وحدة المملكة المغربية علم وعمرانأعلام

أبو يعزي يلنور

د. جمال بامي

 مدير وحدة العلم والعمران بالمغرب

في منطقة تاغيا بالأطلس المتوسط المغربي بين أبي الجعد وخنيفرة يرقد عارف كبير وشيخ جليل يعرف عند العامة باسم مولاي بوعزة، وهو الاسم الذي تعرف به البلدة دون غيره من الأسماء الجغرافية.. يتعلق الأمر بالشيخ الصوفي الشهير أبي يعزى يلنور الذي عاش في أواخر الحكم المرابطي وعاصر الموحدين لفترة طويلة وعَمر أكثر من مائة سنة..

يقول العباس بن إبراهيم المراكشي صاحب “الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام” عن مولاي بوعزة : “أبو يعزى يلنور بن ميمون، وقيل ابن عبد الله وقيل بن ميمون بن عبد الله بن عبد الرحمان. وقيل أنه أبو يعزى عبد الله بن عبد الرحمان بن ميمون الدكالي الهزميري”.  ويقول ابن الزيات التادلي في كتابه “التشوف إلى رجال التصوف” عن العارف أبي يعزى أنه: “من هزميرة إيروجان من بني صبيح من هسكورة “.

ويعرف الأستاذ إبراهيم حركات  صاحبنا أبي يعزى في كتابه المغرب عبر التاريخ (الجزء الأول) بقوله: “بربري من مصمودة ولد بناحية دمنات، وكان طويل القامة نحيفا أسود اللون”، أما المؤرخ المرحوم عبد الوهاب بن منصور فيقول في كتابه أعلام المغرب العربي: هو “أبو يعزى بن ميمون الهسكوري من صلاح المغرب المشاهير، اسمه يلنور، وأصله من هزميرة، وقيل من بني صبيح بطن من قبيلة هسكورة. اشتهر عند الخاصة بكنية أبي يعزى وعند العامة بأبي عزة، وهم يدعونه مولاي بوعزة على سبيل التعظيم”.

وقد خص الإمام أبو العباس العزفي أبا يعزى بتأليف ضمنه أخباره ومناقبه سماه “دعامة اليقين في زعامة المتقين”، وخصه كذلك الإمام أبو العباس أحمد الصومعي صاحب زاوية الصومعة ببني ملال بتأليف مشهور سماه “المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى” وقد طبع سنة 1996 بتحقيق الأستاذ علي الجاوي.

يقول الأستاذ  أحمد التوفيق  في مقاله “التاريخ وأدب المناقب من خلال مناقب أبي يعزى”(ضمن كتاب التاريخ وأدب المناقب: منشورات الجمعية المغربية للبحث التاريخي، 1989): “فأبو يعزى، من نصوص مناقبه، ومن خلال غيرها، شخص تاريخي يحمل كنية صيغتها، بدخول “أبو” عليها، عربية، مما انتشر من صيغ الكنى العربية بالمغرب في ذلك العهد الموحدي(…)، أما الياء في أول “يعزى” فتحتها كسر، أصلا، لتخفيف همزة تحتها كسر في “إعزا” وهو العزيز، فأبو يعزى هو أبو العزيز اجتهد فيها معاصروه، وأضافوا لاسمه الذي هو يلنور “إلا النور” أي: أبو النور أو ذو النور أو النوري، وقد كني شيخ شيخه وهو عبد الله بن واكريس المدفون في وسط دكالة  بأبي النور وتنطقه العامة فيها “سيدي بنور”. أما لقب أبو يعزى عند نزوله من الجبل إلى الساحل الذي بين آسفي وبين أزمور حيث خدم أبا شعيب السارية أي في مرحلة الطلب والذل والخدمة قبل الشهرة، فهو “بو كرتيل” أي صاحب الحصير، تعييرا، والظاهر أن كنيته واسمه اللامعين: “أبو يعزى يلنور” متأخران عن تلك المرحلة الرثة.

فهل كان اسمه “يلنور” ضربا من سوابق الأقدار أو كان له اسم آخر نسخ به قبل أن تلوح عليه الأنوار؟ وما هو؟ أسئلة تتيحها نصوص مناقب أبي يعزى لأنها إذ تقدم “الزينة” (أبو يعزى يلنور) ونقيضها (بوكرتيل) تبريرا أو تمريرا لا يمكن أن تنفي التناقض الذي يفرضه الترتيب المنطقي في زمن التاريخ…”.

وتسمية بوكرتيل  التي سبقت “أبي يعزى يلنور” حسب ما استنتجه الأستاذ أحمد التوفيق وردت عند ابن الزيات التادلي في “التشوف” الذي نقل روايات تقول أن أبا يعزى كان يقول: “أقمت عشرين سنة في الجبال المشرفة على تينمل وليس بها إلا اسم أبو جرتيل (بوكرتيل) ومعناه بالعربية صاحب الحصير.ثم انحدرت إلى السواحل فأقمت بها ثمانية عشر عاما لا اسم لي بها إلا أبو ولنكوط؛ وهو نبات معروف يأكله”..

يذكر أبو القاسم الصومعي في “المعزى” أن أبا يعزى لقي أبا شعيب السارية  وخدمه وأخذ عنه طريق القوم، كما لقي الإمام أبي عبد الله أمغار وأبي موسى عيسى إيغور، ويضيف الصومعي في” المعزى” عن تلاميذ أبي يعزى:”واعلم عن هذا الإمام أن الأئمة الذين  أخذوا عنه وظهرت عليهم عنايته وأشرقت لهم أسراره فانتفعوا به أكثر من أن يحصى عددهم والمشهور منهم جماعة. فأكبرهم قدرا وأفخمهم أمرا الشيخ العارف بالله الصديق الأكبر أبو مدين شعيب بن الحسين الأنصاري (أبو مدين الغوث) أصله من حصن قطيانة من عمل اشبيلية، ثم نزل بجاية وأقام بها إلى أن أمر بإشخاصه إلى حضرة مراكش (في زمن المنصور الموحدي) فمات وهو متوجه إليها”، ومن تلاميذ أبي يعزى أبو محمد يسكر بن موسى الجراوي وترجمته في “التشوف”، ومن أصحاب الشيخ  أبي يعزى أبو زكرياء يحي بن محمد بن صالح المزطاوي من بلد هسكورة تلميذ أبو عبد الله بن أمغار، ومن أصحابه أيضا أبو يلبخت ياللتن الأسود كان بجبل دمنات من جبل هسكورة، ومن أصحاب الشيخ وتلامذته  أبو يحلوا الصديني من أهل تادلا، ومنهم أبو الصبر أيوب الفهري السبتي، مات شهيدا في وقعة العقاب الشهيرة التي انهزم فيها الموحدون (زمن الناصر ابن المنصور)، ومنهم أبو علي مالك بن تامجورت من بلد نفيس.. ومن أصحاب الشيخ أبي يعزى ولده الولي الصالح أبو علي يعزى المدفون “بإم انتمد” موضع اسمه بالعربية “فم الكلتة” من عمل مراكش.. هذا ملخص ما أورده أبو القاسم الصومعي عن تلاميذ وأصحاب أبي يعزى في كتابه “المعزى”..

يذكر المؤرخ الفقيه العباس بن إبراهيم في “الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام” عن أبي يعزى: “وذكروا أنه في ابتداء أمره كان راعيا، وكان يصنع له واحد من أرباب المواشي التي يرعاها رغيفين كل يوم. فكان يأكل رغيفا واحدا ويؤثر بالرغيف الثاني رجلا منقطعا في المسجد لقراءة القرآن. فانقطع في المسجد رجل آخر فدفع له الرغيف الثاني، وجعل يأكل من نبات الأرض، فلما رأى أنه يكفيه النبات عن الطعام قال: ما أصنع بأكل الطعام ونبات الأرض يغنيني..”

وقد كنت ذكرت في مقالي حول أبي عبد الله أمغار مسألة “طعام الكون” أو ما يمكن أن نصطلح عليه اليوم “الغذاء الطبيعي” أو “الغذاء البيولوجي”، وها نحن نرى نموذجا صوفيا آخر كان يقتات من “طعام الكون” إلى درجة ارتباط اسمه باسم نبتة “ولنكوط”..  ويذكر الشيخ أبو العباس أحمد الصومعي في “المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى” أن نبات ولنكوط أو أبو لكوط معروف عند العامة بفول أمازير والمازير بلغة الفلاحين، هو الروث الذي تخصب به التربة..

يقف الأستاذ أحمد التوفيق عند هذه القضية في مقاله سابق الذكر إذ يقول: “بيد أنه قد لا يحمل على “الفطرة” الشرعية ولا على التأصيل أو على لدنية ما أن يمتنع أبو يعزى عن أكل “الطيبات” من الطعام، ويقتصر في غذائه على أشياء من الحشيش، وعلى أمرها من أوراق الدفلى، وما يهيأ له من لبلاب ومن أقراص دقيق البلوط ومن الخبازى. جانب من رياضات زهاد الشرق النباتيين؟ إن بسط الشرح في جانب “نباتيته” يتطلب من غير شك، تفكيك ما ورد من أوصاف سلوك شيوخه وسلوك من في سنده من المعاصرين بالمغرب والمشرق. ولا يجوز مع ذلك إنكار كل جانب خلاق للبيئة الخاصة عند متصوفة المغرب، ولا مبرر لحصر النظر في تفسير انتشاري  explication diffusionniste، إذ أن كونية المنازع الصوفية آتية، على ما يبدو، من إمكان الانطلاق الفطري من كليات مشتركة ما، أما التفسير القصدي المنطقي فقد يوحي بهذا التساؤل: فأي طعام هو أليق بمن يطعم الطعام؟ أن يؤثر الواردين عليه ويعاملهم مع ذلك على مراتب: العسل ولحم الضأن والدجاج للمؤلفة قلوبهم أو المتطلعين من مشككة الحضريين المتهالكين على العيش الناعم، وخشن كسكسون الشعير لمن عرفوا ما طلبوا فهان عليهم ما وجدوا” وقد أدرجت هنا نص الأستاذ التوفيق على طوله باعتباره قراءة أخرى لاكتفاء أبي يعزى بطعام الطبيعة و “نباتيته” مستنتجا أن “الإطعام إحدى الوظائف التي كان فيها أبو يعزى مؤسسا، وبه اقتدى من السلسلة المغربية مرابطو القبائل”.. وهذه قيمة مضافة أخرى تضاف إلى سجل هذا الرجل الفاضل الحافل بالخير والصلاح.. وأريد أن أشير هنا أن نبات “الدفلى” الذي قيل أن أبا يعزى كان يأكله، نبات سام بإجماع العلماء، ويستعمل فقط للعلاج بجرعات جد قليلة ويستعمل خارجيا ضد أمراض الجلد والشعر، فلا ينبغي تقليد أبي يعزى في أكل الدفلى، أما الأعشاب الأخرى فلا إشكال فيها..

وقد أطال مترجمو أبي يعزى في ذكر كراماته ومناقبه منهم ابن الزيات صاحب “التشوف” والتميمي صاحب “المستفاد” وخصوصا العزفي في “دعامة اليقين” والصومعي في “المعزى” منها انفعال الطبيعة له وإبراؤه الأمراض العضوية والنفسية، وتوقير الوحوش الضارية له.. إلا أن الأستاذ أحمد التوفيق يعلق تعليقا مفيدا على المسألة  في مقاله سابق الذكر بقوله: “إن مغزى الكرامات ومعناها موضوع مباحث الرموز والدلالات، ولكن أثر إشاعة أخبارها جانب مهم من التاريخ، فالعناصر الموظفة في بناء كرامات أبي يعزى، ما عدا الجن، عناصر محسوسة تاريخية، وشهرته التي بنيت على تلك الكرامات واقع تاريخي، ومشيخة أبي يعزى حلقة أساسية في التاريخ الديني-الاجتماعي- السياسي للمغرب، ولا يتصور إنكار دور الكرامة في صنعه”..

يروي ابن الزيات التادلي في “التشوف” أن أبا يعزى قدم إلى مراكش بعد سنة 541 للهجرة “فحبس في صومعة الجامع أياما ثم خلي سبيله”؟ ترى ما الذي جعل عبد المؤمن بن علي الكومي الموحدي يمتحن الشيخ أبي يعزى ويسجنه مدة من الزمن قبل أن يخلي سبيله؟ لا شك أن اعتقاد الناس في ولايته ومهمته الرسالية الساعية إلى إدماج الجماهير في “التوبة الإسلامية” ودوره الاجتماعي في وسط القبائل وأدواره التحكيمية التي خلقت توترا مع الفقهاء والحكام إضافة إلى تأثير الشيخ أبي يعزى الكبير على امتداد بلاد المغرب والأندلس عبر مريديه وتلاميذه الذين ذكرهم ابن الزيات والعزفي والصومعي.. ويبدو أن عبد المؤمن بن علي الكومي، وهو يثبت أركان الدولة الموحدية أصر على امتحان أبي يعزى للتأكد من “ولائه”، ولقد توقف العزفي كثيرا عند هذا الحدث، وهو القريب من البلاط الموحدي، ليخلص أن أبا يعزى كان يدعو بالسمع والطاعة لأولي الأمر… فمهمته كانت أكبر بكثير من الانشغال “بالسياسة” فلقد كان مسكونا بهاجسين أكبر بكثير من “السياسة” وهما هاجس الطبيعة وهاجس الدعوة..

يقول الأستاذ التوفيق في دراسته “التاريخ وأدب المناقب من خلال مناقب أبي يعزى (ضمن كتاب التاريخ وأدب المناقب: منشورات الجمعية المغربية للبحث التاريخي 1989): “فأي بركان هذا الذي تفجر في جبل إيروجان؟ ظاهرة عظمى تشرح بتدبرها غوامض قاموس بأكمله: ما الفناء عن الشهوات وما الغياب عن الذات وما الرؤيا وما التجلي، وكيف يمحق الخلق بحضور الخالق، وكيف تذوب الطبيعة في همة الإنسان. ألم ينهر أبو يعزى زائرا سوسيا جاء وبيده قصبة من بلده وأمره بردها إلى منبتها؟ فلكأنه يسمع أنينها!  ففي أي ظرف تاريخي يظهر حماة هذا الرأي الذي نسميه اليوم بالبيئة؟

رحم الله أبا يعزى يلنور الذي توفي عن عمر يناهز مائة وثلاثين سنة في شوال عام 572 للهجرة حسبما حققه المؤرخ المرحوم عبد الوهاب بن منصور في أعلام المغرب العربي..

والله الموفق للخير والمعين عليه..

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق