مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات عامة

الإرشاد إلى تقريب الاعتقاد

إعداد:

الدكتور عبد الله معصر، رئيس مركز دراس بن إسماعيل

الدكتور مولاي إدريس غازي، باحث بمركز دراس بن إسماعيل. 

 

بعد أن بين الشارح الأوصاف الواجبة للرسل عليهم الصلاة والسلام المضمنة في قول ابن عاشر:

 يَجِبُ لِلرُّسْـــلِ الْكِرامِ الصِّدْقُ                    أَمانَةٌ تَبْلِيـــــــــــغُهُمْ يَحِـــقُّ

شرع في بيان ما يستحيل عليهم من الأوصاف التي تضمنها قول الناظم رحمه الله:

مُحـــالٌ الْكَـــذِبُ وَالمَنْهـــــــِىُّ                    كَعَدَمِ التَّبْلِيــــغِ يا ذَكِــــــــيُّ

قال الشارح رحمه الله مبينا مفهوم المنهي ومعنى استحالته على مقام النبوة والرسالة:

(و) محال في حقهم عليهم الصلاة والسلام (المنهي) أي فعل المنهي عنه نهي تحريم أو كراهة، ويشكل عليه أيضا آيات وأحاديث، ولنقتصر على ثلاث آيات، وحديث الأول قوله: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)[الفتح، الآية:2]، قال ابن عباس: معناه إنك غير مؤاخذ بذنب لو كان، فهو أمر تقديري، وفائدة تقديره وتقدير مغفرته أن يجمع له بين أنواع النعمة تشريفا له، لأن النعمة إما أخروية وهي قسمان: سلبية وثبوتية، وإما دنيوية وهي قسمان: دينية دنيوية ودنيوية محضة، وقد أشير في الآية إلى الأنواع الأربعة.

 فالأخروية السلبية هي عدم المؤاخذة بالذنوب، وهي المغفرة المشار لها بقوله:(ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر). والأخروية الثبوتية لا تتناهى أشير إليها بقوله:(ويتم نعمته عليك). والدنيوية الدينية أشير إليها بقوله:(ويهديك صراطا مستقيما). والدنيوية المحضة أشير إليها بقوله:(وينصرك الله  نصرا عزيزا) [الفتح، الآية:2]، ومن ذلك النصر فتح مكة له، قاله التقي السبكي. وبه يظهر وجه تعليل الفتح بقوله:(ليغفر لك) إلى قوله:(عزيزا)، وبيانه قول صاحب الكشاف: “أفيضت عليه سجال الألطاف، فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة، قلت إنما جعل علة لاجتماع الأمور الأربعة وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين” اهـ المراد منه. ومن أحسن ما قيل فيها أيضا أن المراد ذنوب أمته، ولكن لشدة اهتمامه بهم عبر بضميره عنهم، كأنهم نفسه صلى الله عليه وسلم، فهو مجاز مرسل علاقته شدة الارتباط والقرب المعنوي، كما يقال جاء الخليفة والمراد وزيره، ولا تقل على حذف المضاف لفوات هذه النكتة البديعة، فإن قلت كيف يصدق أن الأمة غفر لها ما تقدم وما تأخر مع أن طائفة منها ينفذ فيهم الوعيد ويدخلون النار؟ قلنا الغفران المذكور باعتبار الأعم الأغلب؛ إذ منهم من يدخل الجنة بغير حساب وهم سبعون ألفا مع كل واحد سبعون ألفا، ومنهم من يحاسب حسابا يسيرا ولا يعلم عدده إلا الله، ومنهم من يناقش ثم يعفى عنه ولا يعلم عدده إلا الله، ومنهم من يشفع له فلا يدخل النار بعد أن يستوجبها ولا يعلمهم أيضا إلا الله، وانظر قول مالك خازن النار: يا محمد ما تركت للنار ولغضب ربك في أمتك من بقية، ثم من يلج منهم النار إنما يدخلون الطبقة العليا أي جهنم ولا تحرق مواضع السجود منهم، وقيل معنى الذنب في حقه صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال في ترق دائم، فكلما انتقل من مرتبة لما فوقها رأى في الأولى نقيصة وإن كانت من أكمل الكمال، فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، وعلى هذا يحمل قوله في حديث أبي هريرة: “إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة”، وفي رواية: “أكثر من مائة مرة”.

 الآية الثانية: قوله تعالى في حق يوسف وامرأة العزيز:(ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه)[يوسف، الآية:24]، وأحسن ما قيل فيها قول العلامة ابن زكري: “إن الباء في الموضعين سببية، و”هَمَّ” بمعنى حزن، والمعنى ولقد حزنت بسببه وأصابها الهم من أجله حين لم يطاوعها على مرادها، وحزن وأصابه الهم بسببها لما لها عليه من اليد والسطوة، فخاف أن تبالغ في نكاله أو تنسبه إلى العار، كخوف موسى المذكور في:( ففررت منكم لما خفتكم)[الشعراء، الآية:21] (فخرج منها خائفا يترقب)[ القصص، الآية:21]، فيكون قوله: (وهم بها)، معطوف على:(وهمت به) كما هو ظاهر اللفظ، وقوله:(لولا أن رأى برهان ربه) ابتداء كلام وهو شرط حذف جوابه، أي لولا ان استحضر ما أوحي إليه من نجاته وكون العاقبة له لَلاَزَمه الحزن، لكن تذكر ذلك فسري عنه، ويؤيد هذا التعبير في جانبها بالهم مع أن الذي كان عندها التصميم والعزم الذي هو أقوى، وأما قوله:( وإلا تصرف عني كيدهن)[ يوسف، الآية: 33] الآية، فهو كقوله:(وما أبرئ نفسي)[ يوسف، الآية:53]؛ تبرؤ من الحول والقوة إلى الله ورجوع إلى العصمة واعتماد عليه” اهـ.

 الآية الثالثة: قوله تعالى:( فوكزه موسى فقضى عليه)[القصص، الآية: 15]، وذلك أن موسى عليه السلام وجد قبطيا يقاتل إسرائيليا، يريد القبطي أن يحمل على الإسرائيلي حطبا إلى مطبخ فرعون، فامتنع الإسرلئيلي واستغاث بموسى، فقال موسى: خل سبيله فأبى وقال: لقد هممت أن أحمله عليك فوكزه موسى أي ضربه بمجمع كفه، وقيل الوكز الضرب في الصدر، وكان موسى شديد البطش والقوة فقضى عليه أي قتله فندم، وقال هذا من عمل الشيطان، قال النقاش: لم يتعمد قتله وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه. وقال قتادة وكزه بالعصا ولم يتعمد قتله. فظهر أن لا معصية في ذلك، لكن لما آل إلى النفس استعظمه وقال: هذا من عمل الشيطان، وقال: (رب إني ظلمت نفسي) [القصص، الآية:16]. وقال ابن جريج: قال ذلك من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وهو وإن لم يؤاخذ بذلك فلا يزال به حياء من أجله حتى يقول يوم القيامة إذا سئلت منه الشفاعة إني قد قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي. ثم سياق السورة يدل على أن هذا كان قبل نبوته، والحديث ما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعا أن ملك الموت أرسل إلى موسى فقال: أجب ربك، وكان ملك الموت يأتي الناس عيانا فصكه ففقأ عينه، فرجع الملك إلى الله تعالى فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وقد فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لفقأت عينه، فرد الله إليه عينه، قال: ارجع إلي عبدي فقل له إن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: ثم مه، قال: ثم تموت، قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال صلى الله عليه وسلم: لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر، فشمه شمة فقبض روحه، وكان يأتي الناس خفية بعد ذلك. وروي أنه أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فمات. قال ابن خزيمة: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وقالوا إن عرفه فقد استخف به، وإن لم يعرفه فكيف لم يقتص له منه، وأجاب أئمتنا بأنه لم يعرفه كما لم يعرف إبراهيم ولوط الملائكة إذ جاءوهما في صورة الآدميين، ولو عرفهم إبراهيم لما قدم إليهم المأكول، ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه، وإنما لطمه لأنه ظن أنه رجل أتاه يريد قتله فدفعه عن نفسه، فأدت المدافعة إلى فقأ العين، ويجوز أن يدفع الإنسان عن نفسه وإن أدت المدافعة إلى القتل، فكيف بفقأ العين. وأما قوله أجب ربك فلا يعرفه بمجرده أنه ملك، لاسيما والملك لم يخيره، وقد ثبت أنه لا يقبض نبي حتى يخير، والظاهر أن موسى كان عالما بذلك، ثم لما رد الله عين ملك الموت وجاءه ثانيا مخيرا على عادة الله مع أنبيائه، عرف برد العين والتخيير أنه ملك الموت فاستسلم، وأما أنه لما لم يعرفه فلم يقتص له منه فلأن موسى مدافع عن نفسه كما مر، ومن أين لذلك المبتدع مشروعية القصاص من موسى فلم يقتص. 

شرح العالم العلامة البحر الفهامة شيخ الشيوخ

 سيدي محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المولود سنة 1172هـ المتوفى بمدينة فاس 17 محرم سنة 1227

 على توحيد العالم الماهر سيدي عبد الواحد بن عاشر قدس الله سرهما آمين.

 ص: 98-99-100.

(طبع على نفقة الحاج عبد الهادي بن المكي التازي التاجر بالفحامين)

مطبعة التوفيق الأدبية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق