وحدة الإحياءدراسات وأبحاث

الاجتهاد والتجديد وأصول الفقه في فكرنا المعاصر.. الاجتهاد الجماعي نموذجا

ثمة إشكال كبير في ثقافتنا الإسلامية يتعلق بقضية المصطلحات والمفاهيم، يتجلى في كون كثير من الكتابات قد درجت في تعريفها للألفاظ على التركيز على الجانب اللغوي ثم على الجانب الاصطلاحي مع إهمال وإغفال شبه تام للمضامين الشرعية النصية المؤسسة ابتداء للمصطلح أو المفهوم.

هذا مع العلم أن الثابت الذي ينبغي أن يصاحب اللفظ في رحلته هو المضمون الشرعي لا الاصطلاح التاريخي. هذا دون التقليل من أهمية الإضافة التاريخية التي تعبر عن كسب معرفي معين لمرحلة زمنية معينة، قد يكون عمره طويلا وقد يكون قصيرا بحسب قربه أو بعده من الأصول المؤسسة للمعرفة والمنشئة للعلوم ابتداءً. وقد أدى هذا الأمر إلى انسحاب تدريجي للمعاني والدلالات الشرعية لفائدة الاصطلاحات المدرسية والمذهبية التاريخية، أو الاصطلاحات الوافدة، بالشكل، وهنا مكمن الخطر، الذي غيّر وجه الثقافة الإسلامية جملة وجعلها تستمد من التاريخ أكثر من استمدادها من الوحي. الأمر الذي يستدعي وبإلحاح خوض معارك تحريرية على جبهة الذات من موروث التقاليد الراكدة التي حجبت هذه المصطلحات والمفاهيم عن الاستهداء بنور الوحي، والتي ضيقت من طبيعتها الكونية والإنسانية ومن طابعها الانفتاحي المستوعب، وكذلك على جبهة التقليد والاستلاب للمفاهيم الوافدة التي تغزو فضاءنا الفكري من غير قدرة على التكييف أو الملاءمة مع الذات.

والاجتهاد والتجديد مفهومان أصيلان في ثقافتنا لدلالة النصوص الشرعية المباشرة عليهما، مما كان يقتضي ويستلزم تفعيلا دائما لهما يواكب حركية ودينامية المعرفة والمجتمع. لكن للأسف خضعا قديما وحديثا لنفس منطق الاغتيال الذي ألمحنا إليه آنفا؛ إذ هيمن الجمود والتقليد وهيمنت الصورية والتجريد على التداول التاريخي للمفهومين، حتى غدا الاجتهاد الذي هو أصل فرعا والتقليد الذي هو فرع أصلا. كما أن التداول المعاصر الذي جعل من حركية الاجتهاد والتجديد مطية للتشكيك في كل قديم وأصيل، ومعبرا للتمكين لكل وافد ودخيل قد أفسد أكثر مما أصلح فلا هو تحقق بشرط المعاصرة ولا هو حافظ على الأصالة في صورتها الإبداعية المجددة.     

وسنحاول هنا الحديث عن الاجتهاد ومعه التجديد في الدائرة التي تحركا فيها تاريخيا وهي دائرة أصول الفقه لاستجلاء بعض مواطن القوة والضعف في هذا العلم المنهجي التقعيدي والتقنيني الذي يعكس في جزء كبير منه العقلانية المعبرة عن خصوصية العقل المسلم، كما يعكس في أجزاء مواطن التأثر بالصورية المنطقية التي جعلته يركب آفة التجريد التي أبعدته عن واقعية وميدانية موضوعه الذي هو الفقه، محاولين في ذلك عرض ومناقشة آراء بعض العلماء والكتاب التي أثارت نقاشا معينا وهي تدعو إلى ضرورة عودة الاجتهاد لاستئناف التجديد على مستوى الفكر والعلوم والمعرفة. مقدرين للدكتور رضوان السيد جهوده الحثيثة والعميقة في إعادة بناء دلالات ومضامين بعض المفاهيم المحورية في ثقافتنا الإسلامية كالأمة والجماعة، والسلطة والحرية، والدولة والاختلاف، والتسامح… وما إليها من زاوية نظر أنثروبولوجية في أبعادها التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

إذا طرح الفكر المعاصر للبحث والنظر علاقة الاجتهاد بالنص، باعتباره المنطلق الأول للمعرفة الإسلامية في مختلف مجالاتها، والموجه أيضا بأصوله الكلية ومقاصده العامة لحركة الاجتهاد نفسها، فإنه طرح أيضا باقي الأصول أو الأدلة الشرعية، المتفق عليها أو المختلف فيها. فبغض النظر عن كون المذاهب التزمت بها كلها، أو بأغلبها، بوجه أو بآخر، فإن حصيلة الاجتهاد الفقهي والأصولي التاريخية تثبت أن تلك الأدلة قد استعملت وتدين الناس بها. وأن دائرة العمل الاجتهادي كانت تتسع كلما اتسعت رقعة الإسلام وكثر معتنقوه وتواردت عليه المشكلات والنوازل الجديدة. وكان هذا الوضع يحوج العلماء والأئمة إلى التوسع في أدلة الاستنباط ووسائله. بل إننا نجد هذا واضحا حتى في العهد النبوي في تعليمات الرسول، صلى الله عليه وسلم، لمعاذ بن جبل وهو يُعِدُّه لمواجهة الجديد الذي لم يرد في كتاب ولا في سنة لما أرسله قاضيا إلى اليمن. وكان هذا واضحا أيضا في مناهج الفتوى والعمل بين الصحابة الذين خرجوا إلى الأمصار المفتوحة، والذين لزموا المدينة، وفي نشوء  المدرستين المعروفتين، “مدرسة الرأي” و”مدرسة الأثر”..

لقد تم عمليا تجاوز منطق “حصر الأدلة” سواء في المرحلة المتقدمة، عند واضع أسس هذا العلم، الإمام الشافعي، بالتوقف عند القياس، و”إبطال” ما دونه خاصة الاستحسان؛ إذ كان أبو حنيفة قبله يأخذ بالاستحسان وبالعرف.. وكان الإمام مالك قبله ومعه، يأخذ بهما وبالمصلحة المرسلة وبسد الذرائع. أو في مرحلة متأخرة عنه نسبيا كما نجد عند الظاهرية، وخاصة ابن حزم في حصر الأدلة في ثلاثة بالتوقف عند الإجماع “إجماع الصحابة”، و”إبطال” ما دونه خاصة القياس والرأي..[1] أو عند طوائف من المتكلمين والشيعة في قبولهم هذا الدليل ورفضهم ذاك..

وعلى كل فـ “إن أصول الفقه وإن كملت في الزمن النبوي، ففروعه لم تتم بعد، ولا انتهاء لها أبدا ما دامت الحوادث. ولما كان استيعاب جميع الفروع الفقهية وأعيان الوقائع الجزئية، والإحاطة بجميع أحكامها، وإنـزال شريعة بذلك، لا يسعه ديوان ولا تطيقه حافظة الإنسان مع جواز وقوعه عقلا. لطف الله بنا فأنـزل العموميات لتستنبط منها المسائل الخاصة بالاندراج، وأنـزل المسائل الخاصة ليقاس عليها ما يماثلها في علة الحكم أو يشابهها. ووكل إلى نبيه تدريب الأمة على الاجتهاد والاستنباط، ليحصل لهم ثواب الاجتهاد الذي جعله من أفضل العبادات، ودليل كمال النفس والفكر، وتحصيل ثمرة الفهم والعقل الذي أكرم الله به الإنسان[2].” فما دامت “الوقائع في الوجود لا تنحصر” و”لا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة.. احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلابد من حدوث وقائع لا تكون منصوصا على حكمها ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد. وعند ذلك فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضا اتباع للهوى وذلك كله فساد (…)، فإذن، لابد من الاجتهاد في كل زمان؛ لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان[3].” و”باعتبار خاتمية الوحي (…) [فإن] المجموع النصي، قرآنا وحديثا، يحمل من كنوز المعاني ما لا يستنفذه، فهما جيل واحد من المسلمين، بل يمكن أن يكتشف فيه كل جيل ما لم يكتشفه الذي قبله، وذلك وجه من وجوه إعجازه، كما أن لعملية الفهم علاقة بكسب العقل البشري من العلوم والمعارف التي يكسبها من خارج دائرة النص، بل إن لها علاقة بذات الواقع الزمني في أحداثه وتفاعلاته[4].”

وقد جاءت الشريعة الإسلامية على درجة كبيرة من السعة والمرونة بحيث تركت للعقل والاجتهاد مجالا للفهم والاستنباط، ويمكن لمس ذلك في: “سعة منطقة العفو المتروكة قصدا” لاجتهاد المجتهدين “وهنا تتعدد المسالك، وتتنوع المآخذ من الفقهاء في ملء هذا الفراغ، دون أن تضيق الشريعة ذرعا بواحد منها، ما دام قد وضع في موضعه واستوفى شروطه[5].” حيث توظف أدلة التشريع فيما لا نص فيه، كالقياس والاستحسان والاستصلاح والعرف وغيره..

وفي: “اهتمام معظم النصوص بالأحكام الكلية”، و”قابلية معظم النصوص لتعدد الأفهام”، و”مراعاة الأعذار والظروف الطارئة” و”تغيير الفتوى بتغيير المكان والزمان والحال”..

ومن مظاهر المرونة في الشريعة الإسلامية أيضا بالإضافة إلى ما تقدم، تجنبا للتكرار:

  • شمول مقاصد الشريعة بما تتسع للمصالح الدنيوية بجميع مناحيها والمصالح الأخروية على السواء..[6].
  • عليل أحكام الشريعة “مما ليس تعبديا، وكذا المقادير الشرعية والكفارات وما إليها وخصوصيات الرسول”..
  •  تفصيل “المحظورات أو المحرمات”؛ لأنها قليلة نسبيا ولذلك فصلها القرآن الكريم.. وما عدا ذلك فكله مشروع، ومعنى ذلك أن الأصل إطلاق المباح..
  •  العموم المعنوي؛ أي “الأصول المعنوية” المستقرأة من المبادئ العامة ومن أدلة أحكام الفروع والجزئيات اجتهادا، و”الأصل المعنوي العام” كالأصل اللفظي العام، كلاهما حجة قاطعة في بناء الحكم عليه..[7].

فإذا كانت معظم نصوص الشريعة بهذه السعة والمرونة، فإن العمل الأصولي والفقهي في اجتهاداته التنـزيلية، وفي مدى اعتباره لعنصر الواقع “مجال التنـزيل” يختلف بحسب الظروف والأحوال، لا المتعلقة بالزمان والمكان فحسب، بل أيضا، وهذه أهم، تلك المتعلقة بمؤهلات المجتهد وقدراته الفكرية والإدراكية، ونظام الثقافة السائد. ولهذا كان من الأسباب الداعية في الفكر المعاصر إلى إعادة النظر في أصول الفقه، وبنائه البناء المستوعب لمشكلات العصر، ما يراه البعض من تخلفه عن تغطية قطاعات مهمة في “الحياة العامة”، بسبب التوقف الذي اكتنفه من جراء ما فشا في فكر الأمة من جمود وتقليد، ودورانه في فلك “الحياة الخاصة” أو “الفقه الفردي” الذي نما وتضخم على حساب “الفقه الجماعي[8].” ولم تقتصر الدعوة عند مجموعة من الباحثين على الاجتهاد في الفروع فحسب، بل الاجتهاد في دائرة الأصول “أصول الفقه” نفسها.

فـ “النصوص الشرعية في مجال الحياة العامة أقل عددا وأوسع مرونة، وهي نصوص مقاصد أقرب منها إلى نصوص الأشكال، فلا تجد في باب الإمارة ما تجده في الصلاة من أحكام كثيرة منضبطة، ولا تجد في الاقتصاد ما تجده في الطهارة أو النكاح (…) وهذا الجانب من الفقه المعني بمقاصد الحياة العامة ومصالحها قد عطل شيئا ما بسبب الظروف التي اكتنفت نشأة الفقه وتطور الحياة الإسلامية. ولا غرو، إذن، أن تكون المفهومات الأصولية التي تناسب هذا الجانب قد اعتراها الإغفال وعدم التطور أيضا. وحينما كانت حياة الإسلام شاملة وكانت الممارسات الاقتصادية والسياسية العامة للمجتمع ملتزمة بالدين نشطت قواعد الأصول التي تناسبها[9]“، “وقد أدى انحسار الطبيعة الدينية للحياة العامة في تاريخ المسلمين، إلى أن تكون الممارسات والتجارب السابقة ضئيلة كذلك، وإلى أن يكون الموروث الفقهي الذي يعالجها بمثل ذلك. ومن هنا تنشأ الحاجة الملحة للتواضع على منهج أصولي ونظام يضبط تفكيرنا الإسلامي[10].” فعلم الأصول القديم منسوب إلى البيئة الثقافية التي نشأ فيها أو تكاملت فيها أبنيته وصياغاته الأخيرة… ولذلك تلبس بمفهومات المنطق الصوري التقليدي وبأشكاله، ومصطلحاته، أدوات للوضوح والاستقامة، ومن ذلك غدا علما نظريا مجردا يصلح للتأمل، ولكنه جاء عقيما منبتا عن الواقع الخصب بالحياة، ولا يكاد يؤهل الماهر فيه لأن يولد فقها أو يمارس اجتهادا. هكذا كان مصيره في التاريخ، لم يؤذن تمام صياغته بنهضة للفقه، بل يبس الفقه وتحجر من  بعده إلا في أحوال أفلت المجتهدون فيها من المعهود الأصولي[11].”

وهذا الكلام رغم نصيب الصحة الوافر فيه، فإنه لا يحمل على إطلاقه، في إلغاء دور هذه الأصول.. فالسبب في العطالة المذكورة، لا يرجع بدرجة أكبر إلى الأصول نفسها، بقدر ما يرجع  إلى شيوع الجمود وانتشار التقليد والتعصب، وإلا ففي هذه الأصول ما يسمح بإنتاج فقهي ومعرفي متحرك إذا ما تم تفعيلها وتشغيلها واستثمارها. والفلتات أو الاستثناءات التي تحدث عنها (من المجتهدين)، إنما كانت انطلاقا من هذه الأصول وبواسطتها، تأصيلا وتطويرا لها، وبناء وتأسيسا عليها، وهو نفس ما سعى إليه الكاتب وقرره في حديثه عن بعض أدلة هذا العلم. يقول: “بدأ الإجماع إجماعا فقهيا تتداول فيه الاجتهادات حتى تستقر على وجه غالب، ثم غدا من بعد رصدا تقليديا لنقول من السلف (…). بدأ الاستحسان أصلا فقهيا واسعا (…)، ولكن الفقهاء أخيرا ضيقوه وضبطوه حتى قضوا عليه، وبدأ القياس في عهد الصحابة والتابعين قياسا حرا (…)، ولكن خشية أن يضل الهوى بهذا القياس غير المنتظم، عطل الناس ذلك القياس الفطري واستعملوا المنطق الصوري التحليلي الدقيق حتى جمدوا القياس في معادلات دقيقة عقيمة، لا تكاد تولد فقها جديدا[12]“، “…ونجد الحملة على المصلحة التي كثفت عليها شرائط القطعية والعموم حتى تعطل استعمالها (…)، وكان يمكن لمفهومها أن يتطور كثيرا لاسيما في مثل عهدنا الراهن..[13]“، “فالتوازن بين الأحكام والقطع بغير تنطع، والمرونة والسعة بغير استبهام أو تسيب، هو المنهج الأوفق الذي إن لم يُرْعَ ويراقب قد يختل حسب دورات تطور الفقه، فيميل إلى تطرف ليرتد إلى تطرف مقابل[14].”

والمطلوب اليوم، حسب باحث آخر، “هو إعادة بناء منهجية التفكير في الشريعة، انطلاقا من مقدمات جديدة و”مقاصد” معاصرة، وبعبارة أخرى: إن المطلوب اليوم، هو تجديد ينطلق لا من مجرد استئناف الاجتهاد في الفروع، بل من إعادة “تأصيل الأصول”، من إعادة بنائها[15].” ومبرر هذا عنده، “أن القواعد الأصولية التي ينبني عليها الفقه الإسلامي لحد الآن، ترجع إلى عصر التدوين، العصر العباسي الأول، وكثير منها يرجع إلى ما بعده..[16]“. والقواعد الأصولية التي وضعها الفقهاء القدامى والتي من جملتها القواعد الخاصة بالتعليل والقياس والدوران وما إلى ذلك… ليست مما نص عليه الشرع لا الكتاب ولا السنة، إنها من وضع الأصوليين، إنها قواعد للتفكير، قواعد منهجية. ولا شيء  يمنع من اعتماد قواعد منهجية أخرى إذا كان من شأنها أن تحقق الحكمة من التشريع في زمن معين بطريقة أفضل[17].” أما الاجتهاد فـ”يجب أن يكون لا في قبول هذا المبدأ أو عدم قبوله، بل في نـزع الطابع الميكانيكي عن مفهوم “الدوران”، والعمل من أجل الارتفاع بفكرة المصالح إلى مستوى المصلحة العامة الحقيقية كما تتحدد من منظور الخلقية الإسلامية. إنه بدون هذا النوع من التجديد، سيبقى كل اجتهاد في إطار القواعد الأصولية القديمة اجتهاد تقليد وليس اجتهاد تجديد، حتى ولو أتى بفتاوى جديدة[18].”

نجد أيضا الدعوة إلى إعادة تنظيم الأصول والقيم والبادئ الأولى في مرجعها الأكبر ومصدرها الأول لتنطلق منه من جديد، في مبدأ وأصل التوحيد المهيمن والشامل في ثقافتنا الإسلامية.

فـ “المشكلات التي تعترض، يتطلب حلّها الخوض لا في الفروع، بل في أمهات المبادئ التي يعتبر الاجتهاد فيها اجتهادا مطلقا. والاجتهاد المطلق اليوم في الإسلام لا قواعد له أحكم تنسيقها وتقديمها حسب ما تقتضيه المنهجيات الحديثة. فالمطلوب اليوم هو تنظير القيم الإسلامية أو البادئ الأولى؛ أي ربطها ببعضها البعض بحيث تؤلف في مجموعها هرما يتسلسل فيه الفكر بمنطق الضرورة من طبقة إلى طبقة. وهذا يتطلب تحديد المبدأ الأول في الإسلام ثم استنباط ما يحويه من مبادئ وتحديد أولوياتها وتفاضلها، بحيث يكون الهرم مقياسا لما نريد أن نقيس من مسائل العصر[19].” إنه الارتباط بمبدأ التوحيد “فنحن والسلف نعرف هويتنا بأننا “أهل التوحيد”، وقد بنى السلف حياتهم ونبني نحن حياتنا على التوحيد كأساس. أما ما فعله السلف في التاريخ فهو مثل نذكره لنتعلم منه (…) التوحيد الذي به وحده ندفع أذى المستغرب، ونقوم الاعوجاج والخطأ في اجتهادنا، وبه ننفي اجتهاد المتعلم عن حظيرة الإسلام، وبه نجره إلى داخلها إن كان لاجتهاده فائدة نرجوها[20].”

ويتساءل الكاتب: “أليس في هذا الاجتهاد الجذري خطر على الإسلام وأمته؟ أليس في العودة إلى التوحيد ثم الصعود فيه إلى حقول الحياة والفكر حقلا حقلا مزالق تؤدي بنا وبتوحيدنا إلى الهاوية..؟”، فيجيب قائلا: “الاجتهاد بالمعنى الذي اصطنعناه هو أصل الحركة الإسلامية. فالعقل والقلب اللذان ينفعلان بالتوحيد ويجعلانه المبدأ المحدِّد والمعيِّن… لا خوف عليهما. فصاحبهما قوي في إيمانه.. غني في ثروته الفكرية.. مضمون في اجتهاده وعمله.. لأن التوحيد أضمن المبادئ الضامنة وتوجيهه خير توجيه..[21]. والحق أن دعوة الكاتب إلى الانطلاق من التوحيد كأصل شامل وموجه للمعرفة عامة، ما يتحدد منها كأصول وفروع ومناهج جديدة أو قديمة تحتاج إلى تجديد، هو عودة بهذا الأصل إلى شموله الأول الذي كان له، وامتداداته في مجالات الحياة المختلفة قبل أن ينحسر وينطوي في مجال إيماني عقدي مجرد لم يسلم بدوره من تشويه وتحريف. وستكون لنا عودة بإذن الله إلى امتدادات هذا الأصل التي كان يعيها المشركون ويعلنون حربهم عليه بسببها.

ولعل التعبير الأوضح عن الفكرة، هو ما نجده عند مفكر آخر يذهب إلى أن “الاجتهاد الذي ندعو إليه لا ينبغي أن يقف عند حد الفروع الفقهية فحسب، بل ينبغي أن يتجاوزها إلى دائرة أصول الفقه نفسها، تكملة للشوط الذي بدأه الإمام الشاطبي في محاولته للوصول إلى أصول قطعية، وتتمة لما قام به الإمام الشوكاني من الترجيح و”تحقيق الحق من علم الأصول” على حد تعبيره. ولا ريب أن كثيرا من مسائل الأصول لم يرتفع فيها الخلاف، فهي في حاجة  إلى التمحيص والموازنة والترجيح،  وبعضها يحتاج إلى مزيد من التوضيح والتأكيد، وبعض آخر يحتاج إلى التفصيل والتطبيق..[22].”

إن إشكالا آخر مهما يثار بوجه هذه المسألة، ينطلق أساسا مما ذهب إليه الإمام الشاطبي بخصوص قطعية “أصول الفقه”. والواقع أنه يمكن التمييز في كلام الشاطبي حول “أصول الفقه” والمراد بها، بين مستويين. مستوى “أصول الأدلة” أو “قواعد الدين الكلية والأصلية” القطعية باتفاق. ومستوى، مسائل “أصول الفقهالتي رام بناءها أيضا على القطع، و كان هذا محل النـزاع بينه و بين من خالفه.

فبخصوص المستوى الأول يقول: “إن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية، والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي (…) [فـ] الظن لا يقبل في العقليات، ولا إلى كلي شرعي؛ لأن الظن إنما يتعلق بالجزئيات؛ إذ لو جاز تعلق الظن بكليات الشريعة لجاز تعلقه بأصل الشريعة لأنه الكلي الأول، وذلك غير جائز عادة. وأعني بالكليات هنا الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وأيضا لو جاز تعلق الظن بأصل الشريعة لجاز الشك بها وهي لاشك فيها..[23].”

وبخصوص المستوى الثاني يقول: “إنما الأدلة المعتبرة هنا، المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت فيه القطع. فإن للإجماع من القوة ما ليس للافتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع (…)، ومن هاهنا اعتمد الناس في الدلالة على وجوب مثل هذا على دلالة الإجماع؛ لأنه قطعي وقاطع لهذه الشواغب. وإذا تأملت كون الإجماع حجة أو خبر الواحد أو القياس حجة، فهو راجع إلى هذا المساق؛ لأن أدلتها مأخوذة من مواضع تكاد تفوق الحصر..[24]“، وهذه “الأدلة لا يلزم أن تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها كما تقدم؛ لأن ذلك كالمتعذر، ويدخل تحت هذا ضرب الاستدلال المرسل (= المصالح المرسلة) الذي اعتمده مالك و الشافعي، فإنه وإن لم يشهد للفرع أصل معين فقد شهد له أصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعيا قد يساوي الأصل المعين (…)، وكذلك أصل الاستحسان على رأي مالك، ينبني على هذا الأصل؛ لأن معناه يرجع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس[25].”

فواضح هنا التمييز بين المستوى الأول من “الأصول” القطعية الراجعة إلى الكليات الشرعية   والتي يعتبر احتمال الظن فيها ظن في أصل الشريعة نفسها؛ لأنها الكلي الأول، وبين المستوى الثاني من “أصول الفقه” الذي يصرح فيه بظنية الأدلة المستقرأة منها، وإنما أفادت القطع بتضافرها وتعاضدها، وهو ما آخذ عليه الشاطبي، من الناحية المنهجية، بعض المتأخرين من الأصوليين ممن “استشكل الاستدلال بالآيات على حدتها وبالأحاديث على انفرادها؛ إذ لم يأخذها مأخذ الاجتماع فكر عليها بالاعتراض نصا نصا واستضعف الاستدلال بها على قواعد الأصول المراد منها القطع..[26].”

وممن اعترض على الإمام الشاطبي من المتأخرين، وطرح وجهة نظره في إعادة تدوين “أصول قطعية” للتفقه في الدين، بناء على مقاصد الشريعة نفسها التي يعتبر الشاطبي إماما فيها بدون منازع، نجد الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، وهو على كل حال مقتف آثار الشاطبي في المساهمة في بناء هذا العلم، وقبل بيان وجهة نظره في الموضوع يذكر تعليقا للإمام القرافي، في شرحه للمحصول، على أبي الحسين البصري، حيث ذهب هذا الأخير إلى القول بأنه “لا يجوز التقليد في أصول الفقه، ولا يكون كل مجتهد فيه مصيبا، بل المصيب فيه واحد، والمخطئ في أصول الفقه ملوم بخلاف الفقه”، وعقبه القرافي بقوله: “إن من أصول الفقه مسائل ضعيفة المدارك، كالإجماع السكوتي ونحو ذلك، والمخالف فيها لم يخالف قاطعا بل ظنا، فلا ينبغي تأثيمه، كما أنا في أصول الدين لا نؤثم من يقول العرض يبقى زمانين، وينفي الخلاء، ونحو ذلك من المسائل التي مقصودها ليس من قواعد الدين الأصلية، وإنما هي من التتمات في ذلك العلم”. ثم قال موضحا رأيه في عمل الشاطبي وما يقترحه: “وقد حاول أبو إسحاق الشاطبي في المقدمة الأولى من كتاب الموافقات الاستدلال على كون أصول الفقه قطعية، فلم يأت بطائل. وأنا أرى سبب اختلاف الأصوليين في تقييد الأدلة بالقواطع، هو الحيرة بين ما ألفوه من أدلة الأحكام، وبين ما راموا أن يصلوا إليه من جعل أصول الفقه قطعية كأصول الدين السمعية، فهم قد أقدموا على جعلها قطعية، فلما دونوها وجمعوها، ألفوا القطعي فيها نادرا ندرة كادت تذهب باعتباره في عداد مسائل علم الأصول، كيف وفي معظم أصول الفقه اختلاف بين علمائه. فنحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين، ونعيرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلبت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة. ونترك علم أصول الفقه على حاله نستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية. ونعمد إلى ما هو من مسائل أصول الفقه غير منـزو تحت سرادق مقصدنا هذا من تدوين مقاصد الشريعة، فنجعل منه مبادئ لهذا العلم الجليل علم مقاصد الشريعة. فينبغي أن نقول أصول الفقه يجب أن تكون قطعية؛ أي من حق العلماء ألا يدونوا في أصول الفقه إلا ما هو قطعي، إما بالضرورة أو بالنظر القوي. وهذه مسألة لم تزل معترك الأنظار[27].”

فهاهنا مع ابن عاشور يصبح التمييز لا بين “أصول أدلة” و”أصول فقه”، بل بين “علم مقاصد الشريعة” المستخلص من مسائل أصول الفقه نفسها، وزبدة ما يمكن أن تتمخض عنه هذه الأصول، فتكون تلك المقاصد بمثابة القطع والكل لما سواها، وخاصة ما اعتبره الشاطبي مقاصد أصلية، أو كلية أو أولى..[28]، وبين “أصول فقه” تستمد منها طرق تركيب الأدلة الفقهية.. وبناء علم المقاصد، استئنافا لما ابتدأه الشاطبي، هو في حد ذاته أكبر إسهام في خدمة أصول الفقه نفسها، بتوسيع أفقها ومجال عملها. وهذا ما عبر عنه دارس آخر للشاطبي بقوله: “فالنظرة الشمولية المنسجمة للشريعة وأحكامها لا تتأتى إلا لمن خبروا المقاصد وأحكموا الكليات، ثم نظروا في الأحكام من خلال ذلك (…) فالمقاصد ليست فحسب أداة لإنضاج الاجتهاد وتقويمه، ولكنها أيضا، أداة لتوسيعه وتمكينه من استيعاب الحياة بكل تقلباتها وتشعباتها (…) فالنصوص إذا أخذت بظاهرها وحرفيتها فقط، ضاق نطاقها وقل عطاؤها، وإذا أخذت بعللها ومقاصدها كانت معينا لا ينضب، فينفتح باب القياس، وينفسح باب الاستصلاح، وتجري الأحكام مجراها الطبيعي في تحقيق مقاصد الشارع بجلب المصالح ودرء المفاسد[29].”

وسنأخذ نموذجا من أدلة أو أصول الفقه، لنقف على جوانب من حركة الاجتهاد “التأصيلي” و”التجديدي” فيه، في فكرنا القديم والمعاصر على حد سواء. وليكن أول هذه الأصول بعد الكتاب والسنة، أصل أو دليل “الإجماع. ومبرر اختياره لحيثيتين: أولاهما: أنه مجمع عليه عند جمهور علماء الأمة و فقهائها إلا من شذ من المتكلمين كالنظام وبعض الشيعة. فضلا عن كونه أقوى الأدلة التالية له في الاعتبار. ثانيتهما: مسيس الحاجة إليه في فكرنا الراهن، الذي يعاني من تمزق وحدته الفكرية والسياسية.. لدعم محاولات وجهود اللملمة هنا وهناك، خاصة وأنه ينطوي على إحياء معاني ووسائل عمل أخرى تنطلق من مفهوم الأمة كعامل توحيد ونهوض في عملية البناء الفكري المعاصرة.

نموذج الاجتهاد الجماعي

أما فيما يتعلق بالاجتهاد الجماعي فهو ضرب من أضرب لزوم جماعة المسلمين، وتعبير عن وحدة الأمة الفكرية والثقافية، والسياسية والاجتماعية.. كما أنه رمز أيضا إلى قوتها وهيبتها. والتجمعات أو “الاجتماعات” المعتبرة الآن في المنتظم الدولي هي تلك التي تكون فيها تمثيلية أكبر عدد من الدول ذات المصالح المشتركة أو “المبادئ الموحدة”، والتي يكون لها طبعا نفوذ وتأثير وإلزام، وتخرج عن نطاق الشكلية والصورية في معالجة القضايا واتخاذ القرارات. ولهذا نجد الغرب الآن أشد ما يكون حرصا على عدم قيام أية وحدة بين الأقطار التابعة له، أو الساعية إلى التحرر من هيمنته وخاصة البلدان الإسلامية. وهو ما يفسر أيضا منطق التجزئة والتقسيم منذ المد الاستعماري الأول اتجاه هذه البلدان. والذي ما يزال مستمرا حتى داخل البلد الواحد بإعادة تقسيمه وتجزيئه إلى أطراف. أو بعبارة الكاتب منير شفيق، تنفيذ مقررات سايكس بيكو رقم (2) هذه المرة؛ أي “تجزئة داخل كل جزء.. حتى تصبح عملية الإجهاض والإقعاد والتكبيل نابعة من الداخل[30].”

والمتتبع للساحة الفكرية المعاصرة، لا يكاد يجد خلافا حول ضرورة تنظيم واعتماد “الاجتهاد الجماعي” في الأمة من حيث المبدأ أو التصور والقناعة. وقد يجد خلافا حول شكل العمل و أسلوبه، والعلاقة بمراكز الحكم والتنفيذ، والأطراف المشاركة.. وهذه مقتطفات نصية تعكس هذا الاهتمام والقناعة السائدة فيما يشبه “إجماعا” عند الباحثين والمهتمين. فـ “ينبغي أن يكون الاجتهاد في عصرنا اجتهادا جماعيا، في صورة مجمع علمي يضم الكفايات الفقهية العالية، ويصدر أحكامه في شجاعة وحرية بعيدا عن كل الضغوط والمؤثرات الاجتماعية والسياسية..[31]“، و”انتقال حق الاجتهاد من أفراد يمثلون المذاهب إلى هيئة تشريعية إسلامية هذا الشكل الوحيد الذي يمكن أن يتخذه الإجماع في الأزمنة الحديثة، فإن هذا الانتقال يكفل للمناقشات التشريعية الإفادة من آراء قوم من غير رجال الدين، ممن يكون لهم بصر نافذ في شؤون الحياة، وبهذه الطريقة وحدها يتسنى لنا أن نبعث القوة والنشاط فيما خيم على نظمنا التشريعية من سبات ونسير بها في طريق التطور..[32]. و”الحق إن الإجماع عبارة عن اتفاق هيئة شورى يعقد لها الخليفة ليبين وجه النظر في مسألة ما، فإذا اتفقت كلها على حكم شرعي وقع الإجماع ووجب اتباعه في العمل، وإن جاز لمن لم يحضر من أهل الاجتهاد أن يبدي رأيا مخالفا، ولكن العمل يجب أن يقع من طرف المسؤولين بما اتفقت عليه الهيئة..[33]، “ففي.. المجتمع من عواصم التوحيد والمناهج الجماعية للقرار ما يضمن أن الخلاف الفقهي مهما يكن، لا يؤدي إلى تفرق عملي في غاية الأمر، وتعود تلك المناهج الموحدة إلى مبدأ الشورى الذي يجمع أطراف الخلاف، ومبدأ الإجماع الذي يمثل سلطان جماعة المسلمين، والذي يحسم الأمر بعد أن تجري دورة الشورى فيعمد إلى أحد وجوه الرأي في المسألة فيعتمده؛ إذ يجتمع عليه السواد الأعظم من المسلمين، ويصبح صادرا عن إرادة الجماعة، وحكما لازما ينـزل عليه كل المسلمين ويسلمون له في مجال التنفيذ ولو اختلفوا على صحته النسبية..[34]. وفي تقرير عن الملتقى السابع عشر للفكر الإسلامي بالجزائر والمتعلق بالاجتهاد (1403ﻫ/1983م) كان من أهم الأفكار التي تضمنتها البيانات الصادرة عن لجنه: دعم العمل الجماعي والمؤسسي للاجتهاد، بدل الفردي الذي يبقى عرضة للضغوط والمزالق..[35] ويلخص الشيخ محمد الغزالي الأسباب التي تقتضي ممارسة الاجتهاد الجماعي في النقاط التالية:

  • أنه لم يبق بين المسلمين أناس بالمستوى الرفيع من العلم والمعرفة والأخلاق والورع بحيث يقبل عامة الناس على فتاواهم..
  • أن المسلمين متفرقون مشتتون إلى (47) دولة، والاجتهاد الفردي لا يؤدي إلا إلى مزيد من التفرق والتشتت..
  • تدخل الحكومات في كافة شؤون المجتمع، يحول دون ممارسة الاجتهاد الفردي.. واتحاد الآراء واجتماع الأفكار بين العلماء من مختلف الأقطار يعطيها مكانة لا ينتزعها حاكم مستبد ولا سلطان جائر..

و”يجب أن يكون الاجتهاد الجماعي حرا ومستقلا عن الحكومات والإرادات الرسمية[36].”

فمن القضايا التي تطرحها هذه النصوص -وهي عينة محدودة للتمثيل- قضايا تبدو في ظاهرها متقابلة، وهي عند التحقيق ليست كذلك، كالتقابل مثلا بين كون الحاكم هو الذي ينظم الاجتهاد الجماعي وينفذ مقرراته، وبين كون هذه الهيئة ينبغي أن تعمل في منأى عن أي ضغط أو توجيه  سياسي. وكالتقابل بين كون أهل الاجتهاد من “الكفايات الفقهية”، وبين مشاركة غير رجال الدين من مختلف التخصصات. والتقابل ببين كون مقررات هذا العمل ملزمة للجميع، وبين إمكانية مخالفة بعض المجتهدين الآخرين نظريا وتصوريا لهذه المقررات…

والواقع أن هذه التقابلات شكلية ولا يمكنها أن تكون عوائق حقيقية في سبيل هذا العمل؛ إذ يمكن الجمع فيها بين الرأيين فيعتمدان معا، فلا تعارض بين احتفاظ المجتهد برأيه الخاص وبين التزامه العملي بمقررات الجماعة، والاجتهاد الجماعي المعاصر لا يمكنه أن يؤتي ثماره المفيدة في ظل تشابك علوم ومعارف العصر إلا بتضافر التخصصات المختلفة التي يكمل بعضها بعضا، ولعل فكرة تجزيء الاجتهاد التي نص عليها الأصوليون القدامى، تجد تطبيقها العملي في صور الاجتهاد المعاصر أكثر من القديم أمام ما تم ذكره من تشعب العلوم والمعارف، إسلامية وإنسانية وعلمية تجريبية، واختلاف التخصصات، وضرورة تداخل الجميع واشتراكه في خدمة مصالح العباد في المعاش والمعاد، ففكرة الاجتهاد المطلق الآن غدت من التعذر والصعوبة بما يجعل تحقيقها مستحيلا أو في شبه المستحيل، خاصة وأن مجالات الاجتهاد الجماعي أصبحت جديدة ربما كل الجدة تتعلق بقضايا مستحدثة في المال والاقتصاد والمعاملات والاجتماع البشري والطب والتنمية وما إلى ذلك، ويلزم لكل فرع من هذه العلوم ماهر فيه وحاذق بطرقه ومناهجه وموضوعاته.. فـ”القضايا التي تجابهنا في مجتمع المسلمين اليوم، إنما هي قضايا سياسية شرعية عامة أكثر منها قضايا خاصة، ذلك أننا نريد أن نستدرك ما ضيعنا في جوانب الدين، والذي عطل من الدين أكثره يتصل بالقضايا العامة والواجبات الكفائية[37]. ويذهب الدكتور الزحيلي إلى أن “القول بتجزيء الاجتهاد.. كان هو النافذة التي استطاع بها العلماء تخفيف غلواء سد باب الاجتهاد، نـزولا تحت عامل الضرورة أو الحاجة التي تصادف العلماء في كل زمن للإفتاء في كل الحوادث المتجددة[38].”

ومن بين “المتقابلات” المذكورة والتي تبدو أكثر وجاهة، تبعية أو استقلالية “هيئة الإجماع” لجهة حكومية معينة. وهذا في الواقع إشكال تتداخل فيه عناصر يتوقف إنجاز بعضها على البعض الآخر. فعمليا -كما سلف في بعض النصوص- لا يمكن للإجماع -إجماع الأمة- أن يتم إلا بتنظيم جهة أو جهات حاكمة من حيث توفير الظروف والإمكانات اللازمة، كما أنه لا يمكن لمقررات هذا الإجماع أن تجد سبيلها إلى التنفيذ إلا عبر هذه الجهات. فحضور هذه الجهات، إذن، أمر لا محيد عنه، لكن يبقى التمييز بين شكلين من الحضور، الحضور الإيجابي الحيادي الذي يشجع العمل ويساهم في توفير أحسن ظروفه ويلتزم بقراراته، والحضور السلبي الذي يوجه الإجماع لخدمة مآربه والحفاظ على امتيازاته ومصالحه بالالتفاف على مقرراته، أو التدخل في اختيار أعضائه وما إلى ذلك.. وهذا حال كثير من أشكال “الاجتهاد الجماعي” المعاصر في هذا المكان أو ذاك من الأمة. وليس من سبيل بين يدي علماء الأمة ومفكريها إلا اختيار وتلمس الأصلح، والأقدر على التعاون والالتزام مع هيئة الإجماع  في الأمة.

أما بخصوص الشكل التنظيمي الذي يمكن أن يتأطر داخله هذا الاجتهاد، وكذا الأطراف المشاركة فيه، فهناك وفرة من المقترحات المتداولة في فكرنا الحديث و المعاصر. فهناك من يدعو إلى   “جمع مجمع علمي يحضره أكبر العلماء بالعلوم الشرعية في كل قطر إسلامي على اختلاف مذاهب المسلمين في الأقطار، ويبسطوا بينهم حاجات الأمة ويصدروا فيها عن وفاق فيما يتعين حمل الأمة عليه، ويعلموا أقطار الأمة بمقرراتهم فلا أحسب -يقول الشيخ ابن عاشور- أحدا ينصرف عن أتباعهم..[39]، وهو نفس الإطار أو الشكل الذي نوه إليه د. القرضاوي سابقا؛ أي “مجمع علمي يضم الكفايات الفقهية العالية ويصدر أحكامه في شجاعة وحرية[40].” وهناك اقتراحات: بانتداب “علماء أكفاء”  يشكلون على مستوى العالم الإسلامي مجلسا تشريعيا، وما اتفقوا عليه يصبح “ملزما” لكل الدول التي انتدبتهم. وذهب السيد رشيد رضا إلى أن السلطة التشريعية في الحكومة الإسلامية تتشكل من:

  • أهل الحل والعقد، وهم الذين تثق بهم من العلماء والرؤساء في الجيش والمصالح العامة.. ورؤساء العمال والأحزاب.. تقرر بالإجماع لا بالأغلبية في شؤون سير الأمة.
  • هيئة ثابتة تتشكل من العلماء، عالمين بالكتاب والسنة والمصالح العامة تفصل في كل ما اختلفت فيه الأولى..[41].

ويذهب الدكتور الترابي إلى أن “فكرة الإجماع هذه يمكن أن نعبر عنها بفكرة الاستفتاء الحديث أو الإجماع غير المباشر، وهي نظام النيابة الحديثة.. مجلس برلماني ينتخبه المسلمون انتخابا حرا يكون هو الخطة الإجماعية عند المسلمين.. بالطبع لا يمكن أن يجمع المسلمون على أمر يخالف الكتاب والسنة، وللاحتياط يمكن أن نقيم خطة قضائية للرقابة عليهم، كما نقيم خطة رقابية على البرلمان تنبعث من الحفاظ على الدستور[42].”

فهذه بعض من الأشكال التنظيمية للإجماع في الفكر المعاصر[43]، وهي غنية بالمقترحات المفيدة لتنظيم الإجماع في أعلى مستوياته التمثيلية للأمة. ولعل ما ذهب إليه رشيد رضا يبدو أكثر استيعابا لفئات الأمة الموجهة. فالحق أن الإجماع إذا ما أريد له أن يكون إجماع أمة، وأن تتحقق مقاصده في وحدة الأمة الفكرية والسياسية، وأن ينـزل منازل التنفيذ، فلا مناص له من توسيع دائرته توسيعا معقولا يشمل جهات القرار المسؤولة. ولعل متسائلا يتساءل كيف يتسنى لـ”رؤساء الجيش والمصالح العامة” أن يساهموا في اجتهاد جماعي؟ فالجواب واضح وهو أن القضايا المبسوطة أمام هذه “الهيئة” أو “المجلس” هي قضايا أمة بكاملها، تتعلق بالسلم والحرب، وهنا دور رؤساء الجيش في المساهمة، وتتعلق بقضايا الأمة العامة، كأشكال التنمية ومشكلات التخلف.. في المجالات المختلفة، وهنا دور كل مسؤول في المساهمة، فالاجتهاد المتحدث عنه هنا أعم من الاجتهاد في الاصطلاح الأصولي الخاص[44]؛ إذ هذا جزء من حركة الاجتهاد العامة هذه التي تستنفر لها كل طاقات الأمة ومقوماتها. ويمكن لما أسماه الشيخ رشيد بـ”الهيئة الثابتة” من العلماء العالمين بالكتاب والسنة والمصالح العامة أن تنتدب في كل قضية من القضايا المطروحة رجالها الأكفاء في المساهمة والتنفيذ. هذا مع تعديل بسيط على المقترح وهو أن تكون هذه الهيئة ضمن الهيئة الأولى، وأن تكون لها صلاحيات الحسم والتوجيه النهائي للقرارات لتنـزيلها التنـزيل الشرعي المحقق لتدين الفرد وتدين  الجماعة.

هناك قضايا أخرى متعلقة بالأشكال التنظيمية، كتلك التي أشار إليها الدكتور الترابي بـ”الاستفتاء” أو “نظام النيابة” و”الانتخاب الحر”.. وهو نموذج أعلى ومطلوب، لكن ما أظن أن الواقع الراهن متهيئ له بعد. وكتلك التي تحدث عنها آخرون بخصوص اتخاذ القرار بالإجماع أو بالأغلبية. فإذا كان الإجماع أعلى صورة ممكنة للتعبير عن الاتفاق والوحدة، فتجدر الإشارة هنا وخاصة في المراحل التأسيسية الأولى لمثل هذا العمل، أن فكرة أو “مبدأ الأغلبية” لا يقل أهمية عن مبدأ الإجماع ذاته. إذ تتحقق به مقاصد الإجماع نفسها أو معظمها على الأقل. فـ”العمل بمبدأ الأغلبية، إنما هو في الحقيقة فرع عن العمل بمبدأ الإجماع، فإذا كان الإجماع يستمد حجيته وقوته من الكثرة التي لا مخالف لها، أو لا مخالف يعتد بخلافه. فإن هذا الأساس موجود في [الأغلبية] ولكن بدرجة أقل (…) وإذا كانت المسائل والأحكام التي تتقرر بالإجماع تعتبر صوابا لاشك فيه، وتعتبر من الأحكام القطعية التي لا تقبل النقض أو الاحتمال، لكون الإجماع معصوما، فإن الأغلبية تحقق أكبر قدر ممكن من الصواب والسلامة من الخطأ، وتمثل أقرب المراتب من مرتبة العصمة. وأقل ما يتحقق بواسطة الأغلبية هو إدراك الصواب بدرجة أكبر وأغلب مما يتحقق بواسطة الأقلية، وبدرجة أكبر وأغلب مما يتحقق بواسطة رأي الفرد[45].”

إن الاقتناع والإيمان بضرورة الاجتهاد الجماعي في الوقت الراهن لا يكفيان، وإن كانا مرحلة أولى ضرورية؛ إذ الأمر يستلزم جهدا من المعالجة الفكرية في تعبيد السبل أمامه على مستوى المذاهب الفقهية، واتجاهات الفكر المختلفة، ومراكز القرار السياسي.. وإذا كان مقصد الاجتهاد الجماعي الأكبر هو الحرص على مظاهر التدين في الأمة بتسديد الشرع لكافة أحوالها وتقلباتها ومواقفها، فإن أول الشروط اللازمة لذلك، وأعظمها أهمية، “هو فتح باب الاجتهاد من جديد للقادرين عليه، والعودة إلى ما كان عليه سلف الأمة، والتحرر من الالتزام المذهبي المتشدد فيما يتعلق بالتشريع للمجتمع كله.. [فـ] باب الاجتهاد قد فتحه النبي –صلى الله عليه وسلم-، فلا يملك أحد أن يغلقه. وليس عندنا نص من كتاب الله ولا سنة رسوله يلزمنا التقيد  بمذهب معين (متشدد)، بل نصوص الأئمة أنفسهم متواطئة على النهي عن تقليدهم فيما اجتهدوا فيه واتخاذه دينا وشرعا إلى يوم القيامة..” وحادثة الإمام مالك المشهورة مع أبي جعفر المنصور لما أراد هذا الأخير -وفي بعض الروايات الرشيد- حمل الناس على الموطأ فامتنع الإمام مالك وقال له: “إن أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-،  تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإن حملتهم على رأي واحد تكون فتنة[46]“، شاهد قوي في هذا الباب. “إن ديننا الحنيف يحارب من جبهات عدة، من اليمين واليسار والوسط، ومن العجز وأنا أدافع عنه أن ألتزم برأي واحد اشتهر هنا واستخفى هناك، يجب أن أتنقل بين آراء كل الأئمة، وأنتفع بشتى الفهوم المأنوسة والبعيدة، ولا حرج علي أن أقف في قلعة أبي حنيفة وأنا أتحدث في نظام الزكاة، أو أقف في قلعة ابن تيمية وأنا أتحدث عن نظام الطلاق، أو أن أقف في قلعة مالك وأنا أتحدث في نظام الأطعمة.. الخ. إن أولئك جميعا رجالات الإسلام وخدم رسالته ولا بأس علي أن أصطحب عقولهم فيما أواجه من قضايا، المهم عندي هو الإسلام الجامع لا الرأي المذهبي..[47]. فـ”يجب علينا الآن أن نخرج من ضيق المذاهب إلى سعة الشريعة الإسلامية السمحة السهلة، ونختار من جميع المذاهب وآراء الفقهاء ما هو الأصلح والأنسب لعصرنا هذا، وما هو الأقرب إلى روح الشريعة الإسلامية وأوفق بالعدل والقسط بين الناس[48]“، و”عندما تتعارض الأدلة وتكثر مذاهب المجتهدين، أعطي نفسي حق الاختيار في الفتوى، فقد أوثر دليلا على آخر، وقد أختار ما هو أرفق بالناس وأيسر في علاج المشكلة التي أواجهها..[49].” وهذا الذي يذهب إليه الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، من المواقف الجريئة النابعة من نفس مكلومة، تتنفس جراحات الأمة وتحمل همومها وأدواءها، أوذي في سبيله إيذاء أغلبه من متعلمين لا يهمهم إلا تصيد الألفاظ والعبارات للشغب بها على المعاني الكبيرة التي يحملها الشيخ في سبيل علاج هذه الأدواء أو بعضها، وداء الجمود والتعصب على رأسها. فما ذهب إليه بخصوص “التحرر من الالتزام المذهبي”، وهو نص القرضاوي أيضا، ليس نقدا للمذهبية بإطلاق، فالمذاهب اختيارات فقهية بأصولها وقواعدها ومقرراتها التي أرساها كبار أئمة ومجتهدي الأمة، لكنه نقد لمظاهر الجمود والحرفية التي يلزمها البعض مهما ظهر ضعفها ومرجوحيتها، بحيث لو انتدب لها مؤسس المذهب أو أحد العلماء المجتهدين فيه لما تردد في الأخذ والقول بما يناسب مقاصد الشرع ومصلحة الناس في تدينهم.وذُكر “عن بعض الشافعية أنه كان إذا جاء من يستفتيه في حنث مثلا، ينظر في واقعته، فإن كان يحنث على مذهب الشافعي، ولا يحنث على مذهب مالك، قال لفقيه مالكي أفته أنت، يقصد بذلك التسهيل على المستفتي ورعا[50]. ولو أفتاه هو بمذهب مالك لما كان في ذلك حرج عليه. وقد نقل ولي الله الدهلوي صورا حية عن تسامح الأئمة وعدم تعصبهم لمذاهبهم وأخذهم بالمذاهب الأخرى، قال: “فكان بعضهم يصلي خلف بعض مثل ما كان أبو حنيفة أو أصحابه والشافعي وغيرهم -رضي الله عنهم- يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم، وإن كانوا لا يقرأون البسملة لا سرا ولا جهرا. وصلى الرشيد إماما وقد احتجم، فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد، وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة، فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم، ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب (…) وصلى الشافعي، رحمه الله، الصبح قريبا من مقبرة أبي حنيفة، فلم يقنت تأدبا معه، وقال أيضا: ربما انحدرنا إلى مذهب أهل العراق (…) وعن أبي يوسف أنه صلى يوم الجمعة مغتسلا من الحمام، وصلى بالناس وتفرقوا، ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام فقال: إذن نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا[51].” وذكر السيوطي عن الماوردي أنه “إذا كان القاضي شافعيا لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل به..[52].”

إن الاجتهاد بصورته الموسعة تلك، وبالتركيز على عوامل الوحدة والتقريب فيه، سيكون بمقدوره من غير شك استيعاب أكبر قدر ممكن من الخلاف الموجود بين اتجاهات الفكر المعاصر ومدارسه، حتى لا تستمر في تكرار نفس التجربة التاريخية للخلاف بين أتباع المذاهب الخارجة عن ورع وتسامح الأئمة الأعلام أنفسهم.

فإذا كان اتجاه التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر يدعو إلى ضرورة “إعادة بناء منهج أصولي جديد للاجتهاد استنباطا من القرآن والسنة، واعتبارا بالتراث واستعانة بالعلم والتجربة المعاصرة لتغطية حاجات الفتوى في قطاعات جليلة من الحياة؛ [إذ] لن يتركز همُّ الفقه كما كان في تنظيم سلوكيات الأفراد، بل سيكون أشد انشغالا بتصور بناء المجتمع إجمالا[53].” فإن هذا يقتضي فيما يقتضي “أصولا واسعة لفقه اجتهاديمعاصر، كالدعوة إلى “القياس الواسعو”الاستصحاب الواسع..الخ، وهذا بدهي إذا ما نظرنا إلى حجم وطبيعة المشكلات المعاصرة المعروضة على الأمة، والتي لا يغني فيها النظر بالمنهج القياسي الأصولي القديم؛ إذ “يلزمنا أن نطور طرائق الفقه الاجتهادي التي يتسع فيها النظر بناءً على النص المحدود، وإذا لجأنا هنا للقياس لتعدية النصوص وتوسيع مداها، فما ينبغي أن يكون ذلك هو القياس بمعاييره التقليدية، فالقياس التقليدي أغلبه لا يستوعب حاجتنا بما غشيه من التضييق انفعالا بمعايير المنطق الصوري..[54]، “فالقياس لابد فيه من نظر حتى نكيفه ونجعله من أدوات نهضتنا الفقهية، وعبارة القياس واسعة جدا تشمل الاعتبار العفوي بالسابقة، وتشمل المعنى الغني الذي تواضع عليه الفقهاء، لكن المجالات الواسعة من الدين لا يكاد يجدي فيها إلا القياس  الفطري الحر..[55].”

وهذا القياس الذي يسميه الكاتب بـ”القياس الواسع” أو “القياس الفطري الحر” أو “القياس الإجمالي” أو “قياس المصالح المرسلة”، “هو درجة أرقى في البحث عن جوهر مناطات الأحكام؛ إذ نأخذ جملة من أحكام الدين منسوبة إلى جملة الواقع الذي تنـزل فيه. ونستنبط من ذلك مصالح عامة ونرتب علاقاتها من حيث الأولوية والترتيب، وبذلك التصور لمصالح الدين نهتدي إلى تنظيم حياتنا بما يوافق الدين، بل يتاح لنا -ملتزمين بتلك المقاصد- أن نوسع صور التدين أضعافا مضاعفة[56]“، “ولربما يجدينا أن نتسع في القياس على الجزئيات لنعتبر الطائفة من النصوص، ونستنبط من جملتها مقصدا معينا من مقاصد الدين أو مصلحة معينة من مصالحه، ثم نتوخى ذلك المقصد حيثما كان في الظروف والحادثات الجديدة..[57].” فهذه، إذن، دعوة واضحة إلى إعادة بناء دليل القياس منهجا وموضوعا، فبدل القياس الجزئي، واقعة غير منصوصة على واقعة منصوصة لعلة جامعة، يتوجه النظر إلى القياس المعتبر للمقاصد والكليات والمصالح العامة.

الهوامش


1. يقول ابن حزم في ذلك: “لا يحل القول بالقياس في الدين ولا بالرأي؛ لأن أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى كتابه وإلى رسوله، صلى الله عليه وسلم، قد صح، فمن رد إلى قياس وإلى تعليل يدعيه أو إلى رأي فقد خالف أمر الله تعالى المعلق بالإيمان ورد إلى غير ما أمر الله تعالى بالرد إليه.” انظر: المحلى، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي، بيروت: دار الآفاق الجديدة، مج1، ج1، ص56. وقال في الإحكام، منشورات دار الآفاق الجديدة ط1، (1400ﻫ/1980م)، ج7، ص55-56، “ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القول بالقياس في الدين جملة (…) وهذا هو قولنا الذي تدين الله تعالى به”. وانظر فيه مناقشته العنيفة لأدلة الجمهور المخالفة له.

2. الحجوي الثعالبي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، اعتنى به أيمن صالح شعبان، ط1، (1416ﻫ/1995م)، دار الكتب العلمية، ج1، ص163.

3. الشاطبي، الموافقات، بيروت: دار المعرفة، شرح الشيخ عبد الله دراز، ج4، ص104.

4. عبد المجيد النجار، فقه التدين فهما وتنـزيلا، كتاب الأمة (22)، 1410، ج 1، ص81.

5. انظر هذه العوامل في: يوسف القرضاوي، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية (مكتبة وهبة) ص152 وما بعدها.

6. انظر هذه المظاهر في: فتحي الدريني، الجمود الفقهي والتعصب المذهبي، ضمن: إشكاليات الفكر الإسلامي المعاصر (سلسلة الفكر الإسلامي المعاصر (1)، ط 1، 1991)، ص129 إلى 137.

7. استند الكاتب هنا على ما ذكره الشاطبي في الموافقات من أن “العموم إذا ثبت فلا يلزم أن يثبت من جهة صيغ العموم فقط، بل له طريقان: أحدهما: الصيغ إذا وردت، وهو المشهور في كلام أهل الأصول. والثاني: استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن “أمر كلي عام” فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ”، واستدل على صحته بالاستقراء والتواتر المعنوي.. الموافقات، ج3، ص298. وانظر فيه عموما المسائل المتعلقة بالعموم والخصوص ( ص260 وما بعدها )، والمسائل المتعلقة بالبيان والإجمال ( ص308 وما بعدها).

8. هناك عوامل أخرى طبعا، لعل أبرزها ابتعاد كثير من علماء وفقهاء الأمة عن التعرض للقضايا السياسية والاجتماعية، إما بإبعاد وتحييد وعزل الحكام  لهم، أو برغبتهم الخاصة في ذلك، وكان هذا مؤثرا على العطاء الفكري في هذه الجوانب، وقد تميزت كتابات العلماء والفقهاء الذين خالطوا وتحملوا مسؤوليات ومناصب، من حيث الجودة وطرح المشكلات العامة عن غيرهم.

9. حسن عبد الله الترابي، تجديد أصول الفقه الإسلامي، الدار السعودية للنشر والتوزيع، ط1، (1404ﻫ/1984م)، ص16، والرسالة منشورة أيضا ضمن كتاب: تجديد الفكر الإسلامي.

10. الترابي، تجديد أصول الفقه، م، س، ص22.

11. الترابي، منهج التشريع الإسلامي، دار الصحوة للنشر والتوزيع، 1990، ص12.

12. الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، الجزائر: دار البعث، قسنطينة، ط1، ص50-51.

13. الترابي، منهج التشريع الإسلامي، م، س، ص31.

14. المرجع نفسه.

15. الجابري، وجهة نظر نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر، المركز الثقافي العربي، ط1، 1992. ص59.

16. الجابري، وجهة نظر، ص66.

17. المرجع نفسه، ص65.

18. المرجع نفسه، ص66.

19. إسماعيل راجي الفاروقي، الاجتهاد والإجماع، مجلة المسلم المعاصر ع 9، (1497ﻫ/1977م)، ص12.

20. المرجع نفسه، ص13-14.

21. المرجع نفسه.

22. القرضاوي، الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، دار الصحوة، ط1، (1406ﻫ/1986م)، ص40‑41. والكاتب في مكان آخر، بسبب الخلاف حول هذه الأصول، كالا ستحسان والمصلحة المرسلة وشرع من قبلنا… بل حتى الإجماع والقياس، يذهب إلى القول بأنه “إذا كان مثل هذا الخلاف واقعا في أصول الفقه، فلا نستطيع أن نوافق الإمام الشاطبي على اعتبار كل مسائل الأصول قطعية، فالقطعي لا يسعه مثل هذا الخلاف ولا يحتمله”. انظر: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية مع نظرات تحليلية في الاجتهاد المعاصر، ط1، (1406ﻫ/1986م)، دار القلم للنشر والتوزيع: ص69.

23. الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، ج1، ص30.

24. المرجع نفسه، ص37.

25. نفسه، ج1، ص39-40.

26. نفسه، ج1، ص37. وانظر في نفس التمييز، أو قريبا منه: حسن الترابي، منهج التشريع الإسلامي؛ إذ ميز بين “الأصول التي هي أمهات معاني الدين” وبين “أصول التفقه في الدين ومناهج تنـزيله على الواقع”..  ص11 وما بعدها. وأيضا أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، (1412ﻫ/1992م)، ص140 (هامش 4)، حيث ذهب إلى أن الخلاف راجع إلى عدم تحرير محل النـزاع،  بين “أصول الأدلة” و”أصول الفقه”.

27. محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، الشركة التونسية للتوزيع، تونس، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، (بدون طبعة أو تاريخ)، ص7-8.

28. انظر، على سبيل المثال، حديثه عن “القصد الأصلي” و”القصد التبعي”، ج1، ص67 من الموافقات. وانظر تعليقا على هذا التمييز عند الشاطبي في، أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، م، س، ص244 وما بعدها.

29. أحمد الريسوني، نظرية المقاصد، م، س، ص292.

30. منير شفيق، النظام الدولي الجديد وخيار المواجهة، الناشر للطباعة والنشر، ط1، (1412ﻫ/1992م)، ص35.

31. يوسف القرضاوي، الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، ط1، (1406ﻫ/1986م)، دار الصحوة ص39.

32. محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، ط2، 1968. القاهرة، مطبعة لجنة ص200-201.

33. علال الفاسي، مقاصد الشريعة ومكارمها، الدار البيضاء: مكتبة الوحدة العربية، ص117.

34. حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، م، س، ص71.

35. انظر تقريرا عن الملتقى (17) للفكر الإسلامي بالجزائر (1403ﻫ/ 1983م)، مجلة المسلم المعاصر، س10، ع38 (1404ﻫ/1984م)، ص187 وما بعدها. وانظر قائمة بأعمال الملتقى ص194 وما بعدها.

36. محمد الغزالي، الاجتهاد الجماعي في العصر الحاضر، (مجلة الدراسات الإسلامية، ع4، مج 18، (1403ﻫ/1983م) ص22-24. وانظر حول أهمية العمل الجماعي عموما كتاب صدر بعد الانتهاء من هذا العمل بقليل حول “الاجتهاد الجماعي في التشريع الإسلامي” لعبد المجيد السوسوه الشرفي، كتاب الأمة (62)، 1418ﻫ.

37. حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، ص79.

38. وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي، دمشق: دار الفكر، ط1، (1406ﻫ/ 1986م)، ج2، ص1077.

39. ابن عاشور، مقاصد الشريعة، ص141.

40. القرضاوي، الفقه الإسلامي، ص39.

41. أحمد الخمليشي، وجهة نظر (أبحاث و مقالات..)، مطبعة النجاح الجديدة، ط1 (1408ﻫ/ 1989م)، ص311،   وانظر تعقيبه على رشيد رضا، ص312.

42. حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، ص29.

43. هناك العديد من أشكال “الاجتهاد الجماعي” القائمة حاليا، وقد يكون بعضها توقف، مثل “مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة” و”المجمع الفقهي بمكة المكرمة” و”مجمع الفقه الإسلامي” المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، والمؤتمرات الفقهية بالرياض (1976-1978م) وندوات الهيئة العلمية لقضايا الزكاة المعاصرة في الكويت، وملتقيات الفكر الإسلامي بالجزائر، وندوات تطبيق الشريعة الإسلامية في ليبيا 1970، الرياض 1978، الكويت 1992.. وغيرها. ويبقى طابع محدودية هذه الأعمال وعدم إلزامها التنفيذي هو الغالب. انظر وهبة الزحيلي، الاجتهاد الفقهي الحديث منطلقاته واتجاهاته، في ندوة: الاجتهاد الفقهي أي دور وأي جديد، كلية الآداب الرباط، ط1، (1416ﻫ/1996م)، ص34-35.

44. انظر تعليق التهانوي على من قيد الإجماع بالشرعي واعتبر أن لا فائدة للإجماع في الأمور الدنيوية والدينية غير الشرعية، كشاف اصطلاحات الفنون، بيروت: دار صادر، ج1، ص238.

45. أحمد الريسوني، نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية، مطبعة مصعب، المغرب، ط1، 1994، ص479 وما بعدها.

46. يوسف القرضاوي، مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، (مكتبة وهبة)، ص273-274. (مع بعض التصرف).

47. محمد الغزالي، تراثنا الفكري بين ميزان الشرع والعقل، دار الشروق، ط2، (1411ﻫ/1991م)، ص 153.

48. محمد الغزالي، الاجتهاد الجماعي في العصر الحاضر (مجلة الدراسات الإسلامية، ع) ص25.

49. محمد الغزالي، قضايا المرأة بين التقاليد الراكضة والوافدة، دار الشروق، ط3، (1412ﻫ/1991م)، ص23.

50. الزركشي، البحر المحيط، تحقيق لجنة من علماء الأزهر، دار الكتب، ط1، (1414ﻫ/1994م). ج8، ص380.

51. أحمد شاه ولي الله الدهلوي، حجة الله البالغة، قدم له وشرحه الشيخ محمد شريف سكر، بيروت: دار إحياء العلوم، ط1، (1410ﻫ/1990م)، ج1، ص456-457.

52. السيوطي، الرد على  من أخلد إلى الأرض، ص167. وانظر أيضا على العموم، الحجوي الفاسي: الفكر السامي، “اقتداء المذاهب بعضهم ببعض”، ج4، ص505.

53. حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، م، س، ص173.

54. المرجع نفسه، ص81-82.

55. المرجع نفسه، ص83.

56. المرجع نفسه، ص84.

57. المرجع نفسه، ص83.

Science

د. سعيد شبار

• أستاذ الفكر الإسلامي والحضارة، والعقيدة والأديان المقارنة، بجامعة السلطان مولاي سليمان، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بني ملال.
• رئيس وحدة التكوين والبحث للسلك الثالث: الفكر الإسلامي وحوار الأديان والحضارات، كلية الآداب بني ملال.
• رئيس مركز دراسات المعرفة والحضارة، كلية الآداب بني ملال.
• رئيس مجموعة البحث في المصطلح، كلية الآداب بني ملال.
• خريج دار الحديث الحسنية، الرباط (1989).
• عضو بالعديد من الجمعيات العلمية والثقافية.
• أستاذ زائر للعديد من الجامعات الوطنية والدولية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق