مركز علم وعمران للدراسات والأبحاث وإحياء التراث الصحراويتراث

التحولات اللغوية في غرب الصحراء: مقاربة سوسيو تاريخية

تعاقبت على غرب الصحراء مجموعات قبلية اختلفت أصولها وترامت امتدداداتها مشكلة بذلك الملامح العامة للجغرافية البشرية بداية من الزنوج / الكور، وصولا إلى صنهاجة اللثام / لعجام ، وانتهاء بقبائل معقل / حسان . على أن هذه الجغرافية البشرية سيكون لها الوقع الكبير في ترصيص البنيان الثقافي في غرب الصحراء والذي شكلت اللغة إحدى أعمدته بمتمظهراتها الزنجية والصنهاجية والحسانية وإن بدرجات تتفاوت بتفاوت المراحل التاريخية منذ فترة ماقبل التاريخ حتى نهاية العصر الوسيط . فما أثر هذه القبائل على المجال؟ وما طبيعة الألسن التي تعاقبت عليه؟ والتأثيرات التي ألحقتها به؟

 

  القبائل الصنهاجية في غرب الصحراء:

اعتبرت الصحراء الكبرى ، بشهادة كل الدارسين ، من أقدم المناطق التي عرفت التعمير مقارنة مع صحارى أمريكا وأستراليا، وقد ثبت ذلك من خلال البقايا الأثرية التي تم العثور عليها سواء تلك الخاصة بالتواجد الزنجي من خلال أسلحة ممثلة في الأسهم(1)المستعملة في القنص، ثم أدوات الفلاحة (2)،ثم بعد ذلك اكتسحت المجموعات القبلية الصنهاجية مجال الصحراء لتزيح مع نهاية الامبراطورية الرومانية بقايا المجموعات السوداء ، وقد تم ذلك بفعل الإبل الآلة التي طوعت المنطقة(3).

وقد أطلق حسن الوزان على مجال تواجد هذه القبائل مفهوم "صحراء صنهاجة"(4) والتي جعل لها حدودا جغرافية اختزلها في "مثلث يمس رأسه سوس ويحد قاعدته خط تنبكتو- ولاتة- المحيط، ويحد المحيط جانبه الغربي، وخط سوس – تغازة- تنبكتو جانبه الشرقي"(5). ويصف حسن الوزان الظروف الطبيعية لهذه الصحراء قائلا:"… إن هذه الصحراء شديدة الجفاف وعرة، تبتدئ عند المحيط غربا وتمتد شرقا إلى ملاحات تغزة، وتنتهي شمالا في تخوم نوميديا، أي سوس عند أقا ودرعة، وتسير جنوبا حتى أرض السودان عند مملكتي ولاتة وتنبكتو. لا يوجد فيها ماء إلا على مسافة مائة أو مائتي ميل بالإضافة إلى أنه مالح مر في آبار عميقة جدا(6).ومن أهم القبائل التي استوطنت غرب الصحراء هي:

صنهاجة:

حمل هذا القبيل لواء تأسيس الدولة المرابطية. وقد كانت لمتونة هي النواة الأصلية لصنهاجة، وقد اتخذت من أدرار الموريتاني مهدا لها. وكانت لمتونة تجوب المناطق الممتدة من واحات جنوب المغرب الأقصى إلى بلاد الزنج(7). وكان اللمتونيون يلقبون بالملثمين نظرا لقساوة الظروف الطبيعية ممثلة في المناخ الحار والتي حتم عليهم حماية وجوههم من لهب أشعة الشمس. على أن شارل أندري جوليان يعطي تفسيرا آخر يتداخلفيه التاريخ والسوسيولوجيا وعلم النفس في علاقة بثقافة المجتمع القبلي، حيث يرجع تسميتهم بالملثمين إلى طبيعة التصورات الذهنية المبنية على ثقافة الإتقاء من شر العين(8). وكانوا لايفارقون اللثام أبدا بل كانوا يحقرون ذوي الوجوه المكشوفة ويعتبرونها مصيدة للذباب (9).

وبما أن لمتونة كانت النواة الأصلية للإمبراطورية المرابطية، فقد كانت تجوب الصحراء حتى بلاد السودان، وكان ذلك بمعية لمطة، حيث تم التمكن من مراقبة الطرق التجارية فيطعمونهم الخبز و يتحفونهم بالدقيق"(10). وعلى هذا الأساس فإن نظامهم الغذائي بني بالخصوص على مستخلصات الماشية من لحوم وألبان(11). وقد استمر هذا النظام حتى بعد قدوم عرب معقل إلى الصحراء. وقد لعبت لمتونة، إلى جانب لمطة وجزولة، دورا كبيرا في نشر الإسلام بالصحراء الأطلسية(12).

– لمـــطـــة:

ذكرت لمطة على لسان المؤلفين العرب منذ القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، ويوطنهم اليعقوبي الذي كان يكتب عام 276هـ/889م حول زويلة فزان في اتجاه أوجلة واجدابية. وهم أول من فر أمام نزوح القبائل العربية(13).

وأورد ابن خلدون أنهم إخوة لصنهاجة وأوربة وجزولة وازداجة، وهم أيضا أبناء عمومة لهوارة من جدتهم المشتركة تيسكي العرجاء. ويضيف أن البعض منهم كان يسكن بجوار صنهاجة الملثمين(14). وكان النبلاء العريقون عند كل هكار يحملون إسم "لوميت"، وهو من نفس أصل إلمتيين، الأمر الذي يبرر وجود لمطة قديما في هذه البلاد(15). ويسود الاعتقاد بأن عناصر من هذه القبيلة دخلوا فيما بعد إلى السودان حيث أطلق عليهم اسم لمطة(16). أما لمطة الغرب فقد أشار إليهم الجغرافي ابن حوقل منذ القرن الرابع هـ/ العاشر الميلادي، حيث ذكر أنهم استوطنوا وادي نون، وكانت عاصمتهم نول لمطة(17)، وقد تركوا ذكرا لهم في إقليم من أقاليم فاس أثناء تنقلاتهم مع المرابطين. وقد قتل من بقي منهم في البلاد أو انضموا إلى عرب معقل فأصبحوا يحملون لقب " تكنة بلاد واد نون"(18). وكان مجال لمطة يمتد من سوس شمالا حتى وادي درعة جنوبا(19). وكانت تحركاتهم لا تتجاوز الأطلس الكبير مجال نفوذ قبائل مصمودة(20). ويمكن الجزم بأن لمطة قد لعبت دورا رياديا في تأسيس واحدة من أكبرمدن الصحراء في العصر الوسيط، ويتعلق الأمر بمدينة نول لمطة(21)،  وكان ذلك في بداية القرن العاشر الميلادي/ الخامس الهجري(22). وقد مزجت لمطة بين جناحين قبليين الأول ذو طبيعة ترحالية والثاني مستقر، وقد اعتبرا من أقدم العناصر التي عمرت منطقة وادي نون(23) التي تعتبرمجالا حيويا لقبائل تكنة. ومع توافد المجموعات الأولى من قبائل معقل بداية من 1218م، اندمجت مع فصائل لمطة ونخص بالذكر زكن ولخص لتأخذ فيما بعد اسم التشكل القبلي الجديد الذي سيظهر في المنطقة ويتعلق الأمر بقبائل تكنة(24). وقد كانت كانت مرتفعات كير وتايرت ووالواركزيزوالمجالات المحادية لها مراقبة من طرف بعض البطون الشمالية لقبيلة لمطة(25).وتزاوج القبيلة في نمط عيشها بين حياة الترحال وما تقتضيه من ممارسة الرعي والانتجاع من جهة ومراقبة المسالك التجارية الصحراوية من جهة ثانية، وقد برزت فصائل لمطة الرحل في السيطرة على هذه الطرق وصولا إلى أدرار الموريتاني والسودان الغربي(26)،أما الفصائل المستقرة في وادي نون كانت تمارس النشاط الفلاحي والأنشطة الموازية من حرف ووصنائع نظرا للإمكانات الفلاحية والمعدنية التي تزخر بها وادي نون(27)

جزولـــــــة:

أورد حسن الوزان في تعريفه لجزولة معلومات تفيد بأن المفهوم ذو دلالات مجالية، حيث يقول في هذا الصدد:" جزولة بلاد عامرة بالسكان تتاخم غربا جبل سوس ايلدا،وشمالا الاطلس حيث تقع في سفحه تقريبا وشرقا إقليم حاحا"(28). وحسب المعلومات الواردة عند حسن الوزان، فإن سكان المنطقة يتصفون بالخشونة والفقر، لكن يملكون في المقابل المواشي الكثيرة وكميات كبيرة من الشعير(29).

وإذا كانت قبيلة جزولة تغطي باقي مناطق الأطلس الصغير والمرتفعات والسهول المتصلة بها، فإن سلطتها كانت تمتد لتشمل حواضر تمنارت وإفران وتامدولت(30).وبارتباط مع هذه المعطيات التاريخية الخاصة بجزولة، يمكن القول بأن مجموعة من القبائل بما فيها إداوسملال وإداوبعقيل وإداورسموك والقبائل المتواجدة بسوس الأدنى والأقصى تستمد نسبها من البطون الجزولية واللمطية(31).

أما عن نمط عيش السكان فهو لا يختلف عن مثيله لدى قبيلة لمطةحيث تتم المزاوجة بين بين الزراعة في مناطق الاستقرارالمتمثلة في الواحات، والترحال في المجال الصحراوي.

 

التركيبة القبلية في المنطقة بداية القرن الثالث عشر الميلادي :

إن القبائل الصنهاجية والجزولية واللمطية ستدخل بداية من القرن الثالث عشر في علاقة جديدة مع عرب معقل القادمين من الشرق. وسيطبع هذه العلاقة التنافس والصراع من جهة والتحالفات والمصاهرة من جهة ثانية مما سيكون له أثر كبير على بروز تشكيلة إثنية جديدة ستتخذ اسم " قبائل تكنة". من هنا يمكن القول أن القبائل العربية التي نزحت إلى المنطقة " قامت ووفقا للمصالح المشتركة بالتحالف مع القبائل البربرية وذلك بالزواج المختلط بين أبنائها، ومن هنا جاءت إدعاءات الأسر الصنهاجية والزناتية التي تنبني على إنتمائها للأصول القرشية أو الادريسية أو الهلالية(32). وقد  أشار إسماعيل هاميت إلى أن هذه الظاهرة ميزت إفريقيا بما فيها المجال موضوع دراستنا والمتمثل في الصحراء ومجالاتها الحيوية بما فيها وادي نون وأحوازه الشمالية والشرقية، ثم السودان الغربي حيث يقول في هذا الباب:" ويمكن أن نستخلص أن انصهار الأجناس في إفريقيا يعتبر من الأمور المعقدة بفعل وارد الدم الأسود الناتج عن دور المؤسسات الاسلامية، والذي أنتج نوعا من الاختلاط غير المنتظم بين العائلات والذي يصعب إرجاعها إلى أصولها وإثبات التسلسل الشرعي بدون اعتبار للتقاليد المحلية(33).

قادمين من ملوية شرق المغرب(34). وقد كانت ظروف دخولهم إلى المنطقة في هذا التاريخ تعود إلى ما أوردته جاك مونيي من أن حاكم سوس الموحدي ابن إيدر قام في أواخر حكم الدولة الموحدية باستدعاء عرب معقل الذين كانوا ينتجعون ملوية لمساندته ضد غرمائه من بربر جزولة(35). ويمكن ان نتساءل هل كان القرار السياسي هو المتحكم في نزوح هذه القبائل إلى وادي نون والصحراء أم يتعلق الأمر بطبيعة الحركية الاجتماعية للقبائل الرحل المرتبطة بالبحث عن  تحسين الأوضاع المعيشية بالتوسع في مجالات جديدة وغنية؟ وتساؤلنا هذا تمليه أوضاع هذه المجموعة البشرية التي لن تلعب دورا فاعلا في المنطقة على الاقل في المراحل الأولى من تواجدها لسببين رئيسيين أوردتهما جاك مونيي هما السيطرة المطلقة لبربر لمطة ولمتونة المستقرين، ثم القلة العددية للمجموعات المعقلية(36).

 

   دخول بني معقل إلى المغرب :

تشير المصادر التاريخية (37) إلى أن قبائل بني معقل تسربت إلى المغرب إبان حكم الموحدين حيث أنزلوهم في هوامش الصحراء، في حين تم إنزال قبائل أخرى في المناطق السهلية في الشمال، وقد كان ذلك في العقود الأخيرة من القرن السادس الهجري/ الثالث عشر الميلادي(38).

وما ينبغي الإشارة إليه في هذا الباب أن الإحصاءات التي أوردها إبن خلدون عن هذه القبائل لا تتجاوز مائتي(200) نفر(39).كما أن الناصري أشار إلى أن " دخولهم إلى المغرب كان مع الهلاليين في عدد قليل يقال أنهم لم يبلغوا المائتين(40). من هذا المنطلق فأفراد بني معقل دخلوا المنطقة قي ظل قبائل أخرى أكثر نفرا وهي قبائل بني هلال(41). فهل كان بنو معقل يتوفرون على خزان بشري يمكنهم من نعت أنفسهم بأنهم يشكلون قبيلة؟

إن عدد المائتي نفر لايمكن من تشكيل سوى بطن أو فخد أو فصيلة(42).إن هذا النقص البشري

يدفعنا إلى طرح جملة من التساؤلات حول أدوار هذه المجموعة في إعادة ترتيب أوراق شمال إفريقيا منذ القرنين الثاني عشر والثالث عشر، حيث اختلت الموازين الاجتماعية والاقتصادية لصالح القبائل الطارئة على حساب القبائل المحلية. يحيلنا هذا على تساؤل آخر حول مدى انطباق الأوصاف التي أطلقها ابن خلدون ـ عن وعي أو غير وعي ـ على القبائل العربية القادمة من الشرق بما فيهم بنو معقل(43)؟ لا شك أن عمليات التحالفات عبر استراتيجيات المصاهرة من جهة وعمليات الحماية من جهة أخرى قد لعبت دورا كبيرا في تقوية المعاقلة عددا وعدة خاصة في مجالات انتشارها الأولى(44). ويشير الناصري في هذا الباب إلى أن "دخولهم إلى المغرب مع الهلاليين في عدد قليل يقال أنهم يبلغوا المائتين، واعتراضهم بنو سليم فأعجزوهم وتحيزوا إلى الهلاليين منذ عهد قديم ، ونزلوا بآخر مواطنهم مما يلي ملوية ورمال تافيلالت، وجاوروا ازناتة في القفار فعفوا وكثروا في صحاري المغرب الأقصى فعمروارماله وتقلبوا في فيافيه. وكانوا هناك أحلافا لزناتة سائر أيامهم"(45). إن عمليات الانتشار هذه التي أشار إليها الناصري، نقلا عن إبن خلدون، تنم عن وجود تغيرات في موازين القوى في المغرب الأقصى تمثلت في بداية  انهيار الدولة الموحدية. وبعد توغل الزناتيين نحو المغرب، اشتدت شوكة المجموعات المعقلية " فملكوا قصور الصحراء التي اختطها زناتة بالقفر مثل قصور السوس غربا، ثم توات، ثم بودة، ثم تنمطيت، ثم واركلان، ثم تاسبيبت، ثم تيكرارين شرقا"(46). وقد استغلت المجموعات المعقلية الصراعات الدائمة بين بقايا زناتة حول المجال فأحكموا قبضتهم على هذه المناطق " ووضعوا عليها الاتاوات والضرائب وصارت لهم جباية يعتدون فيها ملكا(47). أما عن خطوط النسب السلالية للمجموعات المعقلية، فإن الناصري قد أورد أن " أن معقلا جدهم    له من الولد سجير ومحمد ، فولد سجير : عبيد الله، وثعلب، فمن عبيد الله البطن الكبير منهم، ومن ثعلب الثعالبة الذين كانوا ببسيط متيجة من نواحي الجزائر، وولد محمد : مختارا ومنصورا وجلالا وسالما وعثمانا، فولد مختار بن محمد حسان وشبانة، فمن حسان ذوي حسان البطن المذكور أهل السوس الاقصى، ومنم شبانة الشبانات جيرانهم هنالك، ومن جلال وسالم وعثمان الرقيطات بادية في ذوي حسان ينتجعون معهم، وولد منصور بن محمد حسينا وأبا الحسين وهما شقيقان، وعمران ومنبا وهما شقيقان أيضا وهما الأحلاف، ويقال لعمران العمرانية، والمنبا المنبات، ثم يقال لجميع البطون الأربعة ولد منصور بن محمد ذوي منصور، وهم إحدى بطونهم الثلاثة"(48). ويمكن إظهار هذا التسلسل النسبي بالاعتماد على شجرات النسب الآتية(49(

 انطلاقا من من المعطيات السالفة نخلص إلى أن قبائل معقل قد توسعت بفعل الانتشار المجالي باعتبار أن القبيلة كيان متحرك على مستوى الترحال وعلى مستوى التبادل الاقتصادي والرمزي، وعلى مستوى الحروب والاصطدام مع الآخرين، كما أن  توسع القبائل جاء على إثر تمطيط البنية الداخلية بفعل عمليات الزواج الداخلي والخارجي، وعبر عمليات التحالفات المتعددة المحاور(50). وقد ساهمت هذه العمليات المتراكبة في خلق شجرات أنساب متداخلة ومختلطة بين العناصر العربية الطارئة والقبائل المحلية، وهي المحصلة التي نتج عنها ظهور ادعاءات الشرف التي تبنتها الاسر الصنهاجية والزناتية التي تعيد انتمائها للأصول القرشية أو الادريسية أو الهلالية (51). وعلى هذا الأساس، خلص الأستاذ إسماعيل هاميت إلى أن "انصهار الأجناس في إفريقيا يعتبر من الامور المعقدة بفعل وارد الدم الأسود الناتج عن دور المؤسسات الإسلامية، والذي أنتج نوعا من الاختلاط غير المنتظم بين العائلات، والذي يصعب من خلاله إرجاعها إلى أصولها وإثبات التسلسل الشرعي بدون اعتبار للتقاليد المحلية"(52).وقد تميز القرن الثالث عشر بظهور الطلائع الأولى من عرب معقل في وادي نون. فمند 1218م وصل بنو معقل إلى المنطقة عبر الحدود الشمالية للصحراء وواحاتها قادمين من ملوية شرق المغرب(53). وقد كانت ظروف دخولهم إلى المنطقة في هذا التاريخ تعود إلى ما أوردته جاك مونيي من أن حاكم سوس الموحدي ابن إيدر قام في أواخر حكم الدولة الموحدية باستدعاء عرب معقل الذين كانوا ينتجعون ملوية لمساندته ضد غرمائه من بربر جزولة(54).

أما عن الفصائل المعقلية التي استقرت في وادي نون ، فقد أشارت جاك مونيي إلى أولاد مختار الذين ينحدر منهم أولاد روحة وأولاد سليم (55)، ويتحدث حسن الوزان عن فصائل أحمر التي كانت تسكن في نواحي تكاوست( لقصابي) والتي ينحدر منها أولاد عمران والمنبات وأولاد حسين. وبمقارنتنا للمعطيات الواردة نرجح ماجاء به حسن الوزان، لكون روحة وبنو سليم المنحدرين من أولاد المختار  يستوطنون مناطق بعيدة عن وادي نون خصوصا روحة. فمواطن روحة ـ حسب الوزان ـ هي الصحاري المجاورة لدادس وفركلة، أما مواطن بني سليم ففي منطقة درعة(56). وتفيد المعلومات الواردة في ديوان قبائل سوس سنة 988هـ/ 1580ـ 1581 بأن القبائل المعقلية بسوس تقدر بحوالي ثلاثين ألف أسرة من بني خليل وزرارة وأولاد أعمر والمغافرة وأولاد كنون(57).

وتشير جاك مونيي، باعتمادها على معطيات واردة عند ابن خلدون، أن الفصائل المعقلية بدأت تحكم سيطرتها على منطقة وادي نون مع نهاية القرن 13 وبداية القرن 14 حيث كان سكان بلاد نول يؤدون الضرائب لهذه القبائل العربية لضمان حمايتهم. ومع نهاية القرن 14 أصبح المجال الذي يسيطرعليه عرب ذوي حسان يمتد من درعة حتى المحيط الأطلنتي(58). وقد تمت تزكية هذه السيطرة في الاحداث التي عرفتها مدينة تكاوست (لكصابي) سنة 1499 والمتمثلة في المعاهدة الشهيرة التي عقدتها اسبانيا مع زعماء منطقة وادي نون والمسماة " معاهدة بوطاطا "(59).

   التغيرات القبلية ووقعها على التغير اللسني في غرب الصحراء:

 تمكنت القبائل الصنهاجية  من إزاحة اللسان الزنجي ذي الملامح الشفوية لتؤسس للثقافة الصنهاجية بأبعادها المختلفة سواء على المجال في بعده الجغرافي ، من خلال الطوبونيميا، أو في بعده التاريخي من خلال الحراك البشري والاقتصادي والسياسي ، أو في بعده الرمزي من خلال التمثلات والتصورات. وقد لعبت القبائل الصنهاجية بتشكيلاتها المختلفة دورا رياديا في وضع اللبنات الاساسية للتاريخ الطويل لغرب الصحراء.

وقد لعبت الحركة المرابطية منذ القرن الحاي عشر الميلادي دورا مركزيا في إعادة تشكيل المقومات الايديولوجية والاجتماعية لما سيسمى لاحقا مجتمع البيضان (المور)(60). وقد كانت الحركة هي المسؤولة عن دخول المنطقة والمجتمع الصنهاجي في الإسلام والبدايات الأولى لتثبيت اللغة العربية في المنطقة من طرف الزعماء الدينيين للحركة كعبد الله بن ياسين ويحيي بن عمر. وستبدأ المرحلة الثانية من التشكل الاجتماعي والسياسي والثقافي لمجتمع غرب الصحراء مع قدوم القبائل العربية بنو معقل إلى المنطقة وخصوصا قبائل حسان بداية من القرن الرابع عشر،  والتي ستعمل على نشر اللسان الجديد في المنطقة ويتعلق الأمر باللسان الحساني بدءا من القرن السابع عشر(61). وقد كان استقرارهم النهائي في بلاد شنقيط(62) معقل صنهاجة اللثام الذين كانت لغة التخاطب عندهم هي الصنهاجية بشقيها : " كلام آزناكة " وهي لهجة قريبة جدا من تاشلحيت و" كلام أزير" وهي لهجة تقارب تمازيغت (63). وقد أطلق مفهوم الشناقطة على كل المجموعات القبلية المنتشرة من الساقية الحمراء شمالا حتى السودان الغربي جنوبا(64).

 

منذ تأسيس الدولة المرابطية، كما أسلفنا سابقا، ازدهرت اللغة العربية وآدابها خلال القرون الماضية ازدهارا قل مثيله في غرب الصحراء، حيث أنجبت المنطقة من كبار العلماء وفطاحل الشعراءمن لا يكادون يحصون عددا(65). وقد ظهرت مسألة المزاوجة بين الحسانية والصنهاجية من خلال الحمولة الصنهاجية في اللسان الحساني حيث ظهرت إنتاجات متعددة تصب في هذا المنحى مبينة إحدى أكبر تمظهرات المثقافة في غرب الصحراء(66)، ونخص بالذكر محمد بن أحمد يورة الذي ابتكر لنفسه منهجا جديدا في الشعر يقوم على المزاوجة بين الفصحى والعامية بمستوياتها المختلفة من حسانية وصنهاجية(67). وقد كان الكتاب في الأصل ذو منحى لغوي تأصيلي، إذ أراد مؤلفه أن يبين معاني الأسماء الصنهاجية التي تطلق على الآبار في بلاده، لأن منشأ القضية يعود إلى أن كثيرا من أعلام الأماكن ـ ليس فقط في بلاد شنقيط وحدهاـ ولكن في غرب الصحراء برمتها هي من أصل صنهاجي، وقد بقيت على حالها، أو تحرفت قليلا، حتى بعد عموم التعرب، وشمول النطق باللهجة العربية الحسانية لسكان المنطقة التي كانت إلى حدود القرن الرابع عشر الميلادي تعرف سيادة اللغة الصنهاجية التي ستضمحل وستتراجع أمام سيطرة لغة القادمين الجدد( الحسانية)(68).

وفي خضم حديثه عن لغات المنطقة، وبالتحديد شنقيط يورد مكونين  لسنيين من مكونات الصنهاجية ويتعلق الأمر بلغة أزير التي لم يبق لها أثر سوى في وادان، ثم اكلام آزناكة وهو موافق للكلام الشلحي. أما اللهجة العربية السائدة يسمونها كلام حسان أو كلام العرب، وتختلف هذه اللغة باختلاف أهل البلاد المتباعدة (69).

وتشير كاترين تين الشيخ أنه مع حلول القرنين الخامس عشر و السادس عشر اختفت مظاهر اللغة الصنهاجية مع دخول بني حسان لغرب الصحراء الكبرى(70). وتعتقد تين الشيخ أن المكونات الصنهاجية لا تمثل سوى 10% من الحسانية في حين تشكل العربية 90% لأن اللغة العربية هي لغة القرآن ولغة العلم والمعرفة وقد كان للزوايا السبق في الأخد بناصية اللغة رغم أصولهم الصنهاجية وحملهم لواء نشر اللغة مند نشأة الحركة المرابطية التي كانت هي السباقة لحمل لواء تعريب ليس فقط غرب الصحراء بل بلاد السودان أيضا(71).

وقد تفاوتت الحسانية بتفاوت المجالات في غرب الصحراء وبارتباط مع الاستقرار النهائي لقبائل حسان. ففي بلاد شنقيط  ومحيطها تحدثون الحسانية القحة،أما الساقية الحمراء وواد الذهب وجنوب شرق الجزائر ( تيندوف) فيتحدثون بحسانية أقل درجة من حسانية بلاد شنقيط، أما في شمال الصحراء فإن قبائل تكنة تزاوج بين اللسانين الصنهاجي والحساني(72).

وقد لعبت مجموعة من العوامل الأخرى دورا كبيرا في توزيع الخريطة اللغوية بغرب الصحراء منها ما هو مرتبط بنمط العيش الذي يقوم في مجمله على الترحال في مجال صحراوي، كما أن التجارة لعبت دورا كبيرا في خلق حركية اجتماعية كبيرة داخل النسيج القبلي في غرب الصحراء، مما أدى إلى خلق تراكبا في الألسن وهو ما فطن له الباحث الفرنسي ألبير ليريش الذي قام بمجموعة من الأبحاث حول مجتمع البضان بين سنوات 1946 و 1958 التي أطرها المعهد الفرنسي لإفريقيا السوداء والتي همت مجتمع البسضان وتاريخهم وثقافتهم، كما وضع قاموسا لغويا خاص بالحسانية يتكون من 1765 ورقة مرقونة وقد ورثت عنه كاترين تين الشيخ هذا الاهتمام بالحسانية.   

 

عمرناجيه 

 


George hardy, le sahara,librairie alfense lemerre,Paris,1930,p99(1)

(2) C . taine –cheikh, dictionnaire hassania français,  1983,paris ,p  26     

 (3)  يرجى الرجوع إلى مداخلتنا الإبل في التاريخ العام لمجتمع غرب الصحراء.

4)(حسن الوزان، وصف افريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الاسلامي،

 الطبعة الثانية ، بيروت، 1983، ص 1480.

(5 )نفسه ،ص149

(6 )نفسه، ص148.

(7 )شارل أندري جوليان،تاريخ شمال افريقيا،ج2، تعريب محمد مزالي والبشير سلامة،

 الدار التونسية للنشر، 1985، ص 104.

(8 )شارل أندري جوليان، مرجع سابق، ص 104.

(9)المرجع نفسه، ص 104.

(10 )نفسه

(11) D.J.Meunié, Le Maroc saharien des origines a 1670, Librairie Klincksieck TomeI , 1988,p233

(12 )ناعمي مصطفى، الصحراء من خلال بلاد تكنة تاريخ العلاقات التجارية والسياسية، منشورات عكاظ، الرباط،1988 ، ص 72.

(13 )حسن الوزان، م س، هامش ص 153(المترجمين).

(14 )حسن الوزان، نفسه

(15 )نفسه

(16 )نفسه

(17) يوجد موقعها الآن في قرية أسرير شرق مدينة كلميم باب الصحراء

(18 )حسن الوزان، م س ، ص 153-154.

19 D.J.Meunié,op cit,p235.

(20 )مصطفى ناعمي م س ، ص 77.

(21 ).D.J.Meunié,op cit,p235.Armas Antonio Rumen, op cit, p 26

(22) D.J.Meunié,op cit,p 209.

(23)Ibid, p 230.

(24)Tony Hodges,Historicaldictionary of western sahara, The scarecrow press INC Metuchen, N.J London, 1982,pp 331,332.

(25 )ناعمي مصطفى، م س، ص77.

(26 )نفسه، ص 40.

(27 )D.J.Meunié,op cit, p 209.

(28 )حسن الوزان، م س، ص144، أورد المؤلف إقليم حاحا والصحيح هو درعة : أنظر المترجمين في نفس الصفحة.

(29 )نفسه، ص  .144.

(30) مصطفى ناعمي، م س ، 77.

(31) نفسه، ص 82.

Ismael Hamet, Les Kounta, RMM, 5éme année,N° 9? 1911, P 302.  (32)    

(33) Ibid   

(34) D.J.Meunié, op cit, p302

(35) Ibid.

(36 )Ibid

(37 )نذكر منها على الخصوص إبن خلدون الذي كان معاصرا ومراقبا لكثير من التحركات القبلية، للمزيد     من الاطلاع يرجى الرجوع إلى إبن خلدون ، العبر، ج 6، ص114.

(38) الناصري، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، ج 2، مطبعة دار الكتاب، الدارالبيضاء،1954،ص179

(39) إبن خلدون ، م . س ، ص 77.

(40) الناصري، م . س ، ص 178.

(41) عبد الله العروي، مجمل تاريخ المغرب، ج 11، الطبعة الأولى 1994، ص95.

(42)البطن:أولاد الجد الرابع، الفخد:أولاد الجد، الفصيلة أولاد العم، للمزيد يرجى الإطلاع على: يحي بن البراء،الفقه والمجتمع والسلطة دراسة في النظر الاجتماعي السياسي للفقيه الموريتاني شمول أهل القبلة وآصرة أبناء القبيلة، المعهد الجامعي للبحث العلمي، نواكشوط ، 1993، ص56.

(43) عن ما قاله ابن خلدون في شأن القبائل العربية، ينبغي الرجوع إلى: جرمان عياش، "نظرية ابن خلدون في العرب" دراسات في تاريخ المغرب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1986،صص33ـ43.

(44 )ناعمي مصطفى، الصحراء من خلال بلاد تكنة: تاريخ العلاقات التجارية والسياسية، منشورات عكاظ، الرباط، 1988، صص88ـ89ـ90.

(45 )الناصري، الاستقصا، ج 2، ص 178.

(46 )نفسه.

(47 )نفسه.

(48 )الناصري، م . س ، ص 170.

(49 )خطاطات النسب مقتبسة من:

Julio Carobaroja , El grupo de Cabilas Hassania del sahara occidental, in Estudios Mogrebies, Instituto de estudios africanos,cosejo superior de investigasiones cientificas, Madrid, 1975,pp 113- 114 .

كما تم الاعتماد على معلومات واردة عند محمد حسن الوزان، وصف إفريقيا،ج 1 ، محمد حجيوالأخضر محمد، الطبعة الثانية، بيروت، 1983، صص 53ـ 54ـ 55ـ 56.  و تم الاعتماد أيضا على الشيخ سيدي المختار الكنتي، أنساب بني حسان، تعليق أحمد بن أحمد سالم، مجلة الوسيط، منشورات المعهد الموريتاني للبحث العلمي، نواكشوط، عدد 5 ، 1966، ص 79.

(50) رحمة بورقية، حول القبيلة والمجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، مجلة كلية الاداب، الرباط،، 1988، ع 14، ص 37.

   ـ جاك بيرك، في مدلول القبيلة في شمال إفريقيا، الانتربلوجيا والتاريخ، ط 1، 1988، ص 14.

   ـ ليليا بن سالم، التحليل الانقسامي لمجتمعات المغرب العربي، الانتربلوجيا والتاريخ، ص 22.

)51(Ismael Hamet, Les kounta, RMM ,5ème année,n°9, 1911, p302 .

)52(Ibid.

)53(D .Jacques Menie, opcit, p 302 .

)54(Ibid

)55(D.J.Meunie, opcit, p 302.

(56 )محمد حسن الوزان، م.س ،ص 54، وقد اعتمد في جمع معطياته على الزيارة الميدانية حيث

زار المنطقة وأقام في ميدينة تكاوست سنة 1513.

(57 )محمد سالم بن لحبيب بن الحسين بن عبد الحي، جوامع المهمات في أمور الرقيبات، تحقيق

وتقديم مصطفى  ناعمي، المعهد الجامعي للبحث العلمي، الطبعة الأولى، 1992، ص 53.

)58(D.J.Meunie, opcit, p 302.

)59(D.J.Meunie, opcit, p 311.

     -De cenival,De lachapelle, possessions espagnolees sur la  cote occidentale d’Afrique, Hesperis, 1935,Tom XX, Fas1-11, p 55 – J .Caro baroja , Opcit, pp 73-80.                                                                         

(60 )المور اسم أطلقه الرومان على المغرب الأقصى والجزائر وغرب تونس 

)61(C.T .Cheikh, Lexique Français hassaniyya, p 10 .     

(62 )تعني شنقيط بلهجة أزير، إحدى مكونات اللغة الصنهاجية، عيون الخيل، للمزيد يرجى الاطلاع على  محمد بوسف مقلد، موريتانبا الحديثة أو العرب البيض في إفريقيا السوداء، دار الكتاب اللبناني،  بيروت ، الطبعة الأولى ، 1960 ، ص 129

(63 )محمد يوسف مقلد، مرجع سابق ، ص 130

(64 )نفسه ، 142.

(65) أمحمد بن أحمد يورة،إخبار الأحبار بأخبار الآبار، ترجمة بول مارتي، تحقيق أحمد ولد الحسن،             منشورات معهد الدراسات الإفريقية، جامعة محمد الخامس، 1992، ص 7.

(66 )يرجى الاطلاع على مقالنا " آليات المثاقفة في الصحراء" مجلة درعة، ع

(67) امحمد بن أحمد يورة، م . س ، ص 10 .

(68) نفسه ، ص 11.

(69 )أحمد الأمين الشنقيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، مكتبة الخانجيللطبع والنشر، القاهرة، 1984 ، ص511

)70(Catherine Taine-Cheikh, Mixité linguistique dans l’histoire de l’arabe ouest saharien, p 3 .

)71(C.T.Cheikh,Lexique Français-hassaniyya, dialecte arabe de Mauritanie, centre culturel français A. de saint Expéry Nouakchout Mauritanie, Institut Mauritanien de Recherche scientifique, p 12 .

–   C .Bataillon, Nomades et nomadismes au sahara,UNESCO , 1963,p 29.

ـ  يرجى كذلك الرجوع إلى محمد أشتاتو، استعمال الحرف العربي في كتابة لغات شعوب إفريقيا المسلمة، منشورات معهد الدراسات الإفريقية، 1992.

72 C.T.Cheikh, Dictionaire Hassaniyya Français, Paris, 1983, p XVI.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق