مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

أخلاق الرحمة والعمل الشريف في سبيل التنمية

اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في مرحلة فتوته، وكان همه مساعدة عمه أبي طالب الذي كان كثير العيال، قليل الزاد، ولم يكن أبدا عبئا على أحد أو ينتظر المساعدة واستنجاد الآخرين، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم عزيز النفس، قوي الإرادة، مستشعرا روح المسؤولية الملقاة على عاتقه وهو لا يزال يافعا، لذلك ارتضى أن يعمل ويجتهد في سبيل اكتساب الرزق وتحصيل القوت، والتأمل في جمال الكون وفسحة الطبيعة.

 أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على رعي الغنم لأهل مكة على قراريط، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم) فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: (نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).[1]

ومن المعاني الجليلة التي يحملها هذا الحديث المبارك ما ذكره الشيخ عبد القادر السندي وهي:

  • فضيلة هذا الحيوان. (أي الغنم)
  • فضيلة الكسب باليد.
  • أن في لبن الغنم شفاء من عدة أمراض، كما حكى لي عدة أطباء، وهم متخصصون في الأمراض الباطنية.
  • فضيلة الصبر على تحمل المشقة في سبيل الدعوة الإسلامية، وتمرين الدعاة أنفسهم قبل الشروع في العمل الدعوي؛ لأن هذا الحيوان كثير التفرق، والجمع بينه أمر صعب.
  • حمل مشقة النبوة والدعوة إلى الخير أمرٌ مهم جداً.
  • فضيلة العلم الصحيح، ودراسته، وتعلمه أمر ضروري جداً لكل داع ومرشد ومربي.
  • تربية الأولاد والزوجة أو الأزواج وفق منهج النبوة والرسالة أمر واجب من أوجب الواجبات.
  • فضل بعثة الدعاة المخلصين إلى أقطار العالم للتوجيه والإرشاد.
  • فضيلة السؤال عما لا يعلم الإنسان من أمر دينه.
  • الواجب على المسئول أن يجيب السائل بما عنده من علم بالجواب الصحيح لكي يعمل به السائل.
  • لا حرج على السائل إذا كان لم يستعمل الأسلوب المناسب الذي فيه تعظيم المسئول (إذا قال واحد منهم: أنت؟ دون أن يلقبه برسول الله).
  • و لا حرج في استعمال لفظ الجمع من قبل السائل؛ كما هنا، إذ جاء فيه: فقال أصحابه، مع أن السائل كان واحداً، ولا يجوز أبداً أن يتكلم هؤلاء الأصحاب جميعاً عند توجيه السؤال لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
  • ولا بأس أن يزيد المسئول في جوابه بعض الكلمات الزائدة، كما هنا.
  • إثبات تواضع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا النص.
  • إثبات لزوم الحلم للدعاة والمرشدين؛ فيجب عليهم أن يتعاطوه في جميع تصرفاتهم.
  • يجب على ولاة الأمور أن يوصوا الدعاة بالحلم والحكمة، ثم يرسلوهم إلى الأقطار.
  • إن الدعي إذا كان غليظ القلب، شديد الكلام، فإنه يضر أكثر مما سيفيد.
  • الصدق في كلام الداعية، ولو أدى ذلك إلى سقوط منزلته، وظهور حقيقته أمام الخلائق، إذا كان ذاك الشيء في الظاهر يؤدي إلى نقص منزلة الدعاة.
  • حذف الألقاب التي قد تحملها الناس بالحق أو بدونه.
  • شدة رعي الغنم، وصعوبة تربيته دون غيره من الحيون.
  • رغبة شديدة ودعوة صريحة إلى أن يمتلك المسلم هذا النوع من الحيوان.
  • إن صحة الإنسان وعافيته مطلوبة عند الشرع الشريف، وإن طلبه مشروع ومحبوب.
  • ثبوت ضعف طبيعة هذا الحيوان بالنسبة إلى غيره، ثم الرعاية به حق واجب من ناحية الطعام والمياه، ووضعه في موقع مناسب شتاءً وصيفاً، لئلا يتأذى بما يصيبه من كوارث طبيعية وغيرها.
  • وجوب تدريب الدعاة علماً وخلقاً وسلوكاً وعقيدة، ثم إرسالهم حسب ظروف البلاد والأمكنة.
    وإن هناك مسائل أخرى كثيرة، يحملها هذا النص في طياته، مع تلك الزيادة المهمة المروية عند الآخرين من النقاد الأمجاد لهذا النص[2].

يمكن إجمال الحكمة من رعي الغنم فيما يلي:

 أولا: التدريب على أخلاق الرحمة والشفقة والحلم والصبر والتواضع، يقول ابن حجر في الفتح: “قال العلماء الحكمة في إلهام الأنبياء من رعي الغنم قبل النبوة أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم الحلم والشفقة لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى ونقلها من مسرح إلى مسرح ودفع عدوها من سبُع وغيره كالسارق وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما يحصل لهم من التدريج على ذلك رعي الغنم، (…) وفي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بعد أن عُلم كونه أكرم الخلق على الله، ما كان عليه من عظيم التواضع لربه، والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء).[3]

ثانيا: البر في المعاملة: فرعي النبي صلى الله عليه وسلم فيه من بر المعاملة، وحب التعاون، مع العلم أن عمه قد وفر له سبل العناية وكان له نعم الأب في المعاملة، “ولكنه صلى الله عليه وسلم ما إن آنس في نفسه القدرة على الكسب حتى أقبل يكتسب، ويجهد جهده لرفع بعض ما يمكن رفعه من مؤونة الإنفاق عن عمه. وربما كانت الفائدة التي يجنيها من وراء عمله الذي اختاره الله له، فائدة قليلة غير ذات أهمية بالنسبة لعمه أبي طالب، ولكنه على كلّ تعبير أخلاقي رفيع عن الشكر، وبذل للوسع، وشهامة في الطبع، وبرّ في المعاملة”.[4] فهذه الأخلاق الرفيعة للنبي صلى الله عليه وسلم تعلمنا ضرورة الإسهام ولو بقسط صغير يمكّن الفرد -خصوصا الشباب- من إظهار عفته، ويتنزه عن الاتكال والسلبية داخل أسرته ومجتمعه، فالشباب في مجتمعنا المعاصر عليه أن لا ينتظر العون أو يُطالب به، بل عليه أن يكد ويجتهد، ويبحث عن طرق الكسب الحلال، ليعين به نفسه وأسرته ويعود بالنفع على مجتمعه.

ثالثا: اتخاذ الأسباب: قصة رعي النبي صلى الله عليه وسلم للغنم تعلمنا أن اتخاذ الأسباب أمر لابد منه في هذه الحياة، وأن العناية الربانية التي أحاطت بالنبي صلى الله عليه وسلم كانت ستغنيه عن الكد والاجتهاد والعمل الدؤوب في سبيل تحصيل الرزق، وتوفر له كل سبل الرفاهية والراحة،  “ولكن الحكمة الإلهية تقتضي منا أن نعلم أن خير مال الإنسان ما اكتسبه بكد يمينه ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه وبني جنسه، وشر المال ما أصابه الإنسان وهو مستلق على ظهره دون أن يرى أي تعب في سبيله، ودون أن يبذل أي فائدة للمجتمع في مقابله”.[5]

رابعا: أن على صاحب أي دعوة أن لا يجعل من دعوته مطية لنيل حطام الدنيا من الناس، فهو الأولى بعدم التهافت على الدنيا واستغلال مكانته ونفوذه في سبيل الكسب غير المشروع من دعوته، حتى لا يقع في ذل السؤال ولا تكون عليه لأحد من الناس منة وفضل، فيكون تبعا لما يمليه عليه ذوي النفوذ والمال، وبالتالي لا تكون لدعوته أي أثر إيجابي في الحياة.

وقصة رعي النبي صلى الله عليه وسلم للغنم، فيه تنبيه لهذا المعنى الدقيق “وإن لم يكن قد خطر في بال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة، إذ إنه لم يكن يعلم بما سيوكل إليه من شأن الدعوة والرسالة الإلهية، غير أن هذا المنهج الذي هيأه الله له ينطوي على هذه الحكمة، ويوضح أن الله تعالى قد أراد أن لا يكون في شيء من حياة الرسول قبل البعثة ما يعرقل سبيل دعوته أو يؤثر عليها أي تأثير سلبي، فيما بعد البعثة.[6]

[1] صحيح البخاري، كتاب: الإجارة، باب: استئجار الرجل الصالح، رقم الحديث: 2263.

[2] إستدراكات وملاحظات حول كثير مما وقع فيه الدكتور أكرم العمري في كتابه المزعوم بالسيرة النبوية الصحيحة، عبد القادر بن حبيب الله السندي، الطبعة: الأولى، 1416هـ، من الصفحة: 56 إلى 59.

[3] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852هـ) تحقيق: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رقم كتبها وأبوابها وأحاديثها: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، مصر، سنة الطبع: 1424هـ/2004م. 4/ 507.

[4] فقه السيرة النبوية، البوطي، 50.

[5] المرجع السابق نفسه.

[6] فقه السيرة النبوية، البوطي، 50.

Science

د.مصطفى بوزغيبة

باحث بمركز الإمام الجنيد التابع للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق