وحدة الإحياءمفاهيم

الغُربةُ عن القرآن انسدادات التأصيليات والبنيويات والشعائريات

أولاً

اعتبر الباحث الفرنسي المعروف Claude Gilliot([1]) أنّ أقساماً معتبرةً من المشروعات الاستشراقية أو الغربية في قراءة أصول القرآن أو تكونه صبّت في الزمن المعاصر في اتجاهين اثنين لا ثالثَ لهما: القراءة التي تعتبر أنّ القرآن بشكلٍ جزئيٍّ أو جوهريٍّ هو من وضع مجموعة أو أنه تأليف جَماعي، أو أنه من صُنْع “الجماعة” ـ والقراءة الأُخرى لأصول القرآن تفترض أنه مستمدٌّ أو متولِّدٌ عن أصلٍ أو أصولٍ سابقةٍ من طريق الترجمة، أو الاقتباس والتركيب، أو التحويل. وGilliot يعتبر نفسَه وعشرات من زملائه وسابقيه من أتباع فكرة “التأليف الجماعي” التي يرسم خطَّها التاريخي فيما بين Bergsträsser و A.JeffryوBretzl في الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين، والزمن الحاضر ـ وهو يُسمّي هذه القراءة لتاريخ النصّ القرآني قراءةً مقارنة en aval؛ بينما لا يذكر من أتباع القراءة الأُخرى (التي يسمّيها تأصيليةen amont ) غير Günter LülingوChristoph Luxenberg([2]). ويتابع Gilliot أنّ الهدف الذي تريد مدرسته في التفكير والتدبير بلوغَه هو الوصول إلى Historico-Critical text أو نص نقدي تاريخي مُقارِن للمصحف العثماني الذي يعتبره الصياغة الأخيرة والقانونية للقرآن. والسبيلُ الأكثر دقةً لبلوغ ذلك رغم صعوباته هو المدوَّنة القرآنيةCorpus Coranicum !

تملك القراءتان التأصيلية والمقارِنة مشتركات وافتراقات. فالمشترك بينهما الاتفاقُ على أنّ القرآن الذي بين أيدينا هو النصُّ الذي جرى المصيرُ إليه وقوننتهُ بعد مدةٍ على وجود نصوص أو روايات أو سرديات متعددة. وهؤلاء، وإن لدوافع مختلفة، لا يرون إمكان ظهور نص ديني في أهمية القرآن، في مطالع القرن السابع الميلادي، باعتباره متفرّداً بالإنشاء والصدور من جانب فردٍ واحد. إذ كلُّ الديانات الأُخرى تملك نصوصُها الدينية رواياتٍ وسرديات متعددة وأحياناً متناقضة، وحتى القوننة اللاحقة لتلك السرديات ما أنْهت تعددية النصوص كما في حالة العهد الجديد، وبعض أسفار العهد القديم. ولذا فالمطلوب (وهذا أمرٌ مشتركٌ أيضاً) اكتشافُ الرواية أو السردية، أو السرديات الأصلية أو الأولى قبل ما صار يُعرفُ بالمصحف العثماني.

والمشترك أخيراً بين القراءتين نفيُ الرواية الإسلامية الكلاسيكية لظهور القرآن أو نزوله منجَّماً عبر ثلاثة وعشرين عاماً، وتسجيل الرسول صلواتُ الله وسلامُهُ عليه للنص المنزَّل بالتدريج، وتلقينه لأصحابه من أجل الحفظ أو الجمع، ثم جمع أبي بكر لأجزاء القرآن المكتوبة في بيت حفصة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم،، إلى أن جُمع النصّ في المصحف، أي بين الدفتين في زمن عثمان بن عفّان حوالي العام الثلاثين للهجرة([3]). ولذا فهم عندما يتحدثون، وليس منذ الآن بل منذ أيام نولدكه Nöldeke عن الجمع العثماني يقصدون النصّ القانوني الذي يتداولُهُ المسلمون، والذي ربما يكون الاتفاق عليه قد جرى بعد عثمان بما يزيد على القرن من الزمان!

ويبدو الاختلاف وليس الخلاف بين المذهبين المقارِن والتأصيلي في عدة مسائل مهمة. فالتأصيليون المتكاثرون بخلاف المقارِنين النقديين، بالغو القِدَم. فمنذ الرُبع الأول من القرن التاسع عشر، ومع تبلْوُر ما صار يُعرفُ بالقراءة التاريخية ـ النقدية للعهدين القديم والجديد، بدأ الانشغال بأصول الإسلام والقرآن، أو بأصول الإسلام استناداً للقرآن([4]).

وبالطبع كانت هناك انشغالاتٌ كبرى وذات طابع نهضوي بالفيلولوجيا والتاريخ والاجتماع في الحضارة العربية والإسلامية؛ لكن بقي أكثر من نصف البحوث والدراسات، وعلى مدى حوالي القرن منشغلاً كما سبق القول بقراءاتٍ تأصيلية في أصول الإسلام والقرآن. فذهب كثيرون إلى القول بالأصل اليهودي للقرآن والإسلام، كما ذهب كثيرون إلى الأصل المسيحي للقرآن والإسلام. واعتدل فريقٌ ثالث، وهذه نكتةٌ سوداء ساخرة، فقال بإعادة الإسلام والقرآن إلى مزيجٍ من اليهودية والمسيحية([5])! فالسريانيات والآراميات الطاغية في أعمال العشرات من الدارسين الشبان والكهول في العقود الأخيرة هي فرعٌ على هذا التيار التأصيلي أو الإلغائي العريق في الرؤى الغربية المعقَلنة للإسلام. وقد نبَّه الأستاذ Böwering في مقالةٍ له قبل سنوات، إلى مقالةٍ صادرة عام 1918 تعتبر الإسلام تطوراً عن المسيحية ـ اليهودية التي ظلّت معروفةً في بلاد الشام والجزيرة حتى القرن الخامس الميلادي([6])!

إنّ المُرادَ هنا ليس الخوض في هذه النزعة أو تلك من نزعات الإلغاء للإسلام والقرآن بدوافع تبشيرية أو علمانية/عقلانية. فقد خيضت نضالاتٌ علمية وغير علمية ومن جانب باحثين مسلمين وغير مسلمين، في مواجهة تلك الإلغائيات، والبروفسورة نويفرت، الباحثة الكبيرة في الدراسات القرآنية، وصفت في كتابها الصادر مؤخَّراً، الاستعلاء المتجدد لذاك النوع من المقاربات للقرآن منذ النصف الثاني من السبعينات بأنه انكسارٌ خطيرٌ لا يخدم العلوم القرآنية والإسلامية مهما كان الهدف الذي يدّعي أنه يسعى لتحقيقه([7]). تصوَّروا أن Lüling عدَّل العنوان الفرعي في الترجمة الإنجليزية لكتابه على النحو التالي:A Challenge to Islam for Reformation؛ أي تحدي الإسلام من أجل “الإصلاح”! وفي التقديم الذي كتبه صديقي الأستاذ جورج تامر في ترجمته لكتاب نولدكه: تاريخ القرآن، عام 2004م، قال إنّه إنما نقل كتاب نولدكه التاريخي ذاك، من أجل الإسهام في إصلاح الإسلام!

لقد قلتُ في بداية هذه الفِقرة إنني لا أقصِدُ الردَّ على النزعات السريانية في قراءة القرآن، بل ما أقصِدُهُ هو: كيف تُسهم أو يمكن أن تُسهم هذه الطرائف والغرائب في فهم القرآن أو أصول الإسلام؟! تأتي إلى هذا النصّ الديني الذي ظهر في القرن السابع الميلادي، فتقول إنه ليس نصاً في الحقيقة، بل هو “إنجيل العبرانيين” للطائفة الأبيونية بمكة، وقد تُرجم أو حُوِّل زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، أو بعده، أو أنه ترجمةٌ من عدة مصادر أيام النبي وبعده ـ كيف يبقى القرآن نصاً قابلاً للفهم، وبالتالي ممكنَ الدلالة على أُصول الإسلام وسط هذه الاشتراطات والخنزوانات؟! فحتى في حدود محاولات برغشتراسر وجفري، أي الحديث عن عشرات أُلوف المفردات والتراكيب غير العربية في القرآن، لا يبقى هذا النصّ الذي يُسمّي نفسَه كتاباً قابلاً للفهم. والأمر نفسُه يصحُّ على النقدية الجذرية الأُخرى من جانب وانسبورو وكوك وكرون. فبحسب هذا التصور على التنوع في التفاصيل بين الأطراف، هناك نصوصٌ أو قِطَعٌ متشرذمةٌ هي مواريثُ العهد الأول للنبي وأصحابه، وهي تدلُّ على الأصول اليهودية أو المسيحية للقرآن ودعوة النبي أو الأنبياء الذين ظهروا دفعةً واحدةً في القرن السابع الميلادي في الجزيرة وجوارها!

 أما النصُّ الذي بين أيدينا فقد أنتجته الأرثوذكسية الإسلامية مغيِّرةً من طبيعة الدين، وواضعةً له في خدمة الإمبراطورية. أمّا كيف أمكن إخفاء الطبيعة اليهودية أو النصرانية وسط تلك البيئات المتشرذمة Secterian Milieu([8]) بحسب تعبير وانسبورو، والوصول إلى نصٍ قانونيٍ مُجمَعٍ عليه، فهذا ما لا يريد هؤلاء التفكير فيه أو تقديره. إنما الأهمُّ من ذلك، وكما سبق القول، كيف يمكن فهم القرآن، ودعوة الإسلام، والتاريخ الإسلامي الأول، بعد هذا الترسيم السوريالي والافتراضي لأُصول القرآن وأصول الإسلام([9])؟

ثانيا

لقد شكلت القراءة أو القراءات الغربية التأصيلية للقرآن في العقود الأربعة الأخيرة، إذن، انسداداتٍ تحول دون الفهم أو الإفهام. وهي لن تنتهي بالطبع ما دامت غير مفيدة وغير معقولة أحياناً، ما دامت توظيفاتُها حاضرةً ومستمرة. بيد أنّ الذي أراه أنّ القراءة الأُخرى التي ازدهرت وما تزال، وقد يكون لها مستقبل، هي القراءة المقارنة. والقراءةُ المقارنة تزعم أنها لا تنطلق من مقولةٍ مسبقةٍ، كما أنها لا تفترضُ نتائج معينة. وهذا غير صحيحٍ في الواقع. لكنني سأحتكمُ في شأنها إلى ما احتكمْتُ فيه بشأن القراءة التأصيليةوهو: مدى الإعانة على فهمٍ أفضل أو آخَر للقرآن.

وإذا كانت القراءةُ التأصيلية قد أفادت كثيراً من بحوث وتطورات دراسات العهدين القديم والجديد؛ فإنّ القراءة المقارنة، تفيد أكثر بكثيرٍ أيضاً من معطيات ونتائج دراسات النص واللسانيات الحديثة والمعاصِرة. إنما الطريف أنها تقول في الحقيقة، رغم اعتبارها القرآن نصاً ذا بنية؛ إنه ليس نصاً منذ البداية وإنما هو نتاج تأليفٍ جماعيٍّ أو تأليف “الجماعة”، وأن عمليات التأليف أو التوليف هذه استغرقت وقتاً ظهرت خلاله نصوصٌ أو أجزاء من نصوص، جرت في النهاية ترتيبات جمعها وقوننتها في نصٍ واحد. وعمليات التركيب هذه اقتضت إهمالَ أو رمْيَ أو تناسيَ أو استبعاد الكثير من المفردات والتعابير والفقرات ووضْعها في مراتب أدنى. والمطلوب الآن، وفي كلّ آن، أي منذ أيام “جفري” و”برغشتراسّر” تتبُّع هذه المهمَلات والمستبعدات وما نُحّي منها إلى مراتب أدنى مثل القراءات المختلفة، أو التفاسير، وكلّها باعتبارها وثائق أو شبه وثائق ينبغي جمعها جمعاً مستقصياً من المصادر الإسلامية وغير الإسلامية، ووضْعُها في مقابل نصّ الجمع العثماني فيما يشبه ما نفعُلهُ في الكتاب ذي المخطوطات المتعددة، لكي نصلَ إلى نشرةٍ محقّقة له([10])! الطموحون من أهل هذا المذهب (وهذا كان رأي برتزل وجفري) ما يزالون يأمُلُون أن يكشفوا، إذا صحَّ التعبير، عن النُسَخ الأُخرى الضائعة مما قبل المصحف العثماني. والمُتواضعون منهم أو مَنْ يعتبرون أنفسَهُمْ علميين أكثر، يأملون أن يحققوا من وراء ذلك عدة تغيرات ذات نتائج شاسعة:

1. فهم أفضل للنص القرآني المُتداوَل بما في ذلك كشف الخروقات والمنسوخات، وأسرار غرائب التركيب الصرفية والنحوية والسياقية والاجتزاء. وإنما قبل ذلك وبعده طرائق عمل أو أعمال المحرِّرين، على اختلاف البيئات والأفكار.

2. فهم أفضل لعلائق الشفوي بالكتابي، باعتبار أنّ القرآن بحسب اسمه هو نصُّ مقروءٌ أو متلوٌّ أو أنه للإلقاء والسَماع. وحتى عندما كُتب ما انتهت الأهميةُ الفائقة لتلاوته بصوتٍ عالٍ استناداً إلى الحفظ غيباً أو حتى إلى نصٍ مكتوب. فالشفوي عندما يتحول إلى نصٍ مكتوبٍ يخضعُ لآلياتٍ أُخرى للتعامُل والاستنطاق حتى في العبادات. وبهذا المعنى فإنّ كثيراً مما أُثبت في النصّ العثماني أو حُذف بطريقةٍ ما ربما تكون له علاقةٌ بهذا التخالُف والتفاوت أو التناسُق بين الشفوي والكتابي.

3. فهم أفضل للبيئات التي ظهر فيها القرآن من حيث الثقافة الدينية والثقافة العامة الشفوية والمكتوبة، والفرق الدينية الموجودة ـ وبشكلٍ عام: علائق القرآن بمحيطه العربي القريب، والمحيط الأوسع، وعلى مديات متطاولة تصل إلى قرنين من الزمان إلى الوراء، وتتناول الأفكار والأحداث.

4. فهم أفضل لعلائق القرآن أو لغته باللغة العربية في القرنين السادس والسابع. والمعنى الحقيقي للسان قريش، والألسنة واللهجات الأُخرى. وعلاقات النصّ القرآني اللغوية واللسانية بالشعر العربي وعلاقة الشعر به. وما معنى اختيار هذه الصيغة للدعوة القرآنية، والتي فتنت العرب الأوائل بعد ترددٍ طفيف. ثم الفهم الحقيقي لعلائق اللغة القرآنية بالعلوم اللغوية واللسانية العربية.

5. معرفةٌ أفضل بشخصية النبي صلواتُ الله وسلامُهُ عليه، وطرائق فهمه لمحيطه ولدعوته ولثقافته ولعلاقاته بأصحابه وبالجماعة الأُولى التي أنشأها وراقب وأشرف على عمليات تحولها إلى مجتمع. وكما في كلّ نقطةٍ من هذه النقاط؛ فإنّ هؤلاء لا يعتبرون نصّ المصحف العثماني كافياً للكشف الجليّ عن شخصية النبي، بسبب عمليات التحرير المتلاحقة، والمراجعات المعدِّلة التي دخلت عليه، وتركت في الوقت نفسه آثاراً ملموسةً في الأدبيات الإسلامية الشاسعة، وأهمها كتب التفسير وكتب القراءات. أمّا سرديات السيرة النبوية فإنّ هؤلاء يعتبرونها متأخرة التأليف، وتمثّل رؤية الجماعة لنبيِّها أكثر مما تمثّل شخصية النبي نفسه في بيئاته الأولى قبل البعثة وبعدها.

6. وأخيراً الطموح إلى فهمٍ أفضل لطبائع الجماعة الإسلامية الأولى فيما بين زمن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقيام الدولة الأُموية. فهناك الصورة التقليدية في المصادر التاريخية. وهناك الصورة أو الصُوَر التخريبية التي ظهرت في أعمال كُتّاب التاريخ الآخر في العقود الماضية. ولابد من تأمُّل أشمل بالتحليل والتركيب، وبذل الجهد في الوصول إلى وثائق غير معروفة من قبل، ومباشِرة أو غير مباشرة.

إنّ الذي ينبغي تقريره هنا أنّ هذه الطموحات الاستقصائية لا غبار عليها، بل ويمكن أن تكون مفيدةً إذا حقّقت بعضَ هذه الطموحات. إنما المشكلةُ فيها بالنسبة لدراسات القرآن أمران: قيامُها على مقولاتٍ مضمرةٍ؛ أهمُّها افتراض وجود زمنٍ أو مراحل تمت فيها عملياتُ تحرير ومراجعة أو مراجعات أوْصَلَت النصَّ أو وصلت فيها النصوص إلى النصّ القانوني أو المقدَّس. وهذا قد يعني أنّ المصحف الذي بين أيدينا هو النص الثالث، أو الرابع، أو الخامس أو بقايا ونثائر مؤلَّفة من نصوصٍ سابقة! والأمر الثاني الحديث كلَّ الوقت عن النصّ وبنيته، رغم أنّ المقولة الأُولى تضربُ مسألة البنية، و تجعلُ من الصعوبة بمكان الحديث عن نصٍ أيّاً يكُن نوعه. ونحن نعلم أنّ النصَّ الشفويَّ بالذات (مثل الشعر) لا يسمحُ بقيام بنية، بل يسمح بقيام نمط. وما أتحدث عنه أمرٌ شديد التعقيد لا تسمح هذه العجالة بقراءة أو مناقشة تفاصيله.

لقد تحدثت دائماً في هذه المطالعة ليس من منطلق أنّ المتحدث مسلمٌ أو مؤمنٌ بقدسية وتنزيل النصّ القرآني؛ بل من منطلق إمكان الإفادة من هذه المقاربة أو تلك في عمليات الفهم والإفهام. والبنيويةُ مذهبٌ شكلاني في مقاربة النصوص، لكنه أيضاً مذهب فكري وفلسفي يحيل على آليات وأوليات تعتبر الشكل المرجع النهائي فتصبح “المعرفة” غير ممكنة إلا بالتحايُل. وعلى مستوى الفكر فإنّ البنيوية كانت شراً علينا في الثقافة العربية، وقد استخدمها مفكرونا الكبار في العقود الماضية لفرض قطيعة وهمية مع موروثنا الحضاري والثقافي نصوصاً وغير نصوص([11]).

لا يصحُّ بالطبع ولا يستقيم الإعراضُ عن هذا الدرس أو ذاك بسبب التخوُّف من العواقب، أو لأنّ فلاناً أو علاّناً ممن يمارسون هذا المنهج خبيثٌ أو سيّء الطوية أو يملك أهدافاً مضمرة. إنما من جهةٍ ثانيةٍ، وكما سبق القول، لدينا تجربةٌ سلبيةٌ نحن الدارسين العرب في المرحلة الماضية، مع نهجَي التأصيل، وقراءة البُنى وتفكيكها. لقد أعجزنا الأمران عن محاولة المُضيّ في كتابة تاريخٍ ثقافيٍّ طوال أكثر من أربعة عقود. فلا بأس بالمُضيّ مع المدوَّنة أو”الكوربوس كورانيكوم”، لكنها من وجهة نظري ليست المقاربةَ الواعدةَ كما تبدو من الوصف العام إن لم تقترن بثلاثة أمور لازمة الاعتبار:

1. الخروج تماماً من التأصيليات شكلاً وموضوعاً، والخروج في الوقت نفسِه من لوازم البنيويات، أو يظلّ الصراع قائماً بداخل المنهج بين الأصول القريبة والبعيدة التي تُلغي البنية، والبنية التي تتصارع مع الأصول من جهة، ولا تسمح إلاّ بنوعٍ معيَّنٍ من المعرفة ينبغي أن يبقى شكلياً بحتاً. فالإحالة دائماً على أصلٍ أو أصول مفترضة نصية أو من نتائج حقبة تُلغي البنية. والإصرار في الوقت نفسه على أنّ القرآن نصٌّ قائمٌ ذو بنية لا ينفي الأصل المفترض وحسْب؛ بل إنه يشوّش أيضاً على إمكانيات القراءة الداخلية للنصّ ولو ظلت شكلية. إنّ هذا الواقع، أو هذا التوتُّر ناجم عن اصطناع إشكالية ثم محاولة حلّها. ونحن نعرف أنّ هذه الأدبيات التأصيلية والبنيوية والتفكيكية هي بطبيعتها وسياقاتها أدبياتٌ جدالية، إن صلحت للهدم أو الوصول إلى حالة “تكافؤ الأدلة” فهي لا تصلُحُ لإثبات أو اجتراح جديد على أساس الموجود وليس المفترض.

2. البقاء على مسافة فعلية وليس اعتبارية وحسْب من نصوص العهدين القديم والجديد، ومن اعتبار ما يحصل في الدراسات حولهما مقياساً لما ينبغي أن يكون قد حصل في الإسلام الأول. وذلك للاختلاف الشاسع في ظهور النصّ الديني، وفي مواقعه في قلب كل دين، وفي التجربة التاريخية والدينية القديمة والمعاصرة. لقد استُخدمت العلوم البيبلية ودراسات نقد النص في تطبيقها على القرآن من أجل إلغاء الدين الإسلامي والقرآن. وهي تُستخدَمُ اليوم من أجل إثبات التشابُه، والإفادة بالتالي من نتائج تلك الدراسات في قراءة التجربة الإسلامية الأُولى. وهذا هدفٌ مشروعٌ وبخاصةٍ أنّ القرآن يعتبر نفسه استمراراً للديانات الكتابية. إنما ليس من الضروري، ولا من الصحيح أن يسري على القرآن ما سرى على العهدين في الظهور وفي التطور وصولاً إلى القوننة.

فهناك فروقٌ هائلةٌ في فهم الوحي وعلاقته بالتنزيل، وفي علائق القرآن بالكتاب، وعلائق النبي بالقرآن وبالكتاب معاً. وهناك فروق بارزة في التجربة التاريخية. وهناك بالإضافة لذلك عقبتان بحثيتان تحولان دون الخروج من إسار البيبليات: قرن كامل من الدراسات والبحوث التي تتخذ صبغةً علميةً، وبعضها يتعلق بنقد النصّ، وفلسفة الدين، والوظائف الشعائرية والرمزية للنصّ المقدَّس. والانصراف الهائل في العقود الأخيرة لاجتراح إشكالياتٍ وقطائع تاريخية ومعرفية لها صِلةٌ قويةٌ بسوء علائق المسلمين بالعالم المعاصر. إنّ هذه الانطباعات السلبية المتكوِّنة، دفعت دارسةً صلبة العزيمة وشاسعة المعرفة مثل أنجليكا نويفرت للقول إنه مع الأسف ما عاد يمكن تجاهُل محاولة “وانسبورو” وأمثاله رغم خَطَلِها الظاهر([12]). على كل حال، إن لم يكن الخروج من مقياسية العهدين ودراساتهما ممكناً، فلا بُدَّ أنه ممكنٌ علمياً اتّخاذُ مسافةٍ ضروريةٍ دعا إليها قبل قُرابة القرن K.H. Becker عندما قال بإنشاء “علم الإسلام”.

3. إعادة النظر في المنهج نفسه، أي المنهج البنيوي والشكلاني المقارِن ذي الاهتمامات الفيلولوجية واللسانية. هذا المنهج عاد للاعتصام بالهرمونوتيك، إنما بالمعنى الضيّق الذي يبلغ حدوده القصوى في “الكوربوس كورانيكوم”. وهذا تذريرٌ لا حدودَ له إن لم نخرج من التفسير إلى التأويل. ولستُ أملكُ بالطبع، كما لا يملك غيري بدائل جاهزةً أو مؤكَّدة. بيد أنّ اطّلاعاتي واستشرافي لا يبعثان على التفاؤل بإمكان الخروج من الضبابية والمأزقية بالمنهج الشكلاني الفيلولوجي واللساني، بصيغته الجديدة.

إنّ الجهد المبذول في المدوَّنة أو الكوربوس كبيرٌ وهائل. لكنّ فوائده ضئيلة ربما باستثناء الإسهام في المعجم التاريخي للغة العربية!

ثالثاً

علّمتْنا التجربة التاريخية العربية ـ الإسلامية، أنّ مراحل التجديد الكبرى في الدين والثقافة الدينية، كانت تقترن بظهور تفاسير جديدة للقرآن الكريم، ومداخل أو مقدمات لقراءة القرآن تجمع إلى القديم محاولاتٍ للتفكير والقراءة بطرائق جديدة. وهذا الأمر حاوله الشيخ محمد عبده المفتي المصري المشهور، والذي اعتنق أفكاراً إصلاحية. لقد سيطرت على عبده فكرة السُنَن والانتظام. فقد أراد إقامة انتظامٍ أو إظهارَ انتظامٍ للعالم المتغير على قواعد وأصول قررها القرآن. بينما أراد الشيخ طنطاوي جوهري في العصر ذاته إظهارَ الأمر نفسِه لكنْ بالتأكيد ليس على سُنَن الاجتماع الإنساني؛ بل على أنّ الثورة العلمية الحديثة ونظرياتها يمكن أن يعترف بها القرآن لأنّ بذورها كامنةٌ فيه.

أمّا جمال الدين القاسمي فقد طمح في تفسيره إلى إظهار تلاؤم الإصلاحية السلفية مع نصّ القرآن وروحه. ورمى الشيخ الطاهر بن عاشور أخيراً في “التحرير والتنوير” إلى إظهار القرآن باعتباره نصاً ثورياً يطلق طاقات الإنسان الإبداعية من قيود التقليد. وهذه التفاسير الخمسة مثلت حقبةً امتدت لحوالي القرن من الزمان، وعُرفت بالحقبة الإصلاحية. وإذا كان الفقه الإسلامي قد شهد فترةً نهضوية قرآنية أيضاً من حيث الانطلاق للتجديد استناداً إلى المقاصد الكبرى للقرآن والشريعة؛ فإنّ القصور والمدرسية داخلا علوم القرآن أو مداخِلَهُ وعلم أُصول الفقه. بيد أنّ هذه النزعة التواصُلية التي ظهرت في تفاسير القرآن، ظهرت أيضاً في الدراسات الأدبية، وهي التي وقعت في أساس فكرة الشيخ أمين الخولي لقراءة القرآن قراءةً أدبيةً أو باعتباره نصاً أدبياً في الخطاب والدعوة وأساليب البيان والتأثير.

بيد أنّ التفسير البياني الذي حاولته الدكتورة عائشة عبد الرحمن، زوجة الشيخ الخولي وحاوله تلامذةٌ آخرون له، ما لبث أن توقّف، على وقع صعود الإحيائية الإسلامية التي صار تفسير سيد قطب: “في ظلال القرآن” سِفْرَها الأول.

فالقرآن بحسب قطب ما أتى لتنوير العالم أو إرشاده إلى سُبُل تحقيق مقتضيات إنسانية الإنسان؛ بل أتى لإيضاح نهج الله في حُكم العالم لأنّ الله سبحانه له الخَلْقُ والأمر:  ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: 46). وقد ظلّت هناك محاولاتٌ حثيثةٌ للتقدم في تتبُّع القراءات ولُغويات القرآن، وعلائق القرآن بالنبي. وعمل آخرون كثيرون على الإفادة من اللسانيات في فهم القراءات، وازدهرت في تونس والمغرب ومصر المقاربات من هذا القَبيل. بيد أنّ الروح الشعائريَّ التقديسيَّ كبح كلَّ محاولةٍ تُشعر بتفكيرٍ جديدٍ في فهم القرآن ذاته، فضلاً عن التفكير في تاريخيته أو تزمين أحكامه. إنّ الطريف أنّ عائشة عبد الرحمن وهي من رواد القراءة الأدبية أو البيانية للقرآن كانت هي التي أطلقت أواخر الستينات الصرخة أنّ الدين في خطر، وأنّ القرآن في خطر.

وفي الوقت ذاته الذي كان فيه الصقيع الشعائري يسدُّ المنافذ تحت شعار العصمة المحيطة بكل شيء؛ كان البنيويون اليساريون العرب، وأهل التفاوتات والقطائع يفرضون من جانبهم قطيعةً معرفيةً وتاريخيةً مع كلّ الموروث الديني والثقافي ومن ضمنـه القرآن. وكانت هناك الصرخة المُضادّة لصرخة عائشة عبد الرحمن: أنّ الموروث الثقافي وبخاصةٍ المقدس منه هو خطرٌ على العرب في حاضرهم ومستقبلهم! وإذا كنا قد شهدْنا على مدى العقود الثلاثة الماضية أحداثَ عُنْفٍ ثقافيٍّ ومادي، وعنفٍ مُضادّ باسم الدين؛ فذلك لأنّ الشعائريات القاطعة سادت لدى سائر الأطراف، وحتى الكتابة في أدبيات القرآن وتاريخيته كانت جزءًا من تلك الجداليات، التي ما كانت غير تعبيرٍ عن الصراع على السلطة في المجتمع والثقافة والدولة.

لقد حفلت السنواتُ الأخيرةُ في المخاطبات مع الرابطة المحمَّدية للعلماء، بالحديث عن هذا النقيض الظاهر: حميمية العلائق بين الجماعة والقرآن، والغُربة عن القرآن على مستوى النُخَب الدارسة التي تنغمس في أحد التوجهين السائدَين: البنيوي القاطع وغير الساعي للفهم وإعادة القراءة وفتح الآفاق، والشعائري المُغلق المنهمك في الدوران في الحلقة المفرغة والمفزعة.

أين أُنْسُ القرآن، وأين سكينته، وكيف تحطمت تقاليد القراءة والتفسير بدون بدائل، هل هي غُربةُ القرآن كما يقول خصومُه، أم هي الغُربةُ عنه؟!

عندما بدأت مع الصديق أحمد عبّادي والصديق عبد الله ولد أباه، التفكير في مشروع التأويل مؤتمراً ومجلة، كنّا معجَبين بكتاب Northrop Frye, The Great Code وبأعمال بول ريكور وبخاصةٍ الزمان والسرد، وأُطروحة التقليدTradition لدى Gadamer، ومداخل “إيزوتسو” المفاهيمية لتعقُّل عالم القرآن، واستبصارات الشاهد البوشيخي في هذا المجال. فالمطلوب الخروج من الثوران التخريبي والتعطيلي باسم القراءة العلمية للقرآن. ومن الانسدادات الشعائرية باسم صَون القرآن وحمايته.

يأتي هذا المؤتمر الفريدُ من نوعه إذن تأسيساً لمشروعٍ كبير. وسنستمع إلى عروضٍ عن مشروعنا للتأويل، كما عن مشروعاتٍ أُخرى تتصل بالقرآن، وبالنصّ الديني بشكلٍ عام. ويحتاج الأمر إلى زمنٍ وعملٍ طويلين، ومنا نحن العرب والمسلمين بالذات، لأنّ القرآن يخاطبُنا أفراداً وجماعات، كما يخاطب بني الإنسان بشكلٍ عام: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 106)، ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف: 43). نحتاج نحن وشباب دارسينا لتعلُّمٍ كثيرٍ وكبيرٍ في ثلاثة اتجاهات: اتجاه تجربة أمتنا التاريخية في قراءة القرآن، واتجاه تجارب الأمم والديانات الأُخرى في قراءة نصوصها، واتجاه الإبستمولوجيين والتأويليين ومفكري مذاهب “رؤية العالم”، وأهل نقد النصّ، وأهل القراءات الجديدة للنصوص الدينية من منطلقاتٍ أدبية وأُخرى تتعلق بفلسفة الدين.

نحن مصرُّون على أنّ القرآن ليس في غربة؛ بل إنّ كثيراً من دارسينا ومثقفينا هم الذين يصرون على مفارقته خلال العقود الماضية. ويكون علينا أن نخرج من الغُربتين وعليهما: الغربة عن القرآن، التي يجترحها أهل الجموحين الثقافي والشعائري، والغُربة الغربية التي تحدث عنها شهاب الدين السهروردي. والخروج من الغربتين هاتين، هو العَود الحقيقي للذات وللعالم. والعود إلى أُنْس القرآن وسكينته، أو لم يقل بول ريكور إنّ الذات تتأمَّل نفسها في المرآة التي يصبها أمامها الكتاب المقدَّس؟([13]) ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ (البقرة: 143).

الهوامش


[1]. Claude Gilliot: Une Reconstruction Critique Du Coran ou comment  en finir avec les Merveilles de la Lampe d’Aladdin; in: Results of Contemporary Research on the Qu’an, The Question of a Historico- Critical text of the Qur’an. Ed. by Manfred S. Kropp. Orient- Institut Beirut. 2007. Pp. 32-137.

وللكاتب دراساتٌ أخرى كثيرة عن القرآن باعتباره ثمرة عملٍ جماعي، في حين يذكر Bothmer بين القائلين بأنّ القرآن من صنع  “الجماعة” الإسلامية الأُولى.

[2] . Luxenberg, Die Syro-aramäische Lesart des Koran, G.Lüling: Über den Ur-Qur’an.

[3]. هناك قراءة جديدة للسردية الإسلامية الكلاسيكية بشأن جمع القرآن:

Les Traditions sur la constitution du mushaf de ‘Uthman, Viviane Comerro, Beyrouth 2012.

[4]. D.H. Hartwig, W. Homolka, M. Marx, A.Neuwirth: Im Vollen  Licht der Geschichte- Die Wissenschaft des Judentums und die Anfänge der Koranforschung; 2008, pp. 33-67.

[5]. Der Koran als Text der Spätantike Verlag der Weltreligionen, Angelika Neuwirth, Berlin 2010, p. 77-86, 96-104.

[6]. Die Entwicklung des jüdischen Christentums zum Islam, A. Schlatter, In: Evangelische Missionsmagazin, Bd. 62. 1918, 251-268.

[7]. Der Koran als Text, Neuwirth, Op. Cit, 91-96.

[8]. Secterian Milieu, Wansbrough, Oxford 1978.

.[9]  قارن برضوان السيد، نظرة في بعض جوانب الدراسات القرآنية الحديثة في الغرب؛ في: المناهج الحديثة في الدرس القرآني، تحرير: سامر رشواني، بيروت: دار مدارك ، 2011م، (ص51-69).

[10]. قارن بمقالة Claude Gilliot السالفة الذكر في الحاشية رقم: 1، ص35-44.

[11]. قارن بدراسةٍ لي عن مفكري “القطيعة” مع التراث، بعنوان: الأيديولوجي والمعرفي في تحقيقات التراث العربي وقراءاته؛ في: المعرفي والأيديولوجي في الفكر العربي المعاصر، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، تحرير: عبد الإله بلقزيز، بيروت: مركز دراسات الوحدة ، 2010م، ص135-167.

[12].  Der Koran als Text, Neuwirth, Op. Cit, p.100-103.

[13]. Essays on Biblical Interpretation, Paul Ricoeur, Philadelphia 1980, pp. 117-131.

وانظر الآن بول ريكور: الحب والعدالة، ترجمة وتقديم وتعليق: حسن الطالب، مراجعة وتقديم: جورج زيناتي، بيروت: دار الكتاب الجديد، 2013م، ص 62-63.

Science

د. رضوان السيد

 أستاذ الدراسات الإسلاميةـالجامعة اللبنانية  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق