبني المدن ويجوب البحار بـ”الخطير” terrible مذكرا بقدم الإحساس الفكري والفلسفي والأدبي بالأسئلة المتعلقة بالإنسان في الغلاف الكوني. كما يذكرنا بول ريكور بما قام به هايدغر في هذا السياق وهو الذي نظر لفكرة أن الإفراط في “الاستثناء الإنساني” كما لو كان الإنسان متميزا كلية عن الطبيعة -في لغة هايدغر- ينتج عنه ظهور الإنسان على مسرح الكون كمركز لـ”كرنفال” من تنظيمه هو، وتدبيره لورش من الأشياء الجامدة Chantier inerte de choses à manipuler.

ولا يخفى ما لهذا البعد في التفكير من “أداتية شاملة ” instrumentalisation totale  بتعبير يورغن هابرماس، وتجد هذه الفكرة تقعيدها في نقد العقل الغربي من طرف مدرسة فرانكفورت التي انتقدت -خصوصا  مع هوركهايمر وادورنو- التعامل مع العقل كأداة  كما يدعو هابرماس إلى تبني “الأخلاقية التواصلية” عوض الأخلاقية الأداتية[9]. إن قضية التوازن بين الانتماء إلى الطبيعة والاستثناء فيها تم التطرق إليها فلسفيا قبل هايدغر من طرف كل من Max Schler[10] وMaxWeber[11] عندما قابلا بين مفهوم العقلانية العميق مع أصل العقلانية الأداتية أو العقل الأداتي، لكن هايدغر انشغل بـ”معرفة أين يُفرض الفصل المثالي بين الذاتية والطبيعة وأين وكيف يتم تجاوزه.

 “العالم” شبكة من علاقات الاعتماد المتبادل على مستويات متنوعة، مثل التجهيزات والسياسة والحسّ الأخلاقي… هكذا يُمفهم “عالم” العلاقات بمصطلحات بشرية تحدّ من قدرتنا على إدراك عالميَّة الطبيعة. أو بكلمات هايدغر نفسه، “كل ذلك الذي سوف نكون قادرين على قوله أو التفكير فيه أو تجربته من الظواهر الطبيعية المفترضة يموضع بشكل ضروري ضمن العالم”. وبطريقة ما، وعلى الرغم من فكرته عن البشر الكائنين في العالم التي تنهي الانفصال بين الذات والموضوع الذي يعتقد أن ديكارت قد  جلبه، فإن هايدغر يستبقي نوعًا من الفصل المثالي بين الطبيعة والبشرية. “العالم” فضاء مفاهيمي مختلف عن “الأرض[12]“.

“يعلن الكثير من المفكِّرين البيئيين الجذريين أننا على مفترق حاسم في فهمنا التاريخي للطبيعة. فلكي نجتاز عصر أزمتنا البيئية الحالية، ينبغي أن نهجر التصورات المفتقِرة عن الطبيعة التي أورثنا إياها التراث الغربي، وننتقل إلى صياغة أغنى، وأكثر إرواءً من الوجهة الروحية، للعالَم الطبيعي ولمكانتنا فيه. ولا ريب أن هايدِغر كان سيوافق على هذا المشروع العام. فهو يقول، من جهة، بأن الاجتياح الحديث للطبيعة هو نتيجة لسيطرة الفهم “التكنولوجي” الحديث للعالَم الذي، بدوره، يرى فيه ذروة “التراث الميتافيزيقي” الغربي. وهو، من جهة أخرى، يقدِّم في كتاباته اللاحقة عن “الإقامة” dwelling وصفًا لفهم حكيم “غير تكنولوجي” للعالَم[13].

فلنورِد تفسيرا مختصرا لهايدِغر إزاء التكنولوجيا أورده سايمون جيمس[14]؛ إذ يقول: “نجد في العالَم الحديث أن الأشياء, بمقدار ما تكشف عن ذاتها كأشياء بالمطلق، تكشف عن ذاتها “تكنولوجيًّا”: أي تكشف عن ذاتها باعتبارها موارد للأغراض البشرية، أو بتعبير هايدِغر، كـ”رصيد دائم” standing-reserve. هكذا، بتكشُّفها تكنولوجيًّا، تصير الهندباء البرية عشبًا ضارًّا، والغابات المعمِّرة أخشابًا للبناء والنجارة، والوادي البرِّي الحراجي محطةً للسياحة، وامتداد المروج موقعًا ملائمًا لطريق التفافي حول المدينة،وهلم جرا. ويتفجَّع هايدِغر على كون الأشياء، في قلب هذا المذهب الأداتي الكاسح، تكشف عن ذاتها، على نحو متزايد، ليس كأشياء جديرة بالانتباه في حدِّ ذاتها، بل فقط، وإلى حدٍّ بعيد، كمزوِّد بالوسائل من أجل هدف ما”..

لقد قام هانس جوناس Hans Jonas[15]، فيلسوف الفكر البيئي الألماني وتلميذ هايدغر بزعزعة القيم الديمقراطية باقتراحه “حلولا سلطوية” تحد من الحريات الفردية حينما تشكل هذه الأخيرة خطرا على استمرار البشرية، إنه فيلسوف مزعج لكنه شديد الواقعية..

ومعلوم أن بول ريكور من الفلاسفة الذين رأوا في الفلسفة البيئية ل”هانس جوناس” مكسبا قيميا كبيرا، وحاول من خلال المقالات العديدة التي خص بها هذا الفيلسوف الألماني المثير للجدل  إبراز مقاصدها الفلسفية والعملية وتداعياتها على مستوى إدراك الأبعاد الكونية والإنسانية آنيا ومستقبليا. لذلك نجد ريكور[16] يقول بأن “الإحساس العميق بالانتماء إلى المنظومة الكونية لا يتعارض مع التفكير في إعلان حقوق البشرية في المستقبل”، وهذا هو رهان هانس جوناس الذي يعتقد أن “مستقبل البشرية ليس مضمونا بطبيعته، ولا ينبغي أن يكون فقط مرغوبا فيه، بل مفضلا ومقيما بمعنى: “عش بالطريقة التي تتيح بها أن تستمر البشرية بعدك”، ولكي تستمر البشرية بعدنا يضيف بول ريكور -معلقا على جوناس- لابد أن تستمر الطبيعة بعدنا، وبهذا المعنى فإن الحفاظ على الطبيعة يتأطر فلسفيا ضمن مشروع إنساني. ومقتضى  ذلك حسب بول ريكور هو ضرورة القيام بنقد العقل الأداتي انطلاقا من الأخلاق التواصلية éthique de la communication  المنبثقة فلسفيا عن “أخلاقية الانتماء” بحيث ينبغي الحرص على أوج هذا التوازن الهش بطبيعته بين الكون داخل الطبيعة وفي الوقت نفسه استثناء لها”.

كتب بول ريكور مقالا حول هانس جوناس في مجلة Le messager européen[17] انطلق فيها من أطروحة جوناس حول الفلسفة البيولوجية باعتبارها المفتاح الرئيس لفكره. لقد أبرز ريكور في هذه المقالة أن جوناس لما كتب سيرته الذاتية أبرز كيف أن تعاقب مراحل حياته الثلاث كان مترابطا وذا معنى بحيث بدأ حياته العلمية بتحضير أطروحة حول “الغنوصية” Gnose la بحيث رأى فيها رفض العالم وتحقير الجسد واندحارا إلى ما يسميه نيتشه “العوالم الخلفية” arrières monde. في مرحلة حياته الثانية طرح جوناس سؤالا إشكاليا عن معنى تجدر الإنسان في الكون. ويرى ريكور أن هذه المرحلة الفكرية من حياة جوناس هي مرحلة “فلسفات الحياة” التي كان ينظر إليها قدحيا باعتبارها فلسفات رومانسية!! كان من أبرز منتقدي “فلسفات الحياة” هوسرل وهايدغر على الخصوص انطلاقا من غلبة “الشاعرية والرومانسية” عليها، لكن جوناس انفرد في “فلسفته للحياة” باعتبارها فلسفة “بيولوجيا الحياة” وهو ما لا علاقة له بـ”فلسفة الحياة الرومانسية”؛ لقد كان جوناس يعتقد أنه من أجل بناء “فلسفة للحياة” لابد من الانطلاق مما يشتغل عليه البيولوجيون وليس من مجرد الشعور القوي والحميمي بالحياة..

يتعلق الأمر هنا بفلسفة شعورية مرتكزة على المعرفة البيولوجية وليست مستقلة عنها، وهنا يرى ريكور نقطة قوة فكر جوناس. أما جوناس المرحلة الثالثة: فهو جوناس المسئولية في وقت أضحت فيه “مقاولات السيطرة على الطبيعة” تنحو منحى التدمير الذاتي وإفناء الطبيعة.. ليس بديهيا أن تستمر البشرية في البقاء، نستطيع ذلك فقط بإرادة عازمة. من هنا تصبح المسئولية موضوعا لـ”الأخلاقية” éthique. يتضح إذن من خلال تتبع مسيرة جوناس الفكرية أن مشروع البقاء فوق الأرض هو مشروع أخلاقي؛ لأنه يستتبع تلقائيا تقييما للحياة في ذاتها.

ومن منظور ابستيمولوجي تفكيكي، ينطلق ريكو[18] في تحليل أعمال جوناس من القرن19 بدأ بأعمال شارل داروين حول الأنواع البيولوجية وتطورها، ويطرح فكرة تعدد الأفراد داخل النوع البيولوجي الواحد والرغبة الفطرية عند كل فرد من أجل البقاء وصولا إلى أن مقاومة الأنواع البيولوجية للموت ورغبتها في الاستمرار في الحياة تشكل محور “الفلسفة البيئية” لهانس جوناس على اعتبار أن الحياة مركبة بنيويا في الأنواع البيولوجية كجهاز مقاوم للموت. إن الحياة تحتوي في ماهيتها على فكرة “أخلاقية جنينية” prémorale  بحيث يتم تقييم الحياة في ذاتها بأنها خيرة..

وباستعادة الإشكالية المركزية عند ليبنيز Leibniz  “لماذا توجد أشياء عوض العدم؟ أو بعبارة أوضح وأكثر دلالة: “لماذا توجد أشياء ذات أهمية عوض العدم؟”. يستنتج بول ريكور أنه من الجيد طرح هذه الأسئلة الوجودية خصوصا عندما نتحدث على المستوى الإنساني. حينها لا تختصر الحياة في مجرد جهاز جيني مركوز في كل فرد، وإنما أيضا الرغبة في العيش والرغبة في البقاء في الكون. أما الحيوان فيلعب جهازه الحدسي الفطري دورا أساسيا في مقاومته للفناء، بينما الإنسان يحتاج إلى الثقافة لملء فراغ حدسي ملازم.. وهنا نستحضر إيمانويل كانط الذي قال بعمق أن الإنسان هو “الحيوان” الأقل امتلاكا لأدوات البقاء، لكن مشروعه الثقافي ملأ هذا الفراغ بحيث لا يمكن اعتبار الحياة مبثوثة كبرنامج في الكائن البشري، وإنما تتحول إلى مشروع حياة[19]. إن المرور من “البرنامج الجيني” إلى “المشروع التاريخي” هو الذي يحيل إليه جوناس في مرحلة حياته الثالثة: أي جوناس المسئولية.

لقد اقترح إيمانويل كانط في نهاية القرن 18 أمره الشهير impératif catégorique “تصرف بالطريقة التي تريد أن يصبح نموذجك الفكري maxime قانونا كونيا”. إن العقل يفرض أن تكون الاقتراحات الممكنة قابلة “للعولمة” ولا يمكن لعمل ما -حسب كانط- أن يكون فاعلا إلا إذا ارتقى إلى مستوى العالمية.

يعتب هانس جوناس[20] أن “الأمر الكانطي” بالطريقة التي طرح بها منذ قرنين أصبح متجاوزا؛ لأنه مقتصر على دائرة عمل محدودة في الزمان والمكان، ولا ينتظر منه إلا  تداعياته على المدى القريب متجاهلا تجليات الفعل البشري على الأنساق الطبيعية، لذلك يحتاج المفهوم الكانطي إلى إعادة صياغة وإعادة تحيين. إذا انطلقنا من أن الهدف الرئيسي للإنسانية هو الاستمرار، فإن فعلا ما لا يمكن أن يكون عقلانيا إلا إذا أخد بعين الاعتبار تداعياته على المدى البعيد، وخصوصا فيما يتعلق بتأثيرات الفعل الإنساني على المجال الطبيعي. ما قام به جوناس هو تمديد “الأمر الكانطي” إلى المدى البعيد، مما أعطاه معنى جديدا مفاده: “تصرف دائما بالشكل الذي يجعل نتائج أعمالك منسجمة مع استمرارية حياة إنسانية حقيقية فوق الأرض”؛ أو بصيغة سالبة: “تصرف دائما بالشكل الذي لا يجعل نتائج أعمالك مدمرة لهذه الحياة الإنسانية في المستقبل”.

يقول جوناس: “إننا نحتقر المجتمعات غير المنظمة في “العالم الثالث”؛ لأنها لا تحترم “حقوق الإنسان”، لكننا نقترف دون أن تكون لدينا الشجاعة للاعتراف بذلك وفي كثير من الأحيان دون وعي، جرما كبيرا على المستوى الكوني. إن العقلانية التي نعتقد أنها قلادتنا تتلاشى -بمقاييس كانط-؛ لأن نمط عيشنا ليس ذا بعد عالمي وليس قابل أن يتبنى على المستوى العالمي؛ إن نمط عيشنا اللاعقلاني مصيره أن يدمر نفسه بنفسه؛ وإذا لم نوقف سباقنا نحو الانهيار، فإن الأجيال المقبلة ستكرهنا لارتكابنا الخطأ الأكبر الجسيم وهو تدمير الغلاف الحيوي biosphère[21].

إن “الأخلاقية التقليدية” حسب جوناس تشمل التفاعلات بين بني البشر لكنها تغفل علائق الإنسان مع الكائنات الحيوانية والعالم الطبيعي. وهي أيضا تقتصر على الاهتمام بالتفاعلات بين الناس المعاصرين لبعضهم البعض فوق الأرض على امتداد أجيال قليلة. بهذا المعنى -يقول جوناس- لا يكون للإنسان مسئولية إلا تجاه أمثاله داخل الرقعة الزمنية/المكانية الصغيرة التي تدور في مسرحها الحياة البشرية، يضاف إلى هذا شعور قديم عند الإنسان مفاده أن الطبيعة البشرية ثابتة ولا تتأثر بفعل الزمن؛ كما لا تخضع للتأثير التحويلي الذي تمارسه التقنية.. لقد استمرت هذه المعتقدات إلى حدود القرن العشرين و ساهم في استمرارها تجدرها أنثروبولوجيا عبر طقوس تقديس الطبيعة  عند الأسلاف وإحساسهم العميق بالرهبة تجاه ظواهرها[22].

نعرف اليوم بدقة علمية شديدة أن “الغلاف الحيوي” Biosphère يشكل قشرة دقيقة شديدة الهشاشة، تشكل استثناء ملغزا وهشا  داخل فضاء شديد البرودة وغير مضياف؛ لقد اكتشف مؤخرا أن التقانة الحديثة تؤثر على مستوى كوكبي يمكنه على المدى البعيد أن يدمر الغلاف الحيوي Biosphère  برمته، من هذا المنطلق، ليس من الجائز أن يفكر الإنسان في نفسه كجزيرة معزولة وسط أشياء جامدة وغير مكترثة كما فعل لحد الآن ومنذ العصور الحديثة؛ إنه مرتبط وجوديا بكل النسق الطبيعي الذي يدعم وجوده. ومع الأسف لازال إلى اليوم يتعامل مع النسق الطبيعي بعقلية استغلالية مثيرة للعجب كما لو أن الطبيعة خزان لا ينضب وغير قابل للتدمير. لقد فهم الإنسان أخيرا أنه يعيد إنتاج نفسه عبر أفعاله في الطبيعة، كما أن التكنولوجيا تفعل فيه فعلها بعمق على المستوى الجسدي والنفسي والثقافي؛ وكل ما نقوم به اليوم سيؤثر على إنسان المستقبل الذي سيكون كما أردنا له أن يكون. إذا نحن أسأنا “صياغته” -بمعنى صياغة الظروف المستقبلية التي ستحتضن وجوده- نكون بذلك قد لوحنا به في طريق ذات اتجاه واحد، و سيكون من المستحيل عليه تفكيك وجوده وإعادة تركيبه وفق رغباته هو مهما اتسع إدراكه وارتقت همته وإرادته. إذا لوث الإنسان المعاصر البحار وأباد الكائنات الحية سيكون قد تسبب إلى الأبد في اضطراب “سلسلة عمل” ابتدأ مع بداية الكون، ويكون قد فعل ذلك لأسباب تافهة حضنتها الرأسمالية المعاصرة[23].

إن سلسلة الحياة تمر اليوم عبرنا، وباللا معنى الذي يسود حياتنا وعبر أنانيتنا نقوم بشل حركتها؛ بهذا المعنى نصبح مسئولين عن الأجيال القادمة. يخلص الفيلسوف جوناس إلى القول أنه خلال التاريخ البشري وتاريخ الحياة فوق الأرض لم تكن البشرية محملة بهذه الرسالة مثلما نحن اليوم. مع جوناس يصل الفكر الفلسفي إلى عتبة قصوى يغير معه مفهوم المسئولية أبعاده.

في حوار مع مجلة “Ethique et Economique” تستنتج الفيلسوف الفرنسية كاترين لارير[24] إلى أنها تميل إلى “أخلاقيات المسئولية” مع اختلاف مع أطروحة هانس جوناس وهو أن هذا الأخير يعتقد أن قوتنا هي مقياس مسئوليتنا، بينما ترى كاترين لارير أن حدود قوتنا إن لم نقل عدم قدرتنا هي المحدد الفعلي لمسؤوليتنا. إن السؤال المركزي هو معرفة تجاه من نحن مسئولون؟ لكن عكس ما استخلص عادة من أفكار جوناس، فإن هذا الأخير لا يقصر مسئولية الإنسان تجاه الأجيال المقبلة فحسب، بل يعتبر الإنسان مسئولا تجاه الطبيعة والكون؛ من هنا فكرة العلاقة غير المتوازيةdissymétrique  بين البشر والأرض.

 بالنسبة لجوناس، فإن موقعنا تجاه الأرض قد تغير على ما كان عليه لحد الآن، نحن الآن أقوى منها أولا تستطيع تحمل قوتنا.. أو ليست هذه هنا بوادر رؤية ميثافيزيقية تقول بالإنسان المطلق؟  هذا ما تؤكده لارير[25] التي تضيف بأن جوناس يبوئ الطبيعة الشاملة بالمفهوم الكوني مآلا يكون فيه الإنسان الحلقة الأعلى، وهو يبني تصوره على معطيات “ميثافيزيقية” إن لم نقل على أسس دينية خارجة على المعارف العلمية!! وهي لا تشاطر جوناس المنطلقات نفسها..

وعلى الرغم من الجدل الواسع الذي أثير حول أطروحة جوناس، فإنه يستحق الاحترام بحق؛ لأنه امتلك الوضوح والجرأة ليطرح منذ أكثر من ثلاثين سنة خلت هذه الأسئلة المزعجة.. وهو يدافع عن إنسانية واضحة المعالم انطلاقا من أن الإنسان يقوم بحماية الطبيعة لصالح نفسه؛ ولأن تدمير الغلاف الجويBiosphère  معناه تدمير الإنسان..  

في سياق مرتبط بعلاقة الإنسان بالطبيعة يقيم فيليب زاريفيان تمييزا بين الأخلاق morale و”الإطيقا” éthique[26] معتمدا بالأساس على ما طرحه الفيلسوف Paul Ricœur  في كتابه: Le juste (éditions Esprit, 1985) . ويخلص زاريفيان إلى أن “الإطيقا” éthique أرقى واسبق من احترام “الأخلاق” morale، ذلك أن “الأخلاق” ذات طابع “مصطنع”؛ لأنها بناء اجتماعي في سياق مجتمع محدد، وهي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد وبين هذا الأخير والخارج. بيد أن الطبيعة –حسب زاريفيان- لا تحتل أي مكان في تعريف “الأخلاق” morale. إن الأخلاق تنظم السلوك البشري داخل المجتمع وتبلغ مداها حينما يتم استبطانها داخليا من طرف الأفراد، وهي خطوة في اتجاه “الإطيقا”éthique  باعتبارها التزام فردي عميق يتجاوز مجرد الالتزام بما تعاقد عليه المجتمع. في هذا المستوى يندرج” الأمر الكانطي” الذي يبقى مع ذلك أقرب إلى مجال “الأخلاق” أكثر منه إلى مجال” الإطيقا”. ويخلص فيليب زاريفيان إلى أن فلسفة الأخلاق تروم في نهاية المطاف تحقيق النظام والأمن بينما ا لإطيقا هي مجموع “مبادئ الحياة”، وبخلاف “الأخلاق” morale، فإن “الإطيقا” éthique تحمل بداخلها تصورا لعلاقة الإنسان بالطبيعة ابتداءً من العلاقة بالجسد الذي هو جزء من الطبيعة. ويفترض في “الإطيقا” حسب فيليب زاريفيان أن تتمثل الحياة والعيش كمفهوم “فيزيائي” لا كمفهوم اجتماعي..

وعلى الرغم من فردانية المنطلق الإطيقي، فإن للإطيقا قدرات كونية عكس الأخلاق الاجتماعية morale التي ليست كذلك على الرغم من وجود اعتقاد خاطئ بكونية مبادئها. وخلاصة القول أن الإطيقا تتبنى بالأساس بشكل فردي وليس اجتماعي، وإذا كانت طريق الإطيقا فردية، فإن المحتوى الإطيقي ليس كذلك.. والإنسان بالمفهوم الإطيقي يتفاعل مع “ديناميكية الأنساق البيئية” التي ينتج عنها “تغيرات كيفية” يعتبر الإنسان جزءا منها.  وهنا يتقاطع زاريفيان مع مفهوم كاترين لارير للديناميكية البيئية ونقدها لمفهوم “ثبات الأنساق البيئية[27]“.. إن الإطيقا حسب زاريفيان هي دائما سيرورة وتحولات كيفية وتعبيرات وجودية وليست” حالة للاستلهام”.. إن للإطيقا طابع الشمول والكونية؛ لأنها تتجه إلى الإنسان في المقام الأول وليس إلى المجتمع. وعلى الرغم من البعد الإنساني للإطيقا، فلا يمكن أن تمارس في المطلق، بل يتعلق الأمر بنمو وتطور إطيقي ولا يمكن بأي حال الحديث عن مآل نهائي….

من جهة أخرى، فإن المجتمع يمكن أن يلعب دور “الوسيط” الداعم أو المعرقل لمقاصدها لكنه لا يحدد منطقها الداخلي. ولأن الإطيقا تقع بين القيم valeurs والمعتقدات convictions، فهي ليست “مجالا للاحترام”، بل مجالا للجهد والبحث.. وفي اتقاد لاذع لأطروحة ماكس فيبير التي بسطها في كتابه الشهير “البروتستانتية والأخلاق الرأسمالية” يخلص فيليب زاريفيان إلى أن فيبير وهو يحاول التمايز عن الأطروحة الماركسية أهمل “المعطيات الفيزيائية” الدالة على علاقة الإنسان بالطبيعة والمحيط البيئي وتداعياتها على “ظروف الإنتاج” فنتج عن ذلك إفقار رهيب لمفهوم الأخلاق بمعناها الإطيقي… إن زاريفيان يطرح مفهوما شاملا للطبيعة من منظور كوني كوسمولوجي ويعتبر المسئولية تجاه الكون تخص مستقبل الإنسان بالدرجة الأولى مادامت ظروف التأقلم محدودة على كل حال رغم “القدرات الخلاقة للإنسان”، وكل تأثير سلبي على “الأرض” سيضر بالدرجة الأولى الوجود الإنساني، أما “المنظومة الكونية”، فتستمر في مسارها الكيفي بعد “تأقلمها” مع التغيرات “الطفيفة بالمعنى الكوني” التي تسبب فيها الإنسان.. ويطرح فيليب زاريفيان سؤالا حول موقع فلسفة جوناس الأخلاقية بين “الأخلاق” و”الإطيقا” فاتحا الباب لسجال فكري لم يحسم بعد[28].

ولفهم التطور الفلسفي الذي حصل في مجال “العلوم البيئية” وجب الإطلاع ولو بتركيز شديد على أهم تيارات الفلسفة البيئية خصوصا في العالم الأنجلوساكسوني الذي يعتبر رائدا في هذا الميدان عكس المدرسة الفرنسية التي لم تول اهتماما للموضوع إلا في السنوات الأخيرة تحت تأثير “السبق الأنجلوساكسوني”، أما المجتمعات العربية فمفاهيمها حول البيئة لازالت في معظم جوانبها تتسم بالسطحية والاختزال، أما الحديث فيها عن “فلسفة بيئية” فهذه مسألة لازالت في اعتقادي بعيدة المنال.. وقصدنا من هذا العمل أيضا الإسهام في تقريب القراء العرب من هذا الحقل الفلسفي المرتبط بعلاقة الإنسان بمحيطه البيئي بما يشكل بداية الطريق في أفق الانخراط الفلسفي حول قضايا البيئة والأنساق الطبيعية، وهو ما يشكل مطلبا حضاريا كبيرا..

 لقد بدا وكأن تطورا نوعيا على وشك الحدوث في الدراسات البيئية فرضته المواقف المتمركزة بشريا anthropocentriste التي أدت إلى إقصاء المسألة البيئية من حقل التفكير الفلسفي، وهذا ما يرصده كاليكوت بعمق في محاولته وضع “الفلسفة البيئية في سياقها التاريخي؛ إذ يقول: “في العام 1973 ومع نشر ثلاث مقالات رائدة، أعلنت الأخلاق البيئية عن ظهورها الأول على مسرح الفلسفة المحترفة المحافظة والرصينة. ففي ربيع ذلك العام نشر الفيلسوف الأسترالي الشاب بيتر سينغر مقالة “تحرير الحيوان” في مجلة The New York Review of Books، وفي صيف ذلك العام ظهرت مقالة “الضحل والعميق، حركة الإيكولوجيا بعيدة المدى: خلاصة للفيلسوف النرويجي المميز ومتسلق الجبال آرني نايس في المجلة الفلسفية الدولية Inquiry. وفي الخريف، خاطب فيلسوف أسترالي شاب آخر هو ريتشارد سيلفان، زملائه في المؤتمر العالمي الخامس عشر للفلسفة في فارنا في بلغاريا متسائلا: هل ثمة حاجة إلى أخلاق جديدة،أخلاق بيئية؟ في العام 1973، عندما وجه سيلفان دعوته في مؤتمر الفلسفة العالمي، لم تكن التقاليد الفكرية الغربية تتوفر على أخلاق بيئية وافية وغير متمركزة بشريا anthropocentriste، مع أن أخلاقا من هذا القبيل قد تنبأ بها ألدو ليوبولد، أحد الحفاظيين conservationists الأمريكيين الكبار في أواسط القرن العشرين. ولذلك فقد استحث سيلفان الفلاسفة المعاصرين كي يلبسوا معطف ليوبولد ويجعلوا شغلهم الشاغل تقديم مثل هذه الأخلاق[29]..

يضيف كاليكوت: “وعلى مدى السنوات العديدة التالية، ظهر المزيد من المقالات في هذا الحقل الجديد المثير من البحث في مجلات اختصاصية من قبيل Ethics وJournal of Philosophy. ثم  في العام 1979، أسس يوجين.س. هارغروف مجلة فصلية جديدة هي الأخلاق البيئية.. وفي أواسط العقد التالي كان قد  ظهر عدد من الدراسات بحجم كتاب. وبذلك انبثق إلى الوجود حقل جديد كليا في الفلسفة[30].”

انطلاقا من دراسة قامت بها كاترين لارير[31] لمعظم تيارات الأخلاق البيئية عبر الدراسات العلمية المنشورة بالإنجليزية خصوصا في المجلات الأمريكية خلصت الباحثة إلى أنها أطروحات ذات خلفية علمية صلبة ومحترمة ويمكن تصنيفها إلى أطروحات ثلاث، تسمى الأولى التمركز حول  الحياة البيولوجية (البيومركزية) Biocentrique وهي تبوُّؤ جميع الكائنات الحية قيمة داخلية في ذاتها بمعزل عن علاقتها بالعالم الخارجي. الأطروحة الثانية تسمى التمركز حول البيئة (الإيكومركزية) écocentrique  وهي المتأثرة بعمق بأفكار عالم الغابات الأمريكي آلدوليوبولد Aldo Léopold أواسط القرن العشرين وهو صاحب فلسفة “أخلاق الأرض”. ويعتبر كتاب ليوبولد Almanach d’un Comté des sables مرجعا لكل خبراء البيئة على اختلاف مدارسهم، وفكرته المفتاح Maxime هو إنه من الواجب العمل بتفان من أجل تحقيق “الاستقرار والكمال والجمال في الوسط الحي”. وأخيرا تيار ثالث يعرف بالأنثروبومركزية” anthropocentrisme بمستوييه “الضيق” و”المتسع”، وهو تيار يعيب على التيارين السابقين أنهما لم يأخذا بعين الاعتبار أن المصالح والانتظارات الإنسانية لم تكن كلها تنطلق من أداتية ضيقة ومصلحية؛ فهذه المدرسة ترى أن حماية الطبيعة يمكن أن تشكل هاجسا للإنسان لأسباب إنسانية؛ لأن الإنسان يحب الجمال؛ ولأنه يريد حفظ التراث العلمي؛ ولأن الطبيعة تقدم له خدمات، لكن دون أن يكون الإنسان ملزما على تبويئ شيء آخر غير الإنسان قيمة أخلاقية، وعليه يمكن أن نستمر في التفكير في الطبيعة كمصدر للثروات مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه المصادر متعددة تعدد الحاجات الإنسانية التي تلبيها..

 إن أبرز ما أثار الاهتمام في مجال الفلسفة البيئية الوليدة هو مفهوم الإيكولوجيا العميقة Deep Ecology، فماذا يقصد بهذا المفهوم؟ الإيكولوجيا العميقة حركة بيئية أطلقها في العام 1973 الفيلسوف النرويجي “آرني نايس” عندما نَحَتَ مصطلح “الإيكولوجيا العميقة” وساعد على إعطائه أساسًا نظريًّا. وتصف نفسها بـ”العمق”؛ لأنها تطرح أسئلة أعمق عن مكانة الحياة الإنسانية. تقوم الإيكولوجيا العميقة على مبدأين أساسيين اثنين: أحدهما: هو تبصُّر علمي في ترابط منظومات الحياة كافة على الأرض، إلى جانب فكرة أن المركزية البشرية  anthropocentrismeطريقة غير موفَّقة في رؤية الأشياء. ويقول الإيكولوجيون العميقون بأن موقفًا إيكومركزيًّا écocentrique هو موقفٌ أكثر انسجامًا مع حقيقة طبيعة الحياة على الأرض. إنهم، بدلاً من اعتبار البشر كشيء فريد تمامًا في الكون، يرون البشر كخيوط لا تتجزأ من نسيج الحياة. والمكوِّن الثاني للإيكولوجيا العميقة هو ما يسميه “آرني نايس حاجة الإنسان إلى التحقُّق الذاتي. فبدلاً من التماهي مع أنانيَّاتنا، ينبغي علينا أن نتعلَّم التماهي مع الشجر والحيوان والنبات، ومع النطاق الإيكولوجي ككل. وهذا ينطوي على تغيير جذريٍّ فعلاً في الوعي، لكنْ من شأنه أن يجعل سلوكنا أكثر انسجامًا مع ما يخبرنا العلم بأنه ضروري من أجل حُسْن حال الحياة على الأرض: أي أننا ينبغي أن نمتنع عن فعل أشياء معينة تضرُّ بالأرض.

تعرف الإيكولوجيا العميقةDeep Ecology  كأخلاقية” راديكالية”، وهو اتجاه فلسفي وضع أسسه الفيلسوف النرويجي آرن نايس  Arne Naess في بداية السبعينات، وتعتبر الإيكولوجيا العميقة الفلسفة البيئية الأكثر شهرة والأكثر إثارة للنقاش خصوصا في البلدان الأنجلوساكسونية.  وتقترح العمل على تغيير نمط التفكير الغربي المعاصر من أجل تجاوز المعضلة البيئية.  ويرى الباحثان فرانسوا بلي ومارسيل فيليون[32] أن مصادر الإيكولوجيا العميقة متعددة منها أساسا النظريات الفلسفية والميثافيزيقية، ويلاحظان أن  منظري الإيكولوجيا العميقة يشددون على ضرورة الإسراع بإعادة” صياغة الوحدة” بين الإنسان والمحيط الحيوي عبر “إنضاج مجموع الوعي الإنساني” ويدعون إلى ضرورة رفض الذهنية الغربية  الفردانية والمتمركزة حول الذات égocentrique التي أساءت للعقل الإنساني على مدى قرون.  يضيف الباحثان فرانسوا بلي ومارسيل فيليون أن هدف الإيكولوجيا العميقة ينطلق من إرادة عازمة لتعميق الوعي الإنساني من أجل إحياء الإحساس بالانتماء العميق لمجموع الكائنات الحية. ويرغب منظرو الإيكولوجيا العميقة، وعلى رأسهم  آرن نايس  Arne Naess، في نحث “أخلاقية جديدة” قابلة للتبني من طرف الكل، بغض النظر عن الانتماءات الدينية والإيديولوجية، وصولا إلى إدراك أن مصير الفرد في العالم يمر بالضرورة عبر قبوله الارتباط  بالطبيعة في كليتها.

 إن” الاتحاد “مع الطبيعة حسب الإيكولوجيا العميقة مؤداه التخلي عن أي رغبة في الهيمنة على الكائنات الحية التي تقتسم مع الإنسان العيش في الطبيعة. ويؤكد الباحثان فرانسوا بلي ومارسيل فيليون[33] أن الإيكولوجيا العميقة  ترتكز على مفهومين رئيسين: “تحقيق الذات”  Réalisation de Soi و”المساواتية البيومركزية” Egalitarisme biocentrique. يحيل مفهوم “تحقيق الذات” إلى الوعي بالهوية الإنسانية في بعدها الكوني الشامل بما يعني تجاوز مفهوم “الأنا” L’ego الضيق، ومؤدى هذا الوعي الكوني أن الذات الإنسانية لا يمكن فصلها عن” شبكة العلائق” التي تغذيها وتشكلها وتبوؤها “المعنى” الثاوي في هويتها الحقة.

 أما مفهوم “المساواتية البيومركزية” فيعني أن كل أجزاء “الغلاف الحيوي”Biosphère  لها القيمة نفسها بحيث لا ينظر إليها كوحدات حيوية معزولة وفردية، بل كمساهمة في التنوع والنظام الذي يسود في الكون. إن هذان المفهومان المفتاحان في الإيكولوجيا العميقة يحضران كل تبرير لأي شكل من أشكال الصراع بين “العناصر الحية في الطبيعة”.

وتتعرض الإيكولوجيا العميقة لسيل من النقد اللاذع يتهمها بالاستناد إلى الشمولية الميثافيزيقية holisme من شأنها أن تصب في اتجاه فضيع سياسيا. إن فكرة اعتبار الغلاف الحيوي Biosphère كوحدة شاملة محتوية على قيمة جوانية intrinsèque تتجاوز قوة عناصره المكونة منعزلة بما فيها الإنسان، تثير معارضة شديدة من طرف من يرون فيها بوادر العودة إلى “رومانسية” شمولية ولا عقلانية. ويصرح Marti Kheel بأن الفلسفة التي تُعلي من مصلحة الإنسان مقارنة بـ”مصلحة” الطبيعة الشاملة ينبغي أن تعتبر “توتاليتارية”. أما  Tom Reganفيؤكد أن “الهواجس” الشمولية holistes المحتواة في الإيكولوجيا العميقة تؤدي في النهاية إلى تصور فاشستي للطبيعة[34].

 في دراسة نقدية نشرت سنة 1992، يلخص الفيلسوف الفرنسي  Luc Ferryالانتقادات التي تعرضت لها الإيكولوجيا العميقة وخصوص مقاصدها الشمولية holistes. يقول Luc Ferry  في كتابه “النظام البيئي الجديد” Le nouvel ordre écologique[35]: “إن الطموح المثالي للإيكولوجيا العميقة هو تحقيق عالم تكون فيه للعصور الغابرة والآفاق البعيدة تأثير على الحاضر. ليس من قبيل الصدفة، إذن، إذا بقيت هذه الفلسفة حائرة بين الأبعاد الرومانسية لثورة المحافظين والأبعاد “التقدمية” للثورة ضد الرأسمالية. في الحالتين، نحن إزاء هاجس قوي للقضاء على النزعة الإنسانية التي تتأكد بصفة “قلقة” أحيانا إلى درجة تدفع إلى القول أن الإيكولوجيا العميقة تغرس بعض جذورها في النازية وتطلق أغصانها إلى حدود الدوائر الأكثر راديكالية لليسار الثقافي!!”. وهذا “العنف اللفظي” في نظري يدل على الاختلافات الجذرية إزاء الإيكولوجيا العميقة..

يستنتج الباحثان فرانسوا بلي ومارسيل فيليون[36] أنه على الرغم من الهجوم العنيف الذي تعرضت له الإيكولوجيا العميقة فيما يتعلق بتداعياتها السياسية المتوقعة، فإنها تحظى بتقدير كبير مرتبط بأبعادها الميتافيزيقية، بل والدينية أيضا، لكنها تبقى عاجزة عن بلورة مفاهيم” إيطيقية” مقبولة من طرف الجميع. إن الدفاع المتفاني عن مفهومي “تحقيق الذات” Réalisation de Soi و”المساواتية البيومركزية” Egalitarisme biocentrique يؤدي إلى تغليب البعد الحدسي والعاطفي على البعد العقلاني. إن التشديد على البعد الحدسي على حساب  البعد العقلاني مسألة بادية بوضوح في كتابات كبار رواد الإيكولوجيا العميقة حسب رأي الباحثين..

وعلى الرغم من مقاصدها الأصلية، فإن الإيكولوجيا العميقة تعاني من نفس “نقائص” “الإيكولوجيا الدينية” écothéologie والمتمثلة أساسا في عدم قدرتها على بناء مفاهيمها على تصورات تحظى بقبول معظم التيارات الفكرية، ذلك أنها تعتمد مفاهيم دينية وميثافيزيقية وحدسية ذات جوهر شمولي Holistique لم تكن أبدا محل اتفاق بين البشر على مدى التاريخ. يترتب على هذا عمليا حسب الباحثين فرانسوا بلي ومارسيل فيليون[37] أن الإشكال الكبير بالنسبة للإيكولوجيا العميقة يتمثل في عدم إمكانية استخلاص “قواعد تطبيقية” منها يستجيب لها الناس على اختلاف اتجاهاتهم وليس فقط القلة من الأتباع المقتنعين أصلا بفلسفتها.

بالإضافة إلى  التداعيات السلطوية الممكنة التي أطنب خصوم الإيكولوجيا العميقة في طرحها، فإنها بالإضافة إلى ذلك تبقى رهينة لاقتراحاتها حول “وحدة الطبيعة والإنسان”، وتحقيق الذات réalisation de soi، و”المساواة البيومركزية” égalité biocentrique، وهي مفاهيم من العسير انعقاد الإجماع حولها في المجتمعات الغربية المعاصرة.

ثمة توجه ايكولوجي آخر، ينطلق هو الآخر من أبعاد شمولية holistiques لكنه يحاول تجاوز مأزق الإيكولوجيا العميقة المتمثل في صعوبة “الإجماع” حول مقاصدها. يتعلق الأمر بفلسفة “التمركز حول البيئة” Ecocentrisme  الذي يستند إلى دمج  العلم  بالأخلاقية éthique.

يروم أصحاب هذا الاتجاه الفلسفي بلورة “إطار أخلاقي” مستند إلى منطلقات علمية وعقلانية وتستخلص هذه المدرسة أهم أسسها النظرية من أعمال عالم البيئة والغابات الأمريكيAldo Leopold  التي تعود إلى النصف الأول من القرن العشرين. وتتميز فلسفة “التمركز حول البيئة” بمحاولة استخلاص مفاهيم أخلاقية éthiques انطلاقا من النتائج التي توصل إليها علم البيئة خلال القرن العشرين.

إن “أخلاق الأرض”، كما عرفها ليوبولد، ترفض الأطروحات “الفردانية” و”المختزلة” التي تطبع توجها كالفلسفة “المتمركزة حول الحياة” biocentrique التي تبوئ الكائنات الحية مقاصد أخلاقية جوانية intrinsèques باعتبارها كائنات معزولة. تبعا لذلك يعتقد “المتمركزون حول البيئة” écocentriques أن الإدراك السليم  لمعطيات الطبيعة يستلزم توسيع زاوية النظر بحيث لا يتم الاقتصار على “رؤية” “مكونات الطبيعة” معزولة عن بعضها، بل ينبغي التركيز على “مفهوم التبادل” و”العلاقات البينية” و”تداخل الارتباطات” بين جميع عناصر النسق البيئي التي تشكل الغلاف الحيوي biosphère  برمته. وكما يقول Leopold في كتابه الشهير “[38]Almanach d’un comté des sables” إن أخلاق الأرض ببساطة هي توسيع “دائرة الكائن البيئي” ليشمل التراب والماء والنبات والحيوان: أي باختصار الأرض.  وتوصل ليوبولد إلى “مسلمته” التي أصبحت “شعار” الفكر الإيكولوجي المعاصر والتي تقول: “أن الشيء السليم هو الذي ينحو منحى الحفاظ على الوحدة والاستقرار و”الجمال” الذي يسود المجتمع الحي. وسيكون عين الخطأ إن نحى منحى مغايرا”.

في السنوات الأخيرة، عرفت آراء آلدوليوبولد تداولا كبيرا من طرف الإيكولوجيين، وتم تدقيق مفاهيمها خصوصا من طرف J.Baird Calllicott. في إطار محاولة هذا الأخير تفسير آراء أستاذه ليوبولد يقول: “لقد كان الفكر الإيكولوجي تاريخيا، ذو منحى شمولي holistique. لكن علم البيئة هو في حقيقته دراسة نسقية لعلاقات الكائنات ببعضها وبالمجال المحيط بكل أبعاده. وهذه الرؤية البيئية تعني أن الكائنات الحية من نبات وحيوان وبشر نبعت مع التراب والماء من “منبع طبيعي واحد”. وان تصور البداية الأنطولوجية لأشياء الطبيعة والتقليل أنطلوجيا من شأن  “العلائق في الطبيعة” الذي يميز الفكر الغربي اليوم  يتم  “تجاوزه” من طرف الفكر الإيكولوجي. إن العلائق البيئية تحدد طبيعة الأنواع البيولوجية في تفاعلاتها مع الكائنات الأخرى في إطار “الدورة الإيكولوجية” وأن الأنواع الكائنة في الطبيعة اكتسبت “خصائصها” بسبب تأقلمها مع “النسق البيئي[39].”

سيرا على نفس الاتجاه، سيقوم فيلسوف البيئة الشهير Holmes Rolston[40]، وهو واع بالحساسيات التي أثارتها عند كثيرين مفاهيم أخلاق الأرض، بالدفاع عن المنطلقات الصلبة لهذه الفلسفة البيئية. يقول Holmes Rolston: “يعتقد منظر والأخلاق “الإنسيون” humanistes أن “الأنساق البيئية” تكتسب قيمتها من إسهامها في التجربة الإنسانية، بينما هذا الأمر في حقيقته يشكل “المرحلة الأخيرة” لتاريخ طويل، و”ثمرة” لنبتة نضجت بعد طول أمد. وإذا كان من حق الإنسان “استعمال” الأرض فليس من حقه “تدمير” النظام الذي يسود الأنساق البيئية الذي هو مراد لذاته. إن الأخلاق البيئية تؤمن بأن “الأنساق البيئية” تساهم في التجربة الإنسانية وفي التجارب الحيوانية وتتيح حياة النبات، لكنها تضيف إلى ذلك وبشكل “راديكالي” أن الحفاظ على التوازن والوحدة والجمال الذي يسود “المجتمعات” البيولوجية  ينبغي أن يكون هدفا وجوديا..

وعلى الرغم من الجهود النظرية التي بدلها أنصار “التمركز حول البيئة” لكن فلسفتهم تعرضت لانتقادين رئيسين: أولهما: أن فكرة “المجتمع الحي” communauté biotique الذي يطالب أنصار “أخلاق الأرض” بحمايتها “ككتلة شاملة” في إطار “علائقها الداخلية”، تبقى فكرة “مبهمة” وتجعل إشكالية  التقابل بين الشمولية holisme  و”الفردانية”  individualisme تطفو على السطح. ولا يخفى ما لهذا “الصراع” من تداعيات “أخلاقية” وسياسية كمشكل خضوع الأفراد “لأوامر جماعية” واحتمال الوقوع في التوتاليتارية، وهي نفس “التهم” التي طرحت بشأن “الإيكولوجيا العميقة” Deep Ecology. أما الانتقاد الثاني: فيتجه إلى طرح إشكالية فلسفية قديمة مفادها أن “التمركز حول البيئة” écocentrisme يعيد إلى الواجهة “النقاش القديم” حول “الطبيعانية” في الأخلاق naturalisme en éthique، الذي اعتقد أنه قد أقبر نهائيا. والإشكالية هي في معرفة ما إذا كان بإمكان مفاهيم الإيكولوجيا العلمية المعاصرة كمفهوم “وحدة وتوازن الأنساق البيئية” أن تشكل “موجها” للأخلاقية الإنسانية على الرغم من أن مفاهيم “قوانين وغايات الطبيعة” التي تشكل “سلفها الفلسفي” قد فشلت في ذلك؟

يرى بلي وفيليون[41] إن الخلط بين هذه “الأنظمة الابستيمولوجية” أدى “بالمتمركزين حول البيئة “، كما هو الشأن بالنسبة لفلسفات بيئية أخرى، إلى “مداعبة” ما يمكن تسميته بـ”الصوفية الطبيعانية” sophisme naturaliste  التي تشجبها “الإيطيقا” المعاصرة. وينطلق هذا “التصوف” من أن الطبيعة منظور إليها “كنسق غائي” يمكن أن تزودنا بقواعد أخلاقية. لكن كيف يمكن أن ننساق مع مفهوم آلدوليوبولد الذي يقول أن “الشيء الجميل هو الذي يسير على خطى الطبيعة؟”.

 ويستنتج  بلي وفيليون[42] أن الظواهر الطبيعية حينما “تترك وشأنها” تفرز مشهدا يجسد التغيير المستمر ونوع من “الفوضى الخلاقة” بحيث أن “التوازنات” الثابتة التي نعتقد بوجودها في الطبيعة تصبح رهينة الملابسات إذا استحضرت على المدى البعيد.. إن دعوة الناس إلى الحفاظ على التوازن وسلامة وتنوع الأنساق البيئية كواجب أخلاقي  أسمى في المسيرة البشرية، تنطلق من رهان غير مقنع  بشكل كامل، ذلك أننا لا يمكن أن نستخلص من الطبيعة مباشرة معرفة أخلاقية بالمفهوم التام لكلمة “أخلاق”.

إن” التصوف الطبيعاني” قد أصبح يشكل هاجسا بالنسبة للإيكولوجيين، وهوما يبرز من خلال دراسة نموذج آخر من أطروحات الفلسفة البيئية، يتعلق الأمر بالأخلاقية “البيومركزية” أو المتمركزة حول الحياة البيولوجية” Biocentriste. وتسعى هذه الفلسفة إلى أن “تحرر” الإيكولوجيا العميقة” و”التمركز حول البيئة” على حد سواء من الأبعاد الشمولية  holistique ومن “الصلابة الطبيعانية”.

يسعى الاتجاه “البيومركزي” إلى توسيع “دائرة تطبيق” الروابط الأخلاقية لتشمل الكائنات الحية الأخرى بدل الاقتصار على العلاقة الأحادية بين بني البشر. إن التيار الإيكولوجي “البيومركزي” يركز على “خاصية” الحياة البيولوجية من أجل إبراز “أبعادها” الأخلاقية؛ في هذه الحالة تعتبر كل الخلائق التي تعيش في “الغلاف الحيوي” Biosphère منظورا إليها كأفراد يحمل كل منها “مشروعا للحياة”متصفة بـ”وضع” أخلاقي. مفاد هذا أننا إزاء مفهوم مرتكز على “فلسفة احترام الحياة” كمصدر للأخلاقية البيئية، و.يعتقد أصحاب هذه المقاربة أنها تتيح تجنب “التصوف الطبيعاني” وذلك بالاقتصار على “تقييم” مشروع الحياة المحمول من طرف عناصر “الغلاف الحيوي”..

لقد تبلورت مفاهيم الإيكولوجيا البيومركزية” خصوصا عبر أعمال الفيلسوف Paul Taylor الذي يصرح بأنه لا يوجد أي مبرر حاسم  يؤدي بنا إلى رفض القيمة “الداخلية” –المستقلة بطبيعتها عن أي حكم قيمة بشري- والمتساوية لجميع عناصر الحياة البيولوجية في ذاتها عبر تنوع تمظهراتها داخل الطبيعة..  يعتبر بول تايلور أن “الامتلاك الذاتي للقيمة” ليس بأي حال من الأحوال رهينا بعوامل مرتبطة بالعقل أو العاطفة، لكنه متحقق من إمكان حمل الكائن الحي  لمشروع خاص مركوز فيه ويمكن تحققه وتبلوره بشكل “مستقل” بدون تدخل خارجي. إن الظواهر الحيوية تستجيب حقيقة لهذه الشروط وذلك بتحيين “الإمكانيات” المرموزة –مثلا- في الحمض النووي ADN. وانطلاقا من هذا المعطى، يرى بول تايلور أنه مبرر تماما الاعتقاد بأن كل كائن حي” يبلور مقاصد عملية”من شأنها أن تتحقق أو تجهض حسب ملابسات السيرورة الطبيعية. يترتب على هذا أن فعلا بيئيا أخلاقيا رصينا يتوجب عليه دمج هذه المفاهيم حول الحياة في “عالم الاعتبارات المعنوية” في خطاب مردد باستمرار في الأدبيات البيئية المعاصرة، يقول تايلور بشأن الفراشة: “عندما نستطيع فهم” دورة الحياة”عند الفراشة ومعرفة “الظروف البيئية” المناسبة لعيشها في صحة جيدة، حينها سندرك بيسر ما يصلح لهذا الكائن الحي وما لا يصلح[43].

لقد انتقدت  نظرية “المساواتية البيومركزية” لتايلور انطلاقا من كونها  “تتردد” في اتخاذ القرار حينما يتعلق الأمر بالمصالح المتضاربة للكائنات الحية. هل يمكن –مثلا- أن نضع على قدم المساواة  “المصالح الإنسانية” ومصالح الحشرات أو النباتات؟ كيف نحل إشكال المساواة بين مصالح الإنسان ومصالح الكائنات الأخرى حينما يتعلق الأمر ببناء طريق مثلا أم مرفأ وما يترتب على ذلك من إفناء لكائنات حيوانية ونباتية وتدمير لأنساق بيئية؟ هل يمكن في هذه الحالة أن نحترم مفهوم المساواة بين الكائنات الذي دعا إليه تايلور[44].

تعتبر Janna Thompson من أشهر منتقدي تايلور في مقالهاA refutation of Environmental  Ethics[45] الذي قالت فيه بلهجة حادة: “يعتقد تايلور أن شيئا ما يحمل قيمة أخلاقية جوانية باعتباره فردا متمتعا بالحياة. وإن كانت الكائنات الحية تتمتع بقيمة “في ذاتها” فباعتبارها أفرادا وليس شيئا آخر. لكن لا يوجد أي دليل علمي يسند هذا “التقييم الفردي”. هل يمكن اعتبار القلوب والرئات والأكباد والكلى ذات قيمة معنوية “داخلية” وتستحق بذلك أن تشكل هاجسا أخلاقيا بالنسبة إلينا. هل بإدراكنا كيف تتطور هذه الأعضاء داخل الجنين وكيف تشتغل وكيف تحافظ على بقائها نبوئها مثلما الشأن بالنسبة للفراشة والباكتيريا قيمة أخلاقية؟”.

ووعيا من تايلور بهذه الانتقادات فقد سعى  إلى بلورة “سلم أولويات” في الفصل السادس من كتابه Respect of Nature. يتعلق الأمر بتركيب نظري معقد يميز بين “المصالح الأساسية” والمصالح الهامشية” أو “الثانوية” ويعترف بأن المصالح الحيوية وأيضا “المصالح الثقافية العليا” لعنصر من عناصر النوع تكتسي أولوية إذا ما اصطدمت بمصالح ثانوية لأفراد نوع آ خر. وعليه يرى تايلور أن أفعالا من قبيل قتل الفيلة لصناعة  أشياء “تافهة” من العاج وقطف أزهار برية نادرة من أجل الاستعمال الخاص أو صيد طيور المناطق المدارية من أجل بيعها والصيد والقنص  الرياضي، هي أفعال وجب شجبها ومنعها بقوة[46].”

ويلا حظ الباحثان فرانسوا بلي ومارسيل فيليون[47] أن تايلور لم يلتزم بمفهومه المساواتي حينما طالب بإعطاء النوع الإنساني وضعا اعتباريا خاصا وهذا في رأيهما تناقض مع مبادئه الأصلية.

وخلاصة القول يضيف الباحثان فرانسوا بلي ومارسيل فيليون[48] أن تايلور يرفض كل اتهام له بغياب الانسجام في أطروحته مؤكدا أن “مفهومه المساواتي” ينبغي أن يفهم “كقاعدة عامة” لا غير. ومع ذلك يبدوان الباحثان فرانسوا بلي ومارسيل فيليون مقتنعان أن رغبة تايلور في رد انتقادات معارضيه حول “مساواته” بين الإنسان والكائنات الأخرى، جعلت “بيومركزيته” أو تمركزه حول الحياة تنحو منحا مغايرا لمنطلقاتها المساواتية الأصلية. وبهذا يكون تايلور قد منح مبررات كافية للذين يعتقدون أن المبادئ البيومركزية  تبدو في نهاية المطاف قليلة الأهمية، ولا تستطيع حسم  مادة الخلاف.

إن هذا الوضع يبرز إشكالية أخرى تمس معظم أدبيات الأخلاق البيئية وهي: إمكانية ومعقولية إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والطبيعة دون أن نضع في مركز اهتماماتنا الأول قبل الثانية؛ ولأن الإنسان هو الذي بإمكانه إنتاج “فكر أخلاقي” بحيث لا ينتظر من الطبيعة أن “تبادله آراء” حول موقفه منها.

منذ أواخر السبعينات تبلورت مفاهيم إيكولوجية جديدة” كإيكولوجيا الاضطرابات”écologie des perturbations وايكولوجيا المشاهد écologie des paysages، وهي مفاهيم طورت نظرة أكثر دينامكية للطبيعة يمكن أن ندرج ضمنها الآثار الإيجابية للفعل البشري. لن يبق الهدف، إذن، هو  استقرار الأنساق البيئية، بل قدرتها على الصمود والتأقلم مع الاضطرابات الممكنة، ولا معنى، إذن، لحماية مطلقة للطبيعة بمعزل عن إنسان يتفاعل معها إيجابيا بحيث يمكن أن نمزج بين احترام التنوع البيولوجي وتدعيم التنوع الثقافي. هل يمكن اعتبار هذا الموقف الأخلاقي إزاء البيئة موقفا وسطا بين “الأنثروبومركزية” anthropocentrisme و”الإيكومركزية” Écocentrisme؟ في هذا الإطار يمكن إدراج  النظرة النقدية لكاترين لارير[49] تجاه التمركز حول الإنسان (الأنثروبومركزية) التي ترى أنه ينطلق من كونه يحصر قيمة الوسط البيئي فيما يمكن للإنسان استفادته منه، وكذلك موقفها من  التمركز حول البيئة (الإيكومركزية) الذي معناه الاعتقاد بأن الوسط البيئي له قيمة مستقلة عن البشرية، مما يدعو إلى طرح سؤال آخر هو: ما هي العلاقة بين البشرية والقيمة الأخلاقية للطبيعة؟

وفي سياق السجال المستمر حول التطبيقات “العملية” للفلسفات البيئية تندرج الآراء النقدية للباحث- السياسي الفرنسي Luc Ferry الذي ينطلق في كتابه Le nouvel ordre écologique[50] من المقابلة بين تصور يدافع على البيئة في اتجاه الحياة السعيدة للبشر وهو ما يسميه الأنجلوساكسونيون environmentalism  وبين أصولية الإيكولوجيا العميقة Deep Ecology.

إن هذا الاتجاه في التفكير الذي تطور بالخصوص في الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا ينحوالى نقد جذري لنموذج التطور الغربي المبني على الحضارة التقنية ويدعو إلى القطع مع مفهوم “التمركز حول الإنسان” anthropocentrisme بمعنى اعتبار الإنسان لب ومركز الكون. لتحقيق ذلك لابد من اختراع علائق قانونية جديدة بين الإنسان والطبيعة بأن يجعل من “أشياء” الطبيعة مواضيع قانونية؛ وعليه فإن الدفاع عن الطبيعة سيتم لأجلها هي.. وهذا هو رهان الإنسان الذي يشكل نوعا بيولوجيا في الطبيعة بشكل متساو مع الأنواع الأخرى!! إن ضرورة الدفاع عن الطبيعة مسألة مشتركة بين الناس إلى حد بعيد، واختيار الناس فعل ذلك شيء طيب، لكن ماذا يعني حماية الطبيعة لذاتها؟ إن الأمر يتعلق بأمر بشري..أليست موضعة الطبيعة في مركز العالم وإعطاءها صفة قانونية لا تخرج عن كونها “تمركزا حول الإنسان”anthropocentrisme حسب Ferry Luc؟

يقول الباحث François Ivernel[51] أنه كان ضروريا كتابة “النظام الإيكولوجي الجديد”؛ لأن نشره أضاف إلى وعي الجمهور وجود تيار فكري لا يعلن عن نفسه بوضوح، بالإضافة إلى أن “العقد الطبيعي”  contrat naturelلميشيل سير Michel serres لم يتم استيعابه بعمق. يتعلق الأمر في كتاب Luc Ferry  بنحت علاقة قانونية جديدة وبشخصنة الأرض “personnifier le terre” بواسطة عقد يتجاوز العقد الاجتماعي الذي يجمع البشر فيما بينهم.

كما يضيفFrançois Ivernel  إن للوك فيري الحق في التأكيد على أطروحة هانس جوناس، رأس حربة العقل الإيكولوجي الألماني، الذي أبدع مفهوم المسئولية الشهيرprincipe de responsabilité.

لكن مجلة Transversales هاجمت بشدة أفكار Luc Ferry، وهي تمثل في نظرFrançois Ivernel التيار الفكري الذي لا يعلن عن اسمه. يصر محرر ومجلة Transversales -تلاميذ Deleuze  وGattari وEdgar Morin- وهم يرفضون “الإيكولوجيا المعقمة” écologie aseptisée ويصرون على القول أنهم يرفضون الإيكولوجيا العميقة  Deep Ecology، كما يرفضون الاستنتاجات” الغلوائية” لهانس جوناس حسب رأيهم..

يضيف  [52]Ivernelأن أصحاب مجلة Transversales وبعض تيارات الخضر متحمسون لبناء مشروع مجتمعي انطلاقا من أفكار” ميثافيزيقية”. ويعتقد أن هذه الأطروحات التي تزدري فكرة الإنسان المؤسس للحضارة الغربية تحمل بداخلها بوادر التحول في اتجاه اللاإنسانية ورفض الثقافة ومعانقة السلطوية/الكليانية؛ ويدعم رأي هانس جوناس Hans Jonas الذي يرى أن شكلا من أشكال “الديكتاتورية المتنورة” هو الأقدر لوحده على الدفاع عن حقوق الطبيعة التي تزدريها النظرة الضيقة للديمقراطية المعاصرة..

 الغريب هنا أن جوناس الذي دافع بول ريكور عن عمقه الفلسفي واعتبرته كاترين لارير ذا منطلقات ميتافيزيقية هو نفسه الذي يحاج به Ivernel François ميتافيزيقيي مجلة transversales!! وهذا يدل في اعتقادي على تعقد المداخل الفلسفية للمسألة البيئية وصعوبة حسم مادة خلافها، وهو ما يبرز أيضا ثراء هذا الحقل الفلسفي وانفتاحه على آفاق جديدة..

إن الإضافة الجوهرية عند Luc Ferry تتمثل في طرحه بكل وضوح لإشكالية “الحيوية المعاصرة” vitalisme contemporain. بيد أن جبلة الاختلاف المحترمة لذاتها بما يجعل كل كائن حي لا يفضل كائنا آخر في شيء -قارن هنا مع Schaeffer Jean-Marie  في كتابه “نهاية الاستثناء الإنساني”- تتجاوز أي معيار آخر. يستتبع هذا بداهة أن الحياة تستحق الاحترام، لكن “طقس الحياة” الذي نحثه Michel Serres[53] لا يمكن من استخلاص أي مؤشر دال على القرارات الواجب اتخاذها من طرف المجتمع لاستشراف  مستقبله البيئي.. يخلص Ivernel إلى القول أن ما قام به Luc Ferry من “إبداع” النقاش حول” الإيكولوجيا العميقة”بفرنسا -على الرغم مما اعترى كتابه من بساطة بيداغوجية- يستحق الاحترام والترحيب.

إن المجال الباعث للحياة أو النسق البيئي Ecosystème يصبح هدفا في حد ذاته، والإنسان ليس حرا إزاءه، بل حاملا لرسالة مفادها حفظه من التلف. وهنا خلاف عميق مع أطروحة كاترين لارير التي تؤكد على قضية “ترك الطبيعة وشأنها..

ومعلوم أن النفعية الأنجلوساكسونية -عكس هذا التصور- تضع على قمة طموحها الإيطيقي تحصيل الحد الأقصى من السعادة وتقليص مجموع المعاناة الإنسانية إلى حدودها الدنيا.. إن معاناة الحيوان مثلها مثل معاناة الإنسان وحق كليهما في اللامعاناة لا تفاضل فيه بينهما، إننا نجد أنفسنا هنا إزاء “تيمة مساواة الأوضاع”؛ بعد العبيد والنساء والأطفال لم لا تبوأ الحيوانات أيضا حقوقا؟ وحسب Luc Ferry، فإن المفكر الأمريكي Peter Singer[54] لم يفعل أكثر من اتباع التقليد النفعيtradition utilitariste.  كل من يعاني يحمل أبعادا مقاصدية، وإن الفأرة-وليس الحصاة- لابد أن تتبوأ “شخصية أخلاقية”، والنتيجة أن كل الحيوانات -والإنسان من بينها – كلها متساوية- قارن مع أطروحة Jean-Marie Schaeffer[55].

إن معظم المصادر الفكرية التي اعتمد عليها  Luc Ferry فيما يتعلق بالإيكولوجيا العميقة باستثناء Michel Serres تنتمي إلى العالم الأنجلوساكسوني وبالخصوص الدراسات الأمريكية. ويتساءل Ivernel بحق لماذا لم يقم Luc Ferry بدراسة الخصوصية الفرنسية المقتسمة غالبا مع معظم الدول اللاتينية. لم تستطع فكرة الإيكولوجيا القصوى (حقوق الحيوان، حقوق النبات) في فرنسا أن تشكل لحد الآن اتجاه فكريا. والمفارقة أن “الأصولية الإيكولوجية” هي صناعة أنجلوساكسونية على الرغم من كون البراغماتية هي السمة الغالبة في مقاربة القضايا العامة، لكنها في الحقيقة مفارقة ظاهرية فحسب..

عندما طرح الأستاذ الأمريكيChristopher Stone  سؤال حقوق الأشجار رد عليه أحد زملائه مثيرا انتباهه أن إعطاء الأشجار “وضعا اعتباريا” لا يعلمنا عن ماذا تريد الأشجار. هل تريد أن تموت موتا طبيعيا بطيئا، أم تريد أن تتحول إلى مكتبة تساهم في نشر الثقافة، أو أن تجتث بواسطة الحرق؟

يستنتج Ivernel أننا إزاء مجال تغلب فيه المناظرة الفكرية أكثر من السجال السياسي في بلد يعتبر فيه الحس القانوني عشقا وطنيا ويفترض فيه الإقناع  من أجل كسب المرافعات[56].

هل يوجد “وضع فلسفي” للكائن الحي”: سؤال يختتم به Luc Ferry  كتابه متمنيا “إيكولوجيا ديموقراطية” ورافضا التمركز حول الإنسان على الطريقة الديكارتية مثلما يرفض “الأصولية الإيكولوجية”. ويقول Luc Ferry أنه لا ينبغي أن تؤسس الإيكولوجيا على حقوق الطبيعة المدعاة، بل على واجب الإنسان تجاه الطبيعة ويقترح “وضعا فلسفيا للكائن الحي”، لكن هذا المشروع بقي في شكل جنيني. والسؤال المركزي الذي يفرض في هذا السياق هو: هل بالإمكان تطوير هذا المشروع الفلسفي دون السقوط في التيه الميتافيزيقي الذي حذر منه Luc Ferry  نفسه؟ ماذا سيكون عليه وضع فلسفي للكائن الحي؟ أين يبدأ الحي؟ في الفيروس أم الأرضة  termite أم المتطاول paramécie؟ هل نستثني الإنسان من هذا الكائن الحي؟ هل ندرج ضمنه النبات؟ إذا كان الأمر بالإيجاب هل نضيف المعدن الذي هو حامل النبات؟ ألا يتحول الأمر بذلك من “وضع للكائن الحي” إلى “وضع للأرض”؟ من هذه الزاوية سيمد Luc Ferry يده إلى Michel Serres وسيتقاطع لا محالة مع أطروحة ليوبولد حول أخلاق الأرض[57].

ما قيمة وضع فلسفي للكائن الحي إذا لم يتوج بوضع قانوني؟ وهل نحن هنا إزاء أخلاق morale أم أخلاقية éthique بالتمييز الذي أقامه فيليب زاريفيان؟[58].

في كتاب الأستاذين لارير du bon usage de la nature[59] يشبهان موقف الضرورة الطبيعية الذي يربط البشر بالطبيعة بموقف الأبوين من المولود الجديد، وهو ما يجسد في نظرهما موقف جوناس الذي يعرف المسئولية كالتزام أحادي الاتجاه تجاه المستقبل، مثلما يجسد موقف كاليكوت  Callicot  -أحد تلاميذ آلدوليوبولد- والذي يعرف القيمة الداخلية الملازمة للطبيعة كقيمة منسوبة إليها في ذاتها بمعزل عن المنفعة التي يمكن أن تنتج عنها؛ وهو ما يجسده بحق مثال الأبوين مع المولود الجديد الذي يستقبل بالحب والرعاية بشكل منفصل عن النفع الذي يمكن لأبويه أن يجنياه منه.. ويخلص الباحثان في كتابهما إلى أنه يصعب التوفيق عمليا بين القيمة الملازمة للطبيعة التي هي بمنطق “المتمركزين حول  الحياة البيولوجية” Biocentristes هدف في حد ذاتها و بين مفهوم هانس جوناس للمسؤولية بمعنى أنه لا توجد مسؤولية إلا إزاء ما يرتبط بنا.. إن التصور “البيومركزي” للقيمة الجوانية للكائنات الحية يؤدي إلى “أخلاقيات الاحترام” بما يعني” اللا تدخل”non intervention، وهو مفهوم مغاير لأخلاقيات المسئولية. وهذا ما يطرح بقوة إشكال التمييز بين “الأخلاق: morale” و”الإطيقا: éthique” الذي حاول إبرازه الباحث زاريفيان[60].

هل يعني هذا استحالة الخروج من المأزق؟ ليس بالضرورة. إن المجتمعات المعاصرة بصدد تبني قرارات مستعجلة و”أكثر تعقيدا” من أجل حماية الطبيعة، لذلك وجب تبني “مفاهيم وسطية” تبنى عليها “أفعال” واضحة للجميع مع احترام تنوع الأخلاقيات البيئية واختلاف الأديان وأنماط العيش. إن هذا الرهان الذي ينبغي أن تضطلع به الإيكولوجيا السياسية écologie politique؛ لأن الأخلاق البيئية المستندة إلى أفكار ميثافيزيقية و”جمالية” و”دينية” لا تستطيع القيام بذلك ما دام مواطنو “المجتمعات الحرة” لا يجمعون على تبني مفاهيمها[61].

أن الإيكولوجيا السياسية هي هنا بمثابة “مكمل ضروري” لتعدد الأخلاقيات البيئية، لكنها تكتسب انطلاقا من بعدها العملي وقدرتها على “التجميع” صفة “فلسفة” مستقلة عن الفلسفات البيئية الأخرى.. ليست الإيكولوجيا السياسية معنية بـ”المصالحة” بين تيارات الفلسفة البيئية المختلفة وتحديد أي منها أقرب إلى “الحقيقة” لكنها تتموقع “فوقها” لتبلور مفاهيم بيئية مستساغة من طرف المواطنين على اختلاف “فلسفاتهم” البيئية. من هذا المنطلق تبدو الإيكولوجيا السياسية و”الإطيقا البيئية” كمفهومين متمايزين لكن متكاملين.

على اعتبار أن العدل هي الفضيلة الجوهرية لكل المؤسسات السياسية منذ أفلاطون. بهذا المعنى تروم  فلسفة العدل إلى إقامة المؤسسات الكفيلة بتحقيقه وتنظيم علاقات اجتماعية عادلة. ويبدو مشروعا أن ننتظر من “نظرية  تدبيرية” للشأن السياسي أن تقدم “آراء” في هذا الصدد وبشكل نسبي..

سعى الباحثان فرانسوا بلي ومارسيل فيليون[62] إلى إبراز أن “الاختيارات البيئية” للمجتمعات لا يمكنها أن تخرج عن سياق العدل نفسه. في المجتمع الديمقراطي المعاصر يحدد “العدل” مجموع الحريات التي تخول لأفراد المجتمع وتنظم العلاقات فيما بينهم. في هذا الإطار تبدو الهواجس البيئية شديدة الارتباط بالمفهوم السياسي للعدل. ومهما تباعدت الاتجاهات الفكرية، فهناك إجماع في أوساط منظري الفلسفة السياسية أن العدالة الاجتماعية والاقتصادية من مرتكزات الاجتماع البشري. ولم تكن الهموم البيئية تحظى بالأولوية خلال القرنين 18 و19م نظرا لغياب التهديدات البيئية التي تعاني منها مجتمعات اليوم. لقد أصبح لزاما اليوم تدبير الثروات الطبيعية مع احترام “السلامة البيئية” باعتبارها “مطلبا” يندرج ضمن مفهوم العدل مثلما الشأن بالنسبة للتوزيع العادل للثروات.

إن تداعيات حماية الطبيعة أو تدميرها وما يترتب على ذلك من إيجابيات أو سلبيات ينبغي أن “تقتسم بشكل عادل” بين مجموع المواطنين. إذا كان “الهدف المثال” في الفلسفة السياسية هو “إقامة العدل”، فإن “الهدف المثال” بالنسبة للفلسفة البيئية تحديد “الحقوق والواجبات” في علاقة المواطن بالوسط البيئي من حيث التمثل والحماية والاستشراف. وانطلاقا من هذه المقاصد يمكن تعريف “الإيكولوجيا السياسية” باعتبارها “منظومة قيم” تنطوي بالضرورة على ثلاثة مجالات للتطبيق: العدل داخل الدولة والعدل بين الدول والعدل بين الأجيال، هنا ندرك  أهمية أعمال الفيلسوف الألماني هانس جوناس الذي بسطنا آرائه في بداية الدراسة..

يعرف العدل داخل الدولة “بالتوزيع العادل للتكلفة” والإيجابيات والمخاطر البيئية بين الأجيال المعاصرة المتعايشة فوق مجال ما والخاضعة لنفس المؤسسات السياسية. وتنحو الدراسات العلمية النادرة في هذا الاتجاه إلى الربط بين مستوى الدخل المادي للأفراد وتوفر الحماية البيئية لدرجة أن العواقب البيئية بالنسبة للفئات الأشد فقرا قد تصل إلى تهديد حقيقي للصحة. من هنا تبدو “الإيكولوجيا السياسية” معنية بالتكلفة الناتجة عن حماية هذه الفئات الاجتماعية ومحيطها البيئي. أما العدل ما بين الدول، فمقتضاه الالتزام المشترك بين الدول لمعالجة الآثار السلبية “للتلوث” البيئي وحماية المنظومة البيئية العالمية. وأخيرا العدل مابين الأجيال ومقتضاه العمل على “تدبير” الثروات الطبيعية والأنساق البيئية بنفس مستقبلي يفكر في الأجيال اللاحقة (قارن برهان جوناس). إن هذه الأبعاد الثلاثة ينبغي أن تشكل أساس “الإيكولوجيا السياسية”، وهي أبعاد متداخلة سيكون مفيدا تأطيرها ضمن علائق جامعة لتشكل نسقا متكاملا. إن الإيكولوجيا السياسية تطرح أسئلة دقيقة وجوهرية حول “العيش المشترك” في المجتمع لكنها تترك الباب مشرعا لإشكاليات بيئية أخرى تنتمي إلى حقل “الإطيقا البيئية” وليس الإيكولوجيا السياسية..

إن قصد الباحثين فرانسوا بلي ومارسيل فيليون من تحديد مفهوم “الإيكولوجيا السياسية” هو تمييزها عن “الإطيقا البيئية”. ومقتضى ذلك أن الإطيقا البيئية رغم بعدها الفلسفي وعمقها النظري لم تستطع معالجة إشكالية “الآثار التدميرية” للسياسات البيئية، لكن هذا لا ينفي أن الإطيقا البيئية يمكن أن توسع آفاقها في اتجاه التقاطع مع الإيكولوجيا السياسية. في هذه الحالة سيجد منظرو “الفلسفات البيئية” أنفسهم أمام خيارين: إما تبني مفاهيم وسطية مقبولة من طرف أكبر عدد من الناس وهذا يستلزم “التخلي” عن الأسس الميتافيزيقية والجمالية والدينية التي “تفرق” الناس أو على العكس التشبث بأسسها النظرية ووقتها لن تستطيع فرض آرائها على من ينظر إلى الطبيعة بطريقة أخرى.. إن الباحثان يستندان هنا إلى الفصل الذي أقامه John Rawls  بين “الصائب” و”الجيد” في كتابه الشهير A Theory of Justice ومفاده أن الناس في الغالب لا يختلفون في تقييم “الصائب” بقدر ما يختلفون في تحديد “الجيد” وهذا راجع لاختلاف المنطلقات الفلسفية والدينية والنظرة الوجودية للكون.. وعليه فإن الاحتكام إلى “الصائب” بدل “الجيد” يشكل أساس الإيكولوجيا السياسية.

إن حماية الطبيعة ينبغي أن تشكل هاجسا جماعيا يصب في اتجاه المفهوم الشامل للعدالة الاجتماعية. ومن أجل تقسيم الأدوار بين السياسي والأخلاقي وجب في حالة “الخلاف” المساواة بين الناس وفق مفاهيم العدالة الاجتماعية المنتمية بالطبع لمجال التدبير السياسي. والقول أن “الصائب” في هذه الحالة أسبق من “الجيد” لا يعني إلغاء هذا الأخير، بل على العكس يمكن “للجيد” أن يلعب دورا مكملا من أجل تحقيق “سياسي” لمقتضيات الحفاظ على الأنساق البيئية… هل يمكن أن نفكر اليوم  بشكل متواز في وحدة العالم الفيزيائية وفي وحدته السياسية دون أن نضحي بإحدى الوحدتين؟ وهل دمج حركات البشر في وحدة “الغلاف الحيوي” أحسن من خضوع شعوب العالم للهيمنة السياسية؟ لا نملك جوابا نهائيا لهذا السؤال…

“من الناحية المنهجية، يتوحد أخلاقيو البيئة وأخلاقيو تحرير/حقوق الحيوان من خلال التزام مصمم على مواجهة طرائق الفلسفة الغربية التقليدية. وينسج كل منهما نظرياته بغير خيوط الأفكار الموجودة في الفكرين الأوروبي والأمريكي-الأوروبي. ويطور كل منهما فلسفة خلقية تتكل على نظريات أخلاقية تستلزم بدورها وصايا عملية. كما يعتقد كل منهما بقدرة الأفكار على توجيه الفعل الفردي وتغيير القيم الاجتماعية و صوغ مثل ثقافية جديدة[63].”

وجدير بالاعتبار أن مفهوم “أخلاق الأرض” يعد بنتائج عملية عميقة على المستوى البيئي إن هيئت له الظروف الاجتماعية والسياسية من أجل تمثل أبعاده الفلسفية والإنسانية؛ لأنه بمرورها من مقام “الحي” إلى مقام “الأرض” تكون الإيكولوجيا قد قطعت شوطا جديدا. خلف شعار “فكر مثل الجبل” penser comme une montagne يحاول تلاميذ المفكر الأمريكي Aldo Léopold تأسيس “أخلاق للأرض” يتبوأ بمقتضاها كوكب الأرض قيمة جوانية valeur intrinsèque. “في” أخلاق الأرض “نمذج ألدوليوبولد بوضوح مفهومه الخاص عن “التسلسل الأخلاقي” مستندا إلى مناقشة داروين لتطور الأخلاق في كتابه “تحدّر الإنسان” علما بأن داروين يستشهد بكتاب هيوم “الرسالة” وكتاب آدم سميث “نظرية الإحساسات الخلقية” باعتبارهما السلفين الفلسفيين  لما يقدمه من “تاريخ  طبيعي” للأخلاق. ويبدو بأن النظرية الخلقية عند هيوم هي السلف التاريخي لأخلاق الأرض عند ليوبولد، وللأخلاق الحديثة لدى صفوة الحركة البيئية، وللعديد من الفلاسفة البيئيين المعاصرين. زد على ما سبق أن نقطة الارتكاز الخلقية لأخلاق الأرض عند ليوبولد هي المفهوم الإيكولوجي عن “المجتمع الحي[64]“.

وأرى أنه ينبغي أن نتبنى “تفاؤل” دافيد هيوم الذي حاجج “بأن كلا من أحكامنا الخلقية وأفعالنا تضرب بجذورها في المشاعر الغيرية أو الوجدانات التي غالبا ما تعارض “حب الذات”. كتب هيوم “بعيدا عن الظن بأن البشر لا عاطفة لديهم إزاء أي شيء يتعدى أنفسهم، أرى أنه وان يندر الالتقاء بشخص يحب أي شخص آخر أكثر مما يحب نفسه؛ فمع ذلك يندر أن نلتقي شخصا لا تكون كل عواطفه اللطيفة، مأخوذة ككل، راجحة على أنانيته كلها[65]“، ذلك بأن الإنسان بجبلته الأصلية آية وليس آلة، ولنا عودة في دراسة قادمة لموضوع يتعلق بجدلية الإنسان والطبيعة من منظور كوني استخلافي، وهي مرحلة أراها ضرورية من أجل  انخراط فلسفي عميق للعرب والمسلمين في حقل الدراسات البيئية وهو طموح مشروع من أجل معانقة المستقبل..

  الهوامش


1. جمال بامي، “نهاية الاستثناء الإنساني: قراءة تفكيكية وتركيبية لكتاب جون ماري شيفر”. مجلة الإحياء، العددان 30-31 نونبر 2009. ص36-45.

2. L’éthique, le politique, l’écologie. Entretien avec Paul Ricœur  (propos recueillis par Edith de Jean Paul  Deléagel). Ecologie politique. Sciences, Culture, Société. 1993. N°7, été.

3. Jean-Marie Schaeffer La fin de l’exception humaine, Gallimard.2007.

4. François Blais et Marcel Filion. De l’éthique environnementale à l’écologie politique. Apories et limites de l’éthique environnementale.. Philosophiques Vol: 28, N°2, 2001. P 255-280.

5. Catherine Larrère. Entrevue. Réalisé par Sandrine Berges. Dans Ethique et Economique. 2(2). 2004.

6. Arthur George Tansley  (1871 – 1955): عالم بيئة بريطاني، من مطوري مفهوم النسق البيئي، عضو بارز في الجمعية البيئية الإنجليزية ورئيس تحرير مجلة  Journal of Ecolgy لمدة ثلاثين سنة.

7. Odum E. P, (1971). Fundamentals of ecology. Philadelphia, WB Saunders Co. Troisième  édition.

Et Odum H.T., 1971. Environment, power, and society. stressing energy language and energy analysis

8. L’éthique, le politique, op. cit.

9. Jürgen Habermas, De l’éthique de la discussion. Paris, Flammarion, 1991.

10. Max Scheler, La situation de l’homme dans le monde, (Chap. II) Aubier, Éditions Montaigne, Paris 1951.

11.Max Weber   في كتابه الشهير الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية.

12. مايكل بيترز ووروث ايروين، الأرض: الشعريات الإيكولوجية وهايدغر ومفهوم الإقامة. مجلة.Trumpeter مجلد 18، عدد 1، 2002.

13. Zakaria Rhani, l’Humanisme à l’ère technologique: vers une éthique Heideggérienne de la parole et de la technique. Altérités; Vol: 5, 2008. P. 83-91.

14. سايمون جيمس، “هايدغر ودور الجسم في الفضيلة البيئية”، مجلة.Trumpeter مجلد 18،عدد 1، 2002.

15. Hans Jonas, le principe de la responsabilité, une éthique pour la société démocratique, le Cerf, 1995.

16. L’éthique, le politique, op. cit.

17. P. Ricœur , “La responsabilité et la fragilité de la vie. Ethique et philosophie de la biologie chez Hans Jonas”, in Le Messager européen, n°5, 1992.

18. Entretien avec Paul  Ricœur, Ecologie politique.  Op. cit.

19. إيمانويل كانط في كتابه الشهير نقد العقل الخالص Critique de la raison pure.

20. Hans Jonas, le principe de la responsabilité, une éthique pour le société démocratique, le Cerf, 1995.

21. المرجع نفسه.

22. المرجع نفسه.

23. المرجع نفسه.

24. Catherine Larrère. Entrevue. Réalisé par Sandrine Berges. Dans Ethique et Economique. 2(2). 2004.

25. المرجع نفسه.

26. Philippe Zarifian, Intervention pour le réseau Ecole et Nature, Cherbourg. 28 mars 2008.

27. في حوار مع مجلة Ethique et Economique، م، س.

28. Philippe Zarifian, op. cit.

29. “بايرد كاليكوت مقدمة الفلسفة البيئية ج.1-عالم المعرفة عدد 332، 2006.

30. المرجع نفسه.

31. أشارت إلى هذه الدراسة في حوارها مع مجلة Ethique et Economique. م، س.

32. François Blais et Marcel Filion. De l’éthique environnementale à l’écologie politique. Apories et limites de l’éthique environnementale. Philosophiques Vol: 28, N°2, 2001. P 255-280.

33. المرجع نفسه.

34. المرجع نفسه.

35.  Luc Ferry Grasset, Le nouvel ordre écologique, 1992 ;

– William C. French: Against Biospherical Egalitarism, Environmental ethics, 17, 1995, p. 39-57.

36. François Blais et Marcel Filion, op. cit.

37. المرجع نفسه.

38. Aldo Leopold, Almanach d’un comté des sables, J. M. G. Le Clézio (tr.), Paris, Flammarion, 2000 [1949],

39. Baird Callicott, The conceptual foundations of the land ethic, p266.

40. Rolston Holmes: Challengs in Environmental Ethics, 1989.

41. François Blais et Marcel Filion, op. cit.

42. المرجع نفسه.

43. Paul Taylor. A theory o f Respect of Nature: environmental ethics. p66.

44. François Blais et Marcel Filion. Op.cit.

45. Thompson Janna, A Refutation of Environmental Ethics, Environmental Ethics, 12, 1990, p.147-160.

46. Paul Taylor, Op. cit.

47. François Blais et Marcel Filion. op. cit.

48. المرجع نفسه.

49. في حوارها مع مجلة Ethique et Economique. م، س.

50. Luc Ferry Le nouvel ordre écologique,  Grasset, 1992 .

51. François Ivernel.  Environnement et Ecologie: l’Impossible synthèse. A propos du Nouvel Ordre écologique de Luc Ferry. Le Banquet, n°2, 1/1993.

52. المرجع نفسه.

53.  Michiel Serres, Le contrat naturel, François Bourin, Paris 1990.

54. Peter Singer, Questions d’Éthique pratique. Bayard Éditions, 1997.

55. Jean-Marie Schaeffer  La fin de l’exception humaine, Gallimard. 2007.

56. François Ivernel.  Op. cit.

57. المرجع نفسه.

58. Philippe Zarifian. Op. cit.

59. Larrère Catherine et Raphaël, Du bon usage de la nature, Pour une philosophie de l’environnement, Collection Alto, Aubier, Paris, 1997,p. 355.

60. Philippe Zarifian op. cit.

61. François Blais et Marcel Filion, op. cit.

62. المرجع نفسه.

63. بايرد كاليكوت مقدمة الفلسفة البيئية ج1، عالم المعرفة. عدد 332، 2006.

64. Aldo Leopold, Almanach d’un comté des sables, J. M. G. Le Clézio (tr), Paris, Flammarion, 2000 [1949].

65. David Hume, La morale: Traité de la nature humaine, Livre III, Philippe Saltel (tr.), Paris, Flammarion, 1993 [1740].

Science

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق